ظن البعض أن الربيع العربي قد انتهى، ولكن موجة 2019 من الربيع العربي أثبتت عدم صحة ذلك، وأن الدعوة للتغيير والديمقراطية بالمنطقة لم تمُت، فهل تنجح موجة الثورات الجديدة في تحقيق الديمقراطية أم أنها تسير بدورها نحو نسختها الخاصة من الأخطاء كما فعلت الموجة الأولى من الربيع العربي؟
اللافت أن موجة 2019 من الربيع العربي قامت في الأغلب في دولة لم تشهد ثورات خلال الموجة الأولى للربيع العربي.
ولكن حتى في بعض الدول التي شهدت ثورات خلال عام 2011، فإن 2019 كان مختلفاً، وشهد ما يمكن أن نسميه بعض الرياح أو الأجواء الثورية.
في هذا التقرير نرصد أبرز سمات موجة 2019 من الربيع العربي، وكيف تحاول التعلم من أخطاء الموجة الأولى من الربيع العربي.
مصر.. النظام مصدوم من قدرة الشارع على تحديه
مصر التي كان أبرز دول موجة 2019 من الربيع العربي، حتى لو لم تشهد البلاد أي تغيير.
ولكن شهدت البلاد تظاهرات نادرة شكلت الخطورة الأكبر على النظام منذ إسقاط حكم الرئيس المنتخب محمد مرسي في عام 2013.
ورغم أن المظاهرات التي دعا إليها المقاول المتمرد محمد علي كانت محدودة، فإنها كانت تعبِّر عن تجرؤ نادر كسر حاجز الخوف الرهيب الذي تشكل منذ 2013.
وكان لافتاً التجاوب الشعبي الكبير مع فيديوهات المقاول الذي كان يعمل مع القوات المسلحة، والتي هاجم فيها ما اعتبره فساداً طاغياً في قطاع المقاولات المرتبط بالجيش المصري.
وفي المقابل بدا واضحاً أن النظام في مصر قلِق بشدة من هذه المظاهرات.
كما كان واضحاً أن متابعة محمد علي من قِبل المصريين تخطت الفئات التقليدية المعادية للسلطة أو حتى المحايدة لفئات مؤيدة لها.
والأهم أنه كان واضحاً في مظاهرات يوم 20 سبتمبر/أيلول 2019 أن الشرطة لا تريد التورط في الدماء كما فعلت من قبل، وأنها تخشى تحمُّل مسؤولية القمع كما حدث في ثورة يناير 2011.
كما أن تشديد الإجراءات الأمنية وشن حملة دعائية ترهيبية يكشفان عن قلق النظام.
سينتهي عام 2019 على الأرجح بلا أي تغيير في مصر وبشكل يختلف تماماً عن 2011، ولكن سيظل عام 2019 هو أكثر عام يذكّر المصريين بعام الثورة 2011.
تونس.. تغيير ثوري عبر الصندوق
شهدت تونس تغييراً ثورياً في عام 2019، ولكن عبر الصندوق.
ومثلما عادت الثورة المضادة في تونس عبر الصندوق من خلال تولي الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي الحكم، فإنها خرجت عبر الصندوق تاركة الثورة تعود مرة أخرى من خلال فوز الرئيس قيس سعيد بالرئاسة، وحركة النهضة بأكبر كتلة برلمانية، إضافة إلى فوز كتلة يسارية وناصرية تعتبر نفسها منحازة لخيار الثورة.
في المقابل، تراجعت الأحزاب المحسوبة على الدولة العميقة، مثل نداء تونس وتحيا تونس، التي حل محلها حزب قلب تونس الذي يجمع بين الشعوبية والعلاقة مع الدول العميقة، مع صعود أقل بروزاً لائتلاف الكرامة الإسلامي الذي يعتبر أكثر يمينية ومحافظة من حزب النهضة.
السودان.. الحراك يتحالف مع العسكر
نجا الرئيس السوداني عمر البشير من موجة الربيع العربي السابقة في عام 2011، وكان هذا أمراً لافتاً بالنظر إلى تاريخ الشعب السوداني المفعم بالثورات، وكان هذا أيضاً دليلاً على قوة النظام المركب من خلطة نادرة لا تتكرر في مكان آخر في العالم العربي، وهو تحالف بين العسكر والإسلاميين.
