هل يمكن حماية الشعوب من “أكاذيب” الحكومات؟ الواقع أن الدستور وحده لا يكفي

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/01/22 الساعة 09:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/22 الساعة 09:29 بتوقيت غرينتش
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب - رويترز

ربما يكون مستحيلاً ألا يكذب المسؤولون الحكوميون، كما أنه من الصعب جداً محاسبتهم على تلك الأكاذيب، فكيف إذن يمكن حماية الشعب من تلك الأكاذيب؟ وما الأدوات المتاحة لتحقيق ذلك؟ هل تكفي المواد الدستورية، أم أن أطرافاً أخرى عليها دور لابد من أن تقوم به؟

موقع رو ستوري الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "هل يمكن للدستور منع الحكومة من خداع الشعب؟"، أعدته هيلين نورتون، أستاذة القانون الدستوري بجامعة كولورادو، ناقش وسائل التصدي لأكاذيب المسؤولين الحكوميين.

عندما يكذب الأشخاص العاديون تنكشف أكاذيبهم تارة، وقد لا تنكشف تارة أخرى، ومن الناحية القانونية، يكونون في بعض الأحيان محميين بموجب التعديل الأول للدستور الأمريكي، وأحياناً لا يتمتعون بتلك الحماية، مثلما يحدث إذا ارتكبوا وقائع احتيال أو الشهادة الزور.

ولكن ماذا عن المسؤولين الحكوميين حينما يكذبون؟

تناولتُ هذا السؤال في كتابي الأخير بعنوان The Government's Speech and the Constitution (خطاب الحكومة والدستور). وليس من المُستغرب أن يكذب الموظفون العموميون، فإنهم بشر على أي حال، ولكن حينما تكذب جهة حكومية أو مسؤول تدعمه سلطة الحكومة ومواردها، فإن هذا يسفر عن ضرر لا يمكن أن تُلحقه سوى الحكومة. 

وتوصّلت أبحاثي إلى أن الأكاذيب التي يرددها المسؤولون الحكوميون يمكن أن تنتهك الدستور بطرق شتّى، خاصة عندما تحرم هذه الأكاذيب الشعب من حقوقه.

انتهاكات واضحة

لتفكّر ملياً على سبيل المثال في ضباط الشرطة الذين يخبرون المشتبه به بهتاناً بأن لديهم أمر تفتيش، أو يقولون كذباً إن الحكومة ستأخذ ابن المشتبه به إذا لم يتنازل هذا الثاني عن حقوقه الدستورية لمحامٍ أو يدين نفسه. فهذه الأكاذيب تنتهك الحماية الدستورية المنصوص عليها في التعديلات الرابعة والخامسة والسادسة للدستور الأمريكي.

إذا سجنت الحكومة الناس أو فرضت عليهم الضرائب أو كبّدتهم الغرامات لأنها ليست على وفاق مع ما يقولونه، فإنها تنتهك التعديل الأول للدستور الأمريكي. وفي بعض الظروف، يمكن للحكومة إسكات المعارضة بفاعلية تضاهي تلك المذكورة سلفاً من خلال أكاذيبها التي تشجع أصحاب العمل والأطراف الثالثة الأخرى على معاقبة منتقدي الحكومة نيابة عنها. على سبيل المثال، خلال الخمسينيات والستينيات، نشرت لجنة سيادة ولاية ميسيسيبي أكاذيب مدمّرة بين أصحاب الأعمال التي يعمل فيها المواطنون الذين ناهضوا الفصل العنصري، وبين أصدقائهم وجيرانهم. وبحسب ما تبيّن لإحدى المحاكم الفيدرالية بعد عقود، فإن تلك الوكالة "ضيّقت على الأشخاص الذين ساعدوا المنظمات التي تشجع على إلغاء الفصل العنصري أو تدعو إلى تسجيل الناخبين. وفي بعض الأمثلة، كانت اللجنة تقترح اتخاذ إجراء وظيفي من جانب أرباب العمل، الذين كان من الممكن أن يفصلوا المستهدفين من النشطاء أو المعتدلين".

مجلس الشيوخ الأمريكي يحاكم ترامب

واتهمت بعض الدعاوى القضائية مسؤولين حكوميين بالتضليل فيما يتعلّق باستعراض مدى خطورة شخص ما إذا ما وُضع على قائمة حظر السفر جوّاً. وأعرب بعض القضاة عن قلقهم بشأن ما إذا كانت إجراءات الحكومة لحظر الطيران صارمة بما يكفي لتبرير تقييد حرية الشخص في السفر.

