بدأ العام الجديد بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اغتيال الجنرال قاسم سليماني، لكن كواليس ذلك القرار تشير إلى عدة أمور مهمة، منها متى وكيف تم اتخاذ القرار؟ ومن كان على دراية به قبل التنفيذ؟ وكيف كانت الكواليس؟ والأهم هل تم وضع خطة للتعامل مع التبعات؟
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت، اليوم الإثنين 13 يناير/كانون الثاني، تقريراً بعنوان: "أسبوع في يناير/كانون الثاني: كيف دفع ترامب إيران والولايات المتحدة إلى حافة الحرب"، تناول قصة الأسبوع والتخطيط السري في الأشهر التي سبقته، فيما قد يكون الأسبوع الأكثر تخبُّطاً في سنوات ترامب في البيت الأبيض.
متى بدأ التفكير في قتل سليماني؟
قصة اغتيال سليماني بدأت قبل أكثر من 18 شهراً، بحسب تقرير الصحيفة على لسان مسؤولين في إدارة ترامب، وجاء ذلك في سياق تصاعُد حدة التوتر بين إيران والولايات المتحدة، في أعقاب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، وفرض عقوبات اقتصادية خانقة على طهران، واتخاذ إيران خطواتٍ تصعيدية مثل استهداف ناقلات نفط وغيرها.
في تلك الأثناء بدأ مسؤولو المخابرات والبنتاغون وفريق الأمن القومي الذي كان يرأسه جون بولتون، قبل استقالته، بوضع سيناريوهات للرد على التصعيد الإيراني، تمثلت في قائمة بأهداف إيرانية يمكن ضربها، وكان من بين تلك الأهداف سفينة القيادة والسيطرة التابعة للحرس الثوري والمتواجدة في مضيق هرمز، إضافة لمنشآت نفط وغاز ومواقع صواريخ باليستية.
وبالإضافة لتلك الأهداف، كانت هناك أيضاً قائمة ببعض الأسماء التي يمكن استهدافها، من بينها عبدالرضا شهلاي وهو مسؤول إيراني في فيلق القدس أيضاً يقوم بتمويل الحوثيين في اليمن، وبالطبع كان اسم قاسم سليماني على رأس تلك القائمة التي وضعها الفريق الأمني والعسكري لترامب على مكتبه؛ لينتقي منها الهدف أو الأهداف التي يمكن ضرُبها.
كيف تم التنفيذ؟ وما كواليسه؟
كان فريق الاغتيال الأرضي في مطار بغداد ينتظر وصول طائرة أجنحة الشام رحلة رقم 6Q501 القادمة من دمشق، التي كان من المفترض أن تُقلع من هناك الساعة 7:30 بالتوقيت المحلي، لكنها تأخرت نحو 3 ساعات، وبدأ الفريق يشعر بالقلق، وكاد يتم اتخاذ قرار بإلغاء المهمة، لكنَّ مخبراً يعمل في مطار دمشق أبلغ الفريق بأن الطائرة لا تزال متوقفة، وأن "الهدف لم يصل بعد".
وقبل إغلاق باب الطائرة استعداداً للإقلاع بدقائق، وصل الجنرال قاسم سليماني في قافلة من السيارات توقفت أمام سُلم الطائرة مباشرةً وصعد بسرعة ومعه اثنان من حراسه الشخصيين، وهكذا أقلعت الطائرة من دمشق في طريقها إلى بغداد متأخرة عن موعدها بثلاث ساعات كاملة.
هبطت الطائرة في مطار بغداد الدولي بعد 36 دقيقة من منتصف الليل، وكان سليماني ومرافقوه أول مَن غادروها، وكان بانتظاره عند سلم الطائرة أبومهدي المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي، ومعه أربع ضباط إيرانيين، وعلى الفور ركب الجميع سيارتين انطلقتا بهم من المدرج لمغادرة المطار. وبعد أقل من 12 دقيقة من وصول الطائرة، أطلقت طائرة بدون طيار أمريكية من طراز ريبر عدة صواريخ نسفت السيارتين وحوَّلت الأشخاص العشرة بداخلهما إلى أشلاء.
الرصد المكثف لتحركات سليماني منذ مايو/أيار الماضي أنتج تقارير عدة عن طبيعة تحركاته، فهو يستخدم عدة خطوط طيران في سفرياته الكثيرة من طهران لبغداد ودمشق وبيروت واليمن، ودائماً ما يتم حجز ثلاث تذاكر باسمه على ثلاث رحلات في نفس التوقيت إمعاناً في التضليل.
تقارير رصد سليماني أيضاً أكدت أنه يسافر دون حراسة مكثفة، ولا يرتدي سترات واقية من الرصاص، ودائماً ما يصل في آخر لحظة ممكنة قبل إقلاع الطائرة، ويجلس في الصف الأول من مقاعد الدرجة الأولى؛ ليكون أول مَن يغادر بمجرد هبوط الطائرة.
وفي تلك الرحلة الأخيرة له كان هناك رصد دقيق من خلال مخبرين في مطارات دمشق وبغداد وأيضاً على الأرض في بيروت للتأكد من الرحلة التي سيكون على متنها.
هل كان لإسرائيل دور في اغتيال سليماني؟
تقرير "نيويورك تايمز" لم يتطرق بشكل مباشر لدور المخابرات الإسرائيلية، لكنَّ تقريراً نشرته صحيفة جيروزاليم بوست، اليوم الإثنين 13 يناير/كانون الثاني، أجاب بنعم عن السؤال، حيث إن كواليس رصد تحركات سليماني شملت وجود مخبرين يعملون لدى الموساد في سوريا ولبنان.
التقرير تحدث عن كيفية رصد تحركات سليماني في الرحلة التي انتهت باغتياله بالتفصيل، حيث غادر سليماني طهران، ودور المخبر في مطار دمشق الذي لولاه لتم اتخاذ قرار إلغاء العملية بعد تأخّر الطائرة التي أقلّته عن موعدها بثلاث ساعات، وهذا المخبر على الأرجح يعمل مع الأجهزة الإسرائيلية.
نتنياهو الحليف الوحيد الذي كان يعرف
الدور الإسرائيلي في عملية اغتيال سليماني يبدو أنه أكبر بكثير مما تم الإفصاح عنه، فبحسب تقريرَي نيويورك تايمز وجيروزاليم بوست، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الزعيم الوحيد من بين حلفاء الولايات المتحدة الذي تم إبلاغه بالعملية قبل تنفيذها من جانب وزير خارجية ترامب مايك بومبيو.
قبل الاغتيال بساعات، قال نتنياهو للصحفيين وهو في طريقه إلى اليونان: "نعلم أن منطقتنا عاصفة، وأن هناك أحداثاً درامية جداً جداً سوف تحدث الآن"، وأضاف أنه "يقدم الدعم للولايات المتحدة ولحقّها الكامل في الدفاع عن نفسها وعن مواطنيها"، وهي التصريحات التي تشير إلى أن نتنياهو كان يعرف مسبقاً باغتيال سليماني.
اللافت أن نتنياهو وجّه أوامر للسياسيين والقادة العسكريين بعدم الحديث علناً عن اغتيال سليماني حتى لا يستفز الإيرانيين فيقوموا باستهداف إسرائيل، لكن التقارير التي بدأت تظهر وألقت مزيداً من الضوء على الدور الإسرائيلي تجعل سياسة الغموض التي طالب بها أفيغدور ليبرمان في تصريحاته لصحيفة جيروزاليم بوست أمراً صعباً.
ليبرمان قال إن "الغموض والصمت هما أفضل شيء لنا (لإسرائيل)"، ملقياً باللوم على المصادر الإسرائيلية التي تحدثت لصحيفة التايم البريطانية بالتفصيل عن الدور الإسرائيلي في عملية اغتيال سليماني.
لماذا تقرَّر التنفيذ في العراق تحديداً؟
ومنذ مايو/أيار من العام الماضي، أصبح رصد تحركات سليماني هدفاً في حد ذاته، وفي هذا السياق تمت مناقشات مستفيضة داخل أروقة الإدارة الأمريكية بأفرعها المتعددة لوضع سيناريوهات للتنفيذ. وبحسب المسؤولين الأربعة في إدارة ترامب الذين لم تسمّهم نيويورك تايمز، خلصت التقارير إلى أن استهداف سليماني في إيران لن يكون سهلاً أو متاحاً لأسباب لوجيستية.
وكانت البدائل تتركز في محاولة اغتياله في سوريا، لكن بسبب عدم حرية الحركة المتاحة للأمريكان هناك، لم يكن التنفيذ ليكون سهلاً أو متاحاً أيضاً، كما تم استبعاد محاولة اغتياله في لبنان أثناء إحدى زياراته المتكررة هناك، لكن تم استبعاد لبنان حتى لا تصبح إسرائيل هدفاً مباشراً للانتقام الإيراني عن طريق حزب الله، حيث إن استهدافه في لبنان كان على الأرجح سيؤدي إلى استهداف أحد قيادات حزب الله أو حسن نصرالله نفسه. وهذه النقطة أيضاً تُلقي الضوء أكثر وأكثر على الدور الإسرائيلي في التخطيط المبكر لاغتيال سليماني.
وبالتالي كان سيناريو اغتيال سليماني على الأراضي العراقية، حيث تتواجد القوات الأمريكية هناك وتتمتع بحرية الحركة وتمتلك الأجواء تقريباً، وهكذا تم التنفيذ.
كيف كان رد الفعل السعودي؟
تقرير نيويورك تايمز سرد الموقف السعودي بالتفصيل من خلال رد فعل الحاكم الفعلي للمملكة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي أرسل أخاه خالد بن سلمان، نائب وزير الدفاع، إلى واشنطن ليلتقي ترامب ويسمع منه خطة أمريكا للتعامل مع سيناريوهات ما بعد اغتيال سليماني.
اغتيال سليماني أصاب ولي العهد بعدم الراحة، صحيح أنه يتبنى موقفاً متشدداً تجاه طهران، إلا أنه كان قد بدأ يتعايش مع فكرة قبول الوساطة من أطراف متعددة لتهدئة الأجواء، خصوصاً بعد استهداف أرامكو منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، ورد فعل ترامب السلبي تجاه الرد العسكري ضد إيران، فقبل ولي العهد وساطة باكستان وعمان والعراق وغيرها سعياً لحل سياسي لتهدئة التوتر مع طهران.
وكان الرأي السعودي أن "قتل سليماني خطوة عظيمة، لكن ما هي الخطة؟"، بحسب السير جون جينكينز، السفير البريطاني السابق في الرياض. "لو أن هناك خطة (أمريكية للتعامل مع التصعيد الإيراني المتوقع) فنحن مستعدون لمساندتها، أما إذا لم تكن هناك خطة فنحن جميعاً بحاجة للتهدئة".
الأمير خالد سمع من ترامب ما أرضاه – أياً كان ما قاله ترامب – حيث أخبر الصحفيين بعدها أن الأسرة الملكية في السعودية راضية بتوجيه ضربة موجعة لإيران وراضية أكثر بأن ترامب لا ينوي أن يصعد أكثر.
خلاف آخر على طريق الطلاق مع أوروبا
وبعيداً عن نتنياهو وولي العهد السعودي، بدا أن ترامب يقف وحيداً تماماً على المسرح العالمي بعد اغتيال سليماني، بحسب تقرير نيويورك تايمز، حيث لم تدعم قراره أي من القوى الأوروبية الكبرى، ولا حتى بريطانيا الحليف التقليدي، رغم الإجماع على أن سليماني كانت "يداه ملطختين بالدماء". وقد وصفت صحيفة لوموند الفرنسية قرار ترامب باغتيال سليماني بأنه مؤشر على "مرحلة جديدة من مراحل الطلاق بين جانبي الأطلسي بسبب الشرق الأوسط".
الطلاق المشار إليه هنا بدأ منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران عكس رغبة الأوروبيين الموقّعين عليه، وهم بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتلك الدول تسعى جاهدة لتخفيض حدة التوتر ومحاولة إقناع إيران بعدم الانسحاب من الاتفاق، وجاء بالطبع قرار اغتيال سليماني بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير في هذا الإطار.
وكون إدارة ترامب لم تُطلع أياً من حلفائها عبر الأطلسي كما فعلت مع نتنياهو يعد في حد ذاته مؤشراً آخر على الاختلاف بين الجانبين بشأن الشرق الأوسط وكيفية التعامل مع قضاياه الملتهبة، وعلى رأسها إيران.