خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلام أو "صفقة القرن" لم تأتِ بجديد في الواقع، سوى أنها محاولة لإضفاء الشرعية على الاحتلال القائم بالفعل للأراضي الفلسطينية بموافقة الدول العربية الفاعلة، والسؤال الآن: هو ماذا يمكن أن يحدث على الأرض ما أن تبدأ إسرائيل التنفيذ؟
موقع ستراتفور الأمريكي نشر تقريراً اليوم الأربعاء 29 يناير/كانون الثاني بعنوان: "خطة السلام التي عرضها ترامب تُقدِّم حلَّ دولتين نظرياً فقط"، ألقى الضوء على سيناريوهات التنفيذ المحتملة.
انحياز مطلق لإسرائيل
قد يبدو أنَّ خطة السلام الفلسطيني الإسرائيلي -التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمس الثلاثاء 28 يناير/كانون الثاني 2020 بعد انتظارٍ طويل- تحاول إرضاء الطرفين، لكنَّها في الواقع أقرب إلى حلِّ دولةٍ واحدة يستتر خلف قناع حل الدولتين. إذ تنحاز الخطة بشدة إلى المطالب الإسرائيلية، وتتجاهل إدراج المطالب الفلسطينية في معظم بنودها. ومن ثَمَّ، يُمكن القول إنها ليست خطة سلام بقدر ما هي شرعنة للوضع الراهن، الذي تُعَد فيه إسرائيل الطرف الأقوى في المفاوضات المستمرة منذ عقود. وربما يكون توقيت إعلان الخطة بمثابة دعمٍ انتخابي لترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فكلاهما يواجه تحدياتٍ سياسية في مساعيه إلى إعادة انتخابه في العام الجاري 2020، لا سيما أنَّ الحكومة الإسرائيلية أوضحت أمس انَّها تعتزم الشروع سريعاً في ضمِّ الأراضي التي تقترح الخطة ضمها.
الصورة العامة
لطالما كان الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي قضيةً حاسمة سبَّبت عدم الاستقرار والنزاعات في الشرق الأوسط، وقد سعى كل رئيسٍ أمريكي إلى وضع بصمته على القضية واستئناف المفاوضات الراكدة، وهذا ما فعله ترامب أيضاً. لكنَّ خطة ترامب تختلف عن سابقاتها بالانحياز الشديد إلى المسار المستقبلي المُفضَّل لدى إسرائيل. ومن ثَمَّ، فهي تُضعِف احتمالية تحقيق السلام على المدى القريب، وتُجبر القوى الإقليمية على تعديل كيفية دعمها للقضية الفلسطينية.
ويبدو أنَّ خطة ترامب ترتكز على الأسس المألوفة لمفاوضات السلام السابقة وتتماشى مع بعض النقاط التي طلبها مفاوضون فلسطينيون سابقون ووافقوا عليها في المحادثات التي جرت في العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي. وتتضمَّن هذه الأسس رؤيةً لإقامة دولتين، مع اعتبار القدس عاصمةً لكلتيهما، لكنَّ خطة ترامب لا يبدو أنَّها تضع العاصمة الفلسطينية داخل الحدود التقليدية لمدينة القدس. ويبدو كذلك أنَّ الخطة تمنح الفلسطينيين مساحةً أكبر من الأراضي ممَّا يمتلكونها حالياً، وتُجمِّد النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في أثناء إجراء المفاوضات. وتشمل أيضاً العديد من التنازلات الاقتصادية للفلسطينيين في شكل مِنح وقروض ومساعدات تصل إلى 50 مليار دولار إذا امتثلوا لشروط الخطة، التي تتضمَّن التخلي عن النضال من أجل الحصول على مزيدٍ من الأراضي.
ومع أنَّ الوعود التي تقدمها الخطة قد تبدو إيجابيةً لكلا الطرفين نظرياً، فهي في الواقع ليست فعَّالةً بالنسبة للفلسطينيين وبعض الإسرائيليين، وتعد بمثابة سعيٍ أمريكي إلى دفع الطرفين نحو حل الدولة الواحدة بإطالة الوضع الراهن. إذ إنَّ تبنِّي الخطة لحل الدولتين، ولو نظرياً على الأقل، سيُخيِّب أمل الإسرائيليين الذين يفضلون ضم كل الأراضي الفلسطينية. أمَّا بالنسبة للفلسطينيين، فتقترح الخطة تبادلاً للأراضي من شأنه أن يمنحهم مساحةً عامة أكبر من تلك التي يسيطرون عليها حالياً، لكنَّه يشمل التنازل عن بعض الأراضي الصالحة للزراعة مثل وادي نهر الأردن، الذي تُعطي الخطة إسرائيل الحق في ضمِّه، مقابل الحصول على أراضٍ صحراوية. ولا تتضمَّن الخطة كذلك بنداً لإعادة اللاجئين إلى الأراضي الإسرائيلية.