ولكن في موجة 2019 من الربيع العربي، لم يكتفِ السودانيون بالإطاحة بالبشير بل سجنوه أيضاً.
ونسبياً يبدو السودان البلد الأكثر نجاحاً في موجة 2019 من الربيع العربي، فبعد بداية دموية تمثلت في مذبحة القيادة العامة للقوات المسلحة، حققت البلاد انتقالاً سلمياً للسلطة بالاتفاق بين العسكر والحراك.
وشكلت البلاد حكومة تسعى للخروج من الأزمة الاقتصادية وتحقيق مصالحات مع الحركات المتمردة.
ولكن النموذج السوداني يطرح أسئلة أكثر مما يجيب عليها.
فقد سعى الحراك السوداني إلى تجنب أخطاء الموجة الأولى من الربيع العربي، لاسيما النموذج المصري، وأبرز هذه الأخطاء عدم الإسراع بإجراء انتخابات، بينما مازال فلول الدولة العميقة يسيطرون على البلاد.
في المقابل، لجأ الحراك للتفاهم مع العسكريين لإقامة سلطة مشتركة غير منتخبة ستدوم لمدة ثلاث سنوات، والمفارقة أن الحراك كان يريدها أربع سنوات، بينما المؤسسة العسكرية كانت تريدها عاماً واحداً.
وليس هناك ضمانة لعدم اندلاع خلافات بين العسكر والحراك، وحتى انقلاب الجيش على العملية السياسية.
كما أن الأهم من الناحية الأخلاقية والقانونية والشرعية، هل مقبول أن يظل ائتلاف غير منتخب يضم عسكريين يحكم لمدة ثلاث سنوات؟!
وما هو الفارق بين جرائم البشير المسجون وبين جرائم محمد "حميدتي" رجل الحرب في اليمن ودارفور وليبيا والشخصية البارزة في مجلس السيادة الانتقالي الحاكم؟
فهل هدف الثورات العربية أن يتولى ائتلاف من العسكر واليساريين غير المنتخبين السلطة لفترة انتقالية طويلة للغاية تبلغ 3 سنوات؟
والأهم لماذا يتم تحميل الإسلاميين مسؤولية خطايا نظام البشير وحده رغم تبرؤ أغلبهم منه من قبل سقوطه بسنوات، في حين تتم تبرئة العسكريين؟
فالحراك في السودان قرر التحالف مع العسكريين الذي كانوا جزءاً من النظام مقابل إقصاء الإسلاميين سواء كانوا جزءاً من النظام أو معارضين له.
يمكن القول إن النظام في السودان بعد أن كان تحالفاً بين عسكريين وإسلاميين أصبح تحالفاً بين عسكريين وحراك يغلب عليه اليسار والليبراليون.
الجزائر.. نصف نجاح
على غرار الجزائر مرَّ الربيع العربي في 2011 عليها كنسيم عليل، اندلعت مظاهرات محدودة ولكن دون تأثير.
كانت دورة حياة الجزائر السياسية مختلفة عن باقي العالم العربي.
ففي عام 2011 كانت الجزائر قد تعافت للتو من الآثار المدمرة للعشرية السوداء التي شهدتها البلاد بعد انقلاب الجيش على الرئيس الشاذلي بن جديد وإلغائه الانتخابات البرلمانية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ الوطني عام 1991.
تسببت الحرب الأهلية خلال التسعينيات في مخاوف لدى الجزائريين من انجراف مطالب الإصلاح السياسي إلى عنف، كما أنه في عام 2011 كان متبقياً لدى الجزائريين بعض الامتنان للرئيس بوتفليقة على دوره في إنهاء حالة الاحتراب وتحقيق مصالحة وطنية ناجعة على عيوبها الكثيرة.
ولكن توالي عهدات بوتفليقة الرئاسية وتدهور صحته وتزايد نفوذ محيطيه جعل رصيد الامتنان لبوتفليقة يتآكل، خاصة مع ظهور جيل أصغر سناً لا يمكن تخويفه بذكريات العشرية السوداء.