نشر انعدام الثقة وزعزعة اليقين

لكن في مواقف أخرى، قد تتعسّر مهمّة العثور على صلة مباشرة بين خطاب الحكومة وفقدان أحد الحقوق بعينه؛ فكّر مليّاً في أكاذيب المسؤولين الحكوميين حول سوء إدارتهم، أو سوء أفعال زملائهم، لتجنب المساءلة السياسية والقانونية؛ لا سيّما الأكاذيب الكثيرة التي رددتها إدارة ليندون جونسون حول حرب فيتنام، حسبما كشفت وثائق صادرة عن البنتاغون.

تعد هذه الأنواع من الأكاذيب جزءاً مما أطلقت عليه "صناعة الشك بسواعد الحكومة". وتنطوي هذه على أكاذيب الحكومة الرامية إلى صرف انتباه الجمهور عن جهود اكتشاف الحقيقة. على سبيل المثال، رداً على المخاوف المتزايدة بشأن صلة حملة الرئيس دونالد ترامب بروسيا، ادعى ترامب أن سلفه باراك أوباما قد تنصّت عليه خلال الحملة، بالرغم من تأكيدات وزارة العدل أنه لا يوجد دليل يدعم هذا الادعاء. 

وقبل عقود، في الخمسينيات من القرن الماضي، سعى السيناتور جوزيف مكارثي إلى جذب اهتمام وسائل الإعلام واغتنام المكاسب السياسية من خلال ادعاءات شائنة لا أساس لأغلبها من الصحة، وقد أسهمت بدورها في زرع ثقافة الخوف في البلاد.

عندما يتحدث المسؤولون الحكوميون بهذه الطرق، فإنهم يحطون من قدر ثقة الشعب ويثبّطون قدرته على مساءلة الحكومة بشأن أدائها. ومع ذلك، فإنهم لا ينتهكون بالضرورة الحقوق الدستورية لأي شخص بعينه، ما يجعل الدعاوى القضائية بمثابة تحدٍّ عسير في أحسن الأحوال. أو فلنصيغها بعبارة أخرى: مجرد أن أكاذيب الحكومة تؤذينا، فهذا لا يعني طيلة الوقت أنها تنتهك الدستور.

ماذا أيضاً بيدِ الناس؟

هناك خيارات مهمة أخرى لحماية الشعوب من أكاذيب الحكومة؛ إذ يتسنّى للمبلغين عن المخالفات المساعدة في الكشف عن أكاذيب الحكومة وسوء إدارتها. فلنتذكّر مارك فيلت، الذي شغل منصب مساعد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية، وعُرف بأنه "المصدر السرّي الكاشف" في فضيحة ووترغيت، خلال التحقيق الذي أجرته صحيفة واشنطن بوست، والرقيب في الجيش الأمريكي جوزيف داربي، الذي أزاح الستار عن سوء معاملة السجناء في أبوغريب. ويتسنّى كذلك للمشرعين سنّ القوانين، ويتسنّى للمحامين المساعدة في إنفاذ القوانين التي تحمي المبلّغين الذين يفضحون أكاذيب الحكومة.

ويمكن للهيئات التشريعية والوكالات ممارسة صلاحياتها الرقابية لمحاسبة المسؤولين الحكوميين الآخرين عن أكاذيبهم. فمثلاً، انتهت جلسات الاستماع في مجلس الشيوخ بإدانة سلوك السيناتور مكارثي رسمياً من جانب زملائه في المجلس، واعتباره "مخالفاً لتقاليد مجلس الشيوخ ومخالفاً للقيم".

فضلاً عن ذلك، يمكن أن تعكف الصحافة على البحث عن المستندات والمعلومات للتحقق من مزاعم الحكومة، ويمكن للجمهور الاحتجاج والتصويت ضد الكاذبين الذين يعتلون عرش السلطة؛ فعلى سبيل المثال، أسهم الغضب الشعبي التي أجّجته أكاذيب الحكومة بشأن الحرب في فيتنام في قرار ليندون جونسون عام 1968 بالعزوف عن الترشح من جديد. وبالمثل، أسهم نبذ الجمهور لأكاذيب المسؤولين الحكوميين الرامية إلى التستّر على فضيحة ووترغيت في استقالة ريتشارد نيكسون عام 1974.

ربما يكون من العسير منع المسؤولين الحكوميين من الكذب، ومن الصعب كذلك مساءلتهم عندما يرددون الأكاذيب. لكن الأدوات المتاحة للتصدّي لهم لا تقتصر على الدستور، بل تنطوي أيضاً على التصدّي المستمر من جانب المسؤولين الحكوميين الآخرين، والصحافة، والشعب نفسه.

تحميل المزيد