وعلاوة على ذلك، فليس من الواضح مَن الذي سيُموِّل الخطة في نهاية المطاف، بما في ذلك التنازلات الاقتصادية التي وعدت بتقديمها للفلسطينيين، مع أنَّ إدارة ترامب طلبت المساعدة من بعض دول الخليج العربية الثرية. ومن جانبها رفضت جميع الجماعات السياسية الفلسطينية الخطة من البداية، وستأمل في الاعتماد على دعمٍ دبلوماسي خارجي من بعض دول الخليج العربي والاتحاد الأوروبي وروسيا للمساعدة في تأخير أي تحرُّكاتٍ إسرائيلية نحو تنفيذ بنود الخطة، وكل ذلك في الوقت الذي تأمل فيه القيادة الفلسطينية أن تسفر الانتخابات الرئاسية الأمريكية والانتخابات العامة الإسرائيلية المقرر إجراؤهما في العام الجاري عن شركاء أكثر وديةً في التفاوض. ولكن بينما ينتظرون الانتخابات، قد تتفاقم الأوضاع الاقتصادية والأمنية الفلسطينية، التي تتأجَّج بالفعل على نحوٍ غير مستقر.
المخاطر الفورية والآثار على المدى القريب
قد تواجه الخطة ردَّ فعلٍ سياسياً حاداً، وقد يكون عنيفاً، من الجماعات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا يتوقف على مدى سرعة تحرُّك إسرائيل نحو تنفيذ بعض بنودها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ البيت الأبيض يضغط على إسرائيل لتنفيذ بعض بنود الخطة في غضون ستة أسابيع. وفي أسوأ السيناريوهات للقادة الفلسطينيين الذين يرغبون في وضع حدٍّ لضم الأراضي، فإنَّ خطة ترامب ستكون مُجرَّد ذريعةٍ لإسرائيل كي تمضي قُدُماً في ضم بعض أجزاء الضفة الغربية فور اتهام الفلسطينيين بأنَّهم يعرقلون مساعي السلام إذا لم يوافقوا على تنفيذ الخطة، بل إنَّ نتنياهو أعلن أمس أنَّه سيمضي قدماً في ضم وادي نهر الأردن ومستوطنات الضفة الغربية الأخرى في الأسبوع المقبل.
وصحيحٌ أنَّ القيادة الفلسطينية سترغب في التصدَّي للخطة، لكنَّ قدرتها على ذلك محدودة، لا سيما أنَّ الفصائل السياسية الفلسطينية تحاول الحفاظ على الدعم الذي تحظى به بين بعض دول الخليج العربي وتركيا، التي لن تدعم أيّ منها العنف المباشر ضد إسرائيل، لكنَّها من المرجح أن تغض الطرف عن المظاهرات الشعبية التي ستندلع في الضفة الغربية وقطاع غزة ضد الخطة، والتي قد تتحول إلى أعمال عنف.
وهناك كذلك تأثيراتٌ على المدى القصير على المجالين السياسيين الإسرائيلي والفلسطيني أيضاً. إذ يُمكن أن تُقدِّم الخطة دفعةً صغيرة لنتنياهو أو منافسه بيني غانتس في الانتخابات الإسرائيلية المقرر إجراؤها في 2 مارس/آذار 2020، وستساعد ترامب أيضاً على كسب دعم الجزء المؤيد لإسرائيل من قاعدته قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وستخضع الانتخابات الإسرائيلية القادمة، التي ستكون الثالثة خلال عامٍ واحد بسبب الفشل المتكرر في تشكيل الحكومة، لنفس التيارات العامة التي شكَّلت الجولتين الانتخابيتين الأخيرتين؛ فالسياسات اليمينية التي تركز تركيزاً كبيراً على الحلول الأمنية في مواجهة الفلسطينيين تقدَّمت في استطلاعات الرأي بنسبةٍ كبيرة آنذاك وتتقدم فيها بنسبةٍ كبيرة الآن. وبالنسبة للفلسطينيين، يمكن أن يُتيح إعلان الخطة فرصةً لصعود حكومةٍ فلسطينية أكثر تشدداً في رام الله إذا شعر الفلسطينيون بأنَّهم لا يملكون خياراتٍ أخرى. ومن المناسب أنَّ المهندس الفلسطيني لحل الدولتين -أي محمود عباس الذي كان مُفاوضاً في منظمة التحرير الفلسطينية فترةً طويلة ورئيس السلطة الفلسطينية الحالي- يشيخ ويقترب من النهاية المحتملة لعهده مثلما يواجه حل الدولتين الذي يتصوَّره زوالاً محتملاً. وفي مواجهة التهديد المشترك المتمثل في جرأة إسرائيل، قد تتغاضى الأحزاب الفلسطينية المتنافسة والجماعتان المسلحتان فتح وحماس عن بعض الخلافات العميقة بينها باسم تقوية صفوفها بالتعاون.
آثار على المدى البعيد
يتمثَّل أبرز تداعيات لخطة ترامب في أنها تضفي شرعيةً على عملية الضم الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية الذي يُعد أمراً واقعاً منذ سنوات. وتؤكِّد الخطة مدى تغيُّر معايير المبادئ الأساسية لقضية السلام الإسرائيلي الفلسطيني على مرِّ العقود القليلة الماضية من مناقشةٍ بين طرفين مستعدين للتفاوض إلى طريق مسدود بين موقفين متشددين تشدُّداً متزايداً. وتنحاز خطة ترامب إلى السياسات المُفضَّلة لدى الحكومة الإسرائيلية الحالية بشأن جميع القضايا التقليدية القليلة التي تُشكِّل جزءاً أساسياً من محادثات السلام الراكدة منذ فترة طويلة، بما في ذلك قضايا الأمن والحدود وعودة اللاجئين ووضع القدس. ولا شكَّ أنَّ شرعنة الوضع الراهن بهذه الطريقة ستُصعِّب التراجع عن الركائز الأساسية لمحادثات السلام أو تغييرها إذا كانت الحكومات الأمريكية أو الإسرائيلية المستقبلية ترغب في التحرك في اتجاهٍ مختلف.
ويُمكن أن تُمثِّل الخطة التي أعلِنَت مؤخراً نقطة انفصالٍ بين الفلسطينيين وبعض الدول العربية التي تتشدَّق بدعمهم. إذ ستجد بعض دول الخليج العربية صعوبةً في إبداء رفضٍ صريح لخطةٍ طرحتها أمريكا -الحليفة التي تحتاج إليها تلك الدول وتريدها- وإسرائيل -الحليفة السرية التي أقامت معها تلك الدول علاقاتٍ متزايدة في السنوات الأخيرة- حتى لو كانت ترى أنَّ سياسات الخطة تظلم الفلسطينيين بشدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ سفراء البحرين وعمان والإمارات العربية المتحدة حضروا مؤتمر إعلان خطة ترامب في البيت الأبيض، فيما ستجتمع جامعة الدول العربية في 2 فبراير/شباط المقبل لمناقشتها. وصحيحٌ أنَّه لا توجد أي دولة عربية أو إسلامية تريد أن تعارض مطالبات الفلسطينيين بحقهم في الأراضي علانيةً، ولكن لا توجد دولة شرق أوسطية تريد المجازفة بوضعها الدبلوماسي أو الاقتصادي مع الولايات المتحدة الأقوى لمصلحة نصرة حقوق الفلسطينيين. وحتى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية -اللتان تتمتعان بالنفوذ والثقل اللازمين لإحداث تغيير- من المستبعد أن تنحازا انحيازاً كبيراً إلى الفلسطينيين. ولعل أحد أسباب ذلك أنَّ القضية لم تعد مهمةً من وجهة نظر شعوب المنطقة. إذ يبدو أنَّ القضية الفلسطينية لم تعد مثيرةً لاتخاذ تحرُّكاتٍ بين الرعاة التقليديين للفلسطينيين، مثل الأردن ومصر وسوريا ودول الخليج العربية، وبدرجةٍ أقل لبنان وتركيا، كما كانت من قبل.
جنوب إفريقيا أخرى
ومن جانبه، قال خالد الجندي، المفاوض السابق في محادثات السلام والمستشار السابق لدى القيادة الفلسطينية في العقد الأول من القرن الجاري، متحدثاً عن خطة ترامب: "هذه خطة لا علاقة لها بالسلام. ولا تضع في حسبانها حل الدولتين. بل تهدف إلى إجراء تغييرٍ تام في شروط التسوية الإسرائيلية الفلسطينية للابتعاد عن إنهاء الاحتلال، وتجنُّب إقامة دولتين ذات سيادة. إنها تُشرعن الوضع الراهن. وتسعى إلى تطبيع الاحتلال الإسرائيلي بصفةٍ دائمة"، حسب ما نشرت صحيفة The Guardian البريطانية.
وشبَّه الجندي الدولة الفلسطينية التي تتصورها الخطة بمناطق ذوي البشرة السوداء التي كانت مستقلة اسمياً فقط في جنوب إفريقيا أثناء الحقبة العنصرية، والتي كانت معروفة بالبانتوستانات، لكنَّه أشار إلى أنَّها كانت قيد الإعداد طوال السنوات الماضية.
وأضاف: "القول إنَّ ترامب قتل عملية السلام وحل الدولتين سيكون هيِّناً للغاية. فعملية السلام ماتت إلى حدٍّ كبير حين وصل إلى هنا. وكل ما يفعله الآن أنَّه يحاول دفنها".
هذا وتعرَّضت الخطة المقترحة لانتقاداتٍ كثيرة من ساسة أمريكيين أيضاً، إذ وصف السيناتور كريس مورفي الخطة بأنَّها تتخلى عن المبادئ القائمة منذ فترةٍ طويلة، وانتقد كوشنر لأنَّه لم يتفاوض بشأنها "مع أي طرفٍ آخر باستثناء الإسرائيليين".
وقال: "ليس من قبيل الصدفة كذلك أن تدعم هذه الخطة الاعتراف بالمستوطنات غير الشرعية والضم الإسرائيلي للأراضي من جانبٍ واحد، بينما تتجاهل أي تصُّورٍ عن حل الدولتين".