وانفجر الحراك الجزائري بعد الإعلان عن ترشح بوتفليقة، وانحاز الجيش لخيار الشارع برفض العهدة الخامسة، واستقال بوتفليقة وبدأت حملة تطهير لبعض الرجال المحسوبين عليه.
ولكن سرعان ما انتهى شهر العسل القصير بين العسكر والحراك مع إصرار الجيش على إجراء الانتخابات الرئاسية التي انتهت بفوز عبدالمجيد تبون بها، والذي يعتبره البعض وجهاً محسناً للنظام.
والآن فإن الجزائر تبدو في وضع غامض، مؤسسة عسكرية قوية فقدت قيادتها للتو، ورئيس محسوب على النظام ويعاني عداء الحراك، ولا يعرف مدى فاعلية سلطته على الجيش، في مقابل الحراك الذي يبدو يزداد سخطاً وصعفاً في الوقت ذاته مع انفضاض الجزء الباحث عن الاستقرار من الشارع.
اللافت في الحراك الجزائري إصراره على عدم تنفيذ أخطاء الموجة الأولى من الربيع العربي، مثل تغيير رأس النظام وإبقاء جسمه، في حين أن المؤسسة العسكرية كانت مصرة على تمرير سيناريو مشابه للسيناريو المصري عبر إجراء انتخابات تحت رعايتها، ولكن إصرار المعارضة والحراك على مقاطعتها جعل الانتخابات منافسة باهتة بين درجات مختلفة من المرشحين التابعين للنظام.
العراق.. حق الفيتو مكفول للمحتجين وسليماني عدوهم الأول
كان مسار التاريخ السياسي العراقي مختلفاً في العقود الأخيرة، كان هناك سياسة أقل لصالح الحروب أكثر.
ولكن اليوم يبدو العراق أكثر تسيساً وابتعد عن الحروب الأهلية لصالح حراك شعبي غير مذهبي، بل إن النخبة الحاكمة والحراك الشعبية كلاهما يغلب عليه الطابع الشيعي.
ولكن مشكلة الحراك العراقي أنه يواجه تدخلاً خارجياً أكثر استفحالاً وفجاجة من أي دولة عربية أخرى.
في العراق، فإن حائط الصد الأول ضد تحقيق مطالب الحراك هي إيران، التي يقود جنرالها الشهير قاسم سليماني الثورة المضادة ضد الحراك، لدرجة أنه يرأس اجتماعات أمنية رفيعة المستوى بدلاً من رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي.
كما أنه أخّر استقالة عبدالمهدي ويواصل الإيرانيون الضغط لفرض مرشح موال لهم عبر الكتل التابعة لهم بالبرلمان العراقي.
ولكن الأخطر هو تورط الأجهزة الأمنية وبالأخص ميليشيات الحشد الشعبي الموالي لإيران في مجازر ضد المحتجين.
وفي هذا الصدد يبرز التأثير الإيراني على عملية قمع الاحتجاجات العراقية من الكلام المنسوب لسليماني الذي قال فيه لمسؤولين عراقيين: "نحن في إيران نعرف كيفية التعامل مع الاحتجاجات. لقد حدث هذا في إيران وسيطرنا عليه"، وفق مسؤولين كبار مطَّلعين على الاجتماع الأمني العراقي الذي ترأسه سليماني.
وبالفعل عقب هذا التصريح نجحت إيران بسرعة في قمع الاحتجاجات الداخلية ضد الوقود.
ولكن لا إيران ولا حلفاؤها نجحوا في قمع الاحتجاجات العراقية التي صمدت رغم العنف الشديد الذي جوبهت به وأدى إلى سقوط آلاف من الضحايا.
ولكن سليماني يبدو أنه لا يعرف جيداً طبيعة الشعب العراقي الصلبة، ورفض العراقي حتى لو كان شيعياً لفكرة الخضوع لهيمنة خارجية لاسيما الإيرانية.
والآن لم يتحقق للحراك النجاح، ولكنه أصبح لديه فيتو كبير على شخص رئيس الوزراء القادم، وأصبحت مطالبه يتم تبنيها من كتلة التيار الصدري، وكذلك من الرئيس العراقي برهم صالح.
لبنان.. الحراك الذي يحاول إسقاط أقوى نظام في العالم
"أقوى نظام في العالم" هكذا وصف نائب بمجلس النواب اللبناني النظام الطائفي في لبنان في حديث مع "عربي بوست".
وهو لم يبالغ، فقد يكون لدى لبنان واحدة من أضعف الحكومات في العالم وواحد من أقوى الأنظمة.
الحكومة في لبنان ضعيفة أمام مجتمع منقسم بين طوائف لها حقوق أبدية لا تمس، وزعماء يستغلون هذه الحقوق لمصالحهم، وشعب مشتت بين غضبه من النظام الطائفي برمته وولائه لزعيم طائفته وخوفه من ميليشياته.
ولكن تراكم الغضب ووقوع البلاد في أزمة مالية هائلة، أخرج الشارع موحداً بشكل غير مسبوق، خرج موحداً مطالباً بإسقاط زعماء الطوائف جميعاً بشعاره العبقري: "كلن يعني كلن".
وبالفعل استقالت حكومة رئيس الوزراء سعد الحريري، ولكن كما سبق القول، فإن في لبنان يوجد أضعف الحكومات وأقوى الأنظمة.
فتدريجياً ضعفت قضية الحراك الأساسية بتغيير أو إصلاح النظام، ليعود الجدل الطائفي والتدخل الخارجي.
فالحريري أصر على تشكيل حكومة تكنوقراط استجابة لمطالب الشارع، والأهم استجابة لمطالب الخارج الغربي والخليجي الذي يريد استبعاد "حزب الله" من الحكومة.
في مقابل إصرار حزب الله وأمل والتيار العوني على تشكيل حكومة تكنوقراط سياسية.
وانتهى الأمر بتكليف حسان دياب بتشكيل حكومة ينظر لها على أنها طعنة للصف السني، أما الحراك فسيضيع تدريجياً بعد عودة استقطاب 8 و 14 آذار.
فقد كانت الحكومة السابقة التي تضم الفريقين توفر فرصة للحراك لاستهداف النظام بأكمله عبر الهجوم على هذه الحكومة الممثلة للنظام الطائفي برمته.
ولكن اليوم الحكومة محسوبة على حزب الله وفريقه، وبالتالي فإن أعداءها سيحسبون على 14 آذار حتى لو كانوا حراكيين أنقياء.
الأسوأ من أن هذا على الصعيد المالي ، أن هذه الحكومة لن ترضي الغرب، ولا سيما أمريكا وكذلك السعودية اللتين تريدان إقصاء حزب الله من الحكومة، لا تشكيل حكومة من حزب الله.
وبدون الدعم الغربي والعربي، فإن لبنان قد يدخل في كارثة مالية خطيرة، بعد أن انهارت الثقة في النظام المصرفي للبلاد، وتدهورت الليرة بشكل غير مسبوق.
ما الفارق بين موجة 2019 من الربيع العربي وبين ثورات 2011؟
تبدو الموجة الحالية من الربيع العربي مختلفة عن الموجة الأولى في كثير من الأشياء.
إذ تبدو أقل طموحاً وأكثر واقعية، والأهم أقل في حسن النوايا، خاصة تجاه المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة العميقة.
فالسمة الرئيسية في موجة 2019 للربيع العربي هي عدم الثقة في وعود النخب والمؤسسات الحاكمة، وأيضاً تخوفها من طريق الانتخابات التقليدية في ظل استمرار الدول العميقة، في المقابل تميل موجة 2019 من الربيع العربي لاستخدام الشارع لفرض كثير من مطالبه.
يعتمد الربيع العربي الجديد على الصبر في الشارع، والفوز بالنقاط، وليس الضربة القاضية.
ولكن هذا يثير سؤالاً مضاداً: ألا يعد ذلك شكلاً مختلفاً من أشكال الدكتاتورية، دكتاتورية الميادين والشوارع التي تحاول فرض رؤاها على الأغلبية؟
وألا يتناقض ذلك مع مبدأ ترافق المسؤولية والمحاسبة، فالميدان يريد أن يختار الحكومة، وفي نفس الوقت لن يحاسبه أحد على فشله في الاختيار.