في مطلع العام الجاري، حذرت جماعات الضغط من قطع الحكومات الإنترنت باعتباره أداة لقمع الاحتجاجات الشعبية، ولكن مع الأيام الأخيرة من العام حدث ما تم التحذير منه تحديداً، وأصبح قطع الإنترنت القاعدة وليس الاستثناء، فما القصة؟
شبكة "سي إن إن" الأمريكية نشرت تقريراً، رصدت فيه قصة قطع الإنترنت حول العالم بعنوان: "من المفترض أن تكون حالات حظر الإنترنت نادرة، ولكنها أصبحت قاعدة متزايدة الظهور في غالبية أنحاء العالم".
من بداية هذا العام، عندما حظرت زيمبابوي إمكانية الوصول إلى الإنترنت في جميع أنحاء البلاد؛ عقب الاحتجاجات المناهضة للحكومة، حذَّرت جماعة الضغط Keep It On قائلةً: "يجب ألا نسمح بأن يكون مثل هذا الحظر هو الوضع الطبيعي الجديد".
وبعد 12 شهراً، هذا ما حدث بالفