على مدى سنوات حث حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط واشنطن على تبني موقف متشدد مع إيران، وهاجموا قرار توقيع اتفاق نووي مع طهران، وهللوا حين فاز ترامب صاحب الخطاب القاسي بالرئاسة.
لكن الآن، يسعى أقرب حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط فعلياً لتحاشي الدخول في صدام محتمل مع إيران. فخلال الأيام الأخيرة، بعد قتل الولايات المتحدة الجنرال الإيراني قاسم سليماني الذي قابلته إيران بقصف وابل من الصواريخ على قاعدة أمريكية في العراق، بدأت دول الخليج العربي وإسرائيل تراجع نفسها حول التوترات التي ساهمت في إشعال فتيلها، كما تقول مجلة بوليتيكو الأمريكية.
"الحوار وضبط النفس"
فمن جانبهم، دعا مسؤولون سعوديون إلى "ضبط النفس" لتجنب "تصعيد الموقف". فيما شددت الإمارات على "أهمية الحوار والحلول السياسية". وحتى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أثنى علناً على قرار ترامب باغتيال سليماني، نقلت عنه وسائل إعلام إسرائيلية قوله لمساعديه سراً إنَّ عملية القتل "ليست إسرائيلية، بل فعل أمريكي خالص. لسنا متورطين ولا يجب أن يُزَج بنا في هذه المسألة".
وهذا الحذر من أقرب حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مثير؛ بالنظر لأنَّهم في الماضي كانوا يطالبون واشنطن بـ"قطع رأس الأفعى في طهران"، بما في ذلك مهاجمة المواقع النووية الإيرانية.
ويعكس كذلك تهديدات إيران الموجهة، وإدراك هذه الدول أنَّ الحرب يمكن أن تطيح باقتصاداتهم وتهدد حكوماتهم. لكنها تكشف أيضاً عن حالة من عدم اليقين إزاء ما إذا كان ترامب، المعروف بتقلبه، سيواصل دعمها على المدى الطويل أم لا.
"نداء صحوة"
وعلَّقت كريستين ديوان، محللة في فريق Arab Gulf States Institute البحثي في واشنطن، قائلة: "هذا بمثابة نداء صحوة".
وأكد مسؤول خليجي للمجلة الأمريكية، أنه في الوقت الذي سعت فيه الرياض وحكومات أخرى في المنطقة لتبني واشنطن موقفاً مشدداً ضد طهران، لم يدفعوها أبداً في اتجاه الحرب. وقال المسؤول: "نحن نفكر بأنفسنا. صحيح أنَّ إيران تزعزع الاستقرار في الشرق الأوسط، لكنها تظل جارة علينا التعايش معها في المنطقة".
وربما تكون مخاوف دول الشرق الأوسط هذه، التي ينفق بعضها مبالغ كبيرة على جماعات الضغط في واشنطن، قد أثرت في قرار ترامب، أمس الأربعاء 8 يناير/كانون الثاني، بعدم اتخاذ إجراء عسكري فوري رداً على القصف الصاروخي الإيراني الذي وقع منذ ساعات.
ففي الأيام التي تلت الغارة التي أودت بحياة سليماني، تواصل المسؤولون الأمريكيون مع نظرائهم في إسرائيل وعواصم الخليج العربي. وهذا الأسبوع، استقبل ترامب، بعيداً عن أية ضجة إعلامية، مسؤولاً من وزارة الدفاع السعودية في واشنطن، في اجتماع لم يكشف عنه البيت الأبيض حتى أعلنته الرياض.
وعلى مدى أشهر، عملت الولايات المتحدة على إرسال تعزيزات لقواتها في منطقة الخليج على دفعات صغيرة، بعدما استهدفت هجمات تحمل بصمات إيران ناقلات نفط دولية وغيرها من الأهداف، في إشارة لا لبس فيها، على حد تعبير مسؤولين أمريكيين، لنوع المذبحة التي يمكن أن تحدثها طهران.
تحذيرات الحرس الثوري وصلت مسامع الجيران الخليجيين جيداً
من جانبه، حذَّر الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، في تهديده الأخير، جيرانه المدعومين من الولايات المتحدة بأنهم لن يكونوا في مأمن من أي تصعيد إضافي إذا ردت واشنطن عسكرياً على هجماتها الصاروخية في العراق.
وجاء في بيان للحرس الثوري الإيراني: "حلفاء الولايات المتحدة الذين أعطوا قواعدهم لجيشها الإرهابي حتى أنَّ أية منطقة ستصبح نقطة انطلاق للأعمال العدائية والعدوانية ضد جمهورية إيران الإسلامية سيُستهدَفون. ولا نعتبر النظام الصهيوني بأي حال من الأحوال منفصلاً عن النظام الأمريكي في هذه الجرائم".
لكن يقول بعض المسؤولين الأمريكيين وغيرهم من المراقبين في الشرق الأوسط إنه يمكن لإسرائيل ودول الخليج الحليفة لإيران، بطريقة ما، استنباط بعض الأوجه الباعثة على التفاؤل من أحداث الأيام الأخيرة.
فمن ناحية، برهن ترامب من خلال إصدار الأمر بضرب سليماني، أثناء زيارة لبغداد، أنه مستعد لاتخاذ خطوات شديدة المجازفة ضد إيران.
وكان هذا "مطمئناً" إلى حد ما، وبالأخص للزعماء العرب، الذين دهشوا وشعروا بخيبة أمل عندما امتنع ترامب عن ضرب إيران في وقت سابق من هذا العام بعدما أسقطت طائرة أمريكية بدون طيار وقصفت منشآتي نفط سعوديتين.
وكتب شخص مقرب من الديوان الملكي السعودي، في رسالة إلى موقع Politico الأمريكي: "تشعر دول الخليج بالقلق (الذي تراجع الآن بعد مقتل سليماني) من أنَّ الولايات المتحدة ستتخلى عنها عندما تزداد الأمور صعوبة".
تردد ترامب قاد الخليج للدبلوماسية مع إيران
وكان ترامب قد فرض عقوبات اقتصادية على إيران وصفتها الإدارة الأمريكية بأنها حملة "لفرض أقصى قدر من الضغط" تهدف إلى "تركيع" طهران.
وأعلن الرئيس الأمريكي، أمس الأربعاء 8 يناير/كانون الثاني، التحضير لفرض عقوبات جديدة بعد الهجوم الصاروخي الإيراني على قاعدة أمريكية. لكن يُعتقَد أنَّ تردده في الماضي في مواجهة إيران عسكرياً حفَّز الشروع في مباحثات دبلوماسية مؤخراً بين الرياض وأبو ظبي وطهران، تنطوي على الأمل في إحراز تقدم في الصراع في اليمن.
وفي الواقع، بعد الضربة الأمريكية ضد سليماني الأسبوع الماضي، زعم رئيس الوزراء العراقي أنَّ زيارة الجنرال الإيراني للعراق جاءت في إطار عقد محادثات لتخفيف التوترات مع المملكة العربية السعودية. لكن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو سخر من هذا التصريح، وأعلن أنه "غير صحيح".
وفي الوقت نفسه، على الرغم من أنَّ هذه الدول نفسها سُرّت لمشاهدة ترامب يسدد ضربة لطهران، لا ترغب في أن تتطور المواجهة لحرب شاملة.
وفي هذا الصدد، قال جون الترمان من مؤسسة The Center for Strategic and International Studies البحثية الأمريكية: "يريد جيران إيران ردعها، لكنهم لا يريدون مع ذلك أن تنفجر طهران غضباً. لذا فالسؤال هنا هو: كيف يمكنك ردع الخصم من دون تسديد أية ضربة له؟".
دقّة حسابات أوباما حول إيران
من جانبه، لجأ باراك أوباما، سلف ترامب الديمقراطي، لاستخدام العقوبات وإقامة شراكات مع دول أخرى لإقناع إيران بالمفاوضات التي انتهت إلى توقيع اتفاق إيران النووي عام 2015. وبالنسبة لكثير من الدول العربية، وكذلك إسرائيل، شكَّل كبح برنامج إيران النووي لسنوات أولوية قصوى.
لكن بحلول الوقت الذي أُبرِمَت فيه الصفقة النووية، أصبح سلوك إيران غير النووي في المنطقة -خاصة برنامج الصواريخ البالستية ودعم الميليشيات العميلة والتدخل في الحرب الأهلية السورية- مثاراً للغضب بقدر طموحاتها النووية المزعومة.
ولم تُغطِ الصفقة النووية تلك القضايا الأخرى؛ لذلك لم تلقَ الاتفاقية رضاء السعوديين ولا الإماراتيين ولا الحلفاء الآخرين. وفعل نتنياهو كل ما بوسعه لإخراج الصفقة النووية عن مسارها، بما في ذلك إلقاء خطاب عنيف على الكونغرس قال فيه إنَّ الاتفاقية "تمهد الطريق لتصنع إيران قنبلة نووية".
وفي الوقت نفسه، أثار تواصل أوباما المستمر مع إيران غضب الحلفاء العرب القدامى، حتى أنَّ بعضهم تساءلوا حول مدى التزام أوباما بسلامتهم -وهي الشكوك التي وصفها مؤيدو أوباما بالسخيفة- واعتبروا جهوده الدبلوماسية تقرباً من طهران.
ثم جاء ترامب وأعلن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018، وأعاد فرض العقوبات على طهران التي رُفِعَت بموجب الاتفاقية.
العرب يريدون التفاوض
وهنا، قال المسؤول العربي، في رسالته لموقع Politico، إنَّ ما يريده خصوم إيران في المنطقة الآن هو مواصلة الولايات المتحدة الضغط على إيران -ويُفضَّل أن يكون ذلك من خلال العقوبات والدبلوماسية- لإجبارها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والتوصل لاتفاق أشمل يغطي جهودها النووية وبرنامجها الصاروخي وسلوكها الإقليمي العدواني.
وأضاف المسؤول أنَّه يجب منح الدول العربية مقعداً في طاولة المفاوضات هذه؛ إذ صيغت الاتفاقية الأخيرة من خلال مفاوضات ضمت إيران والولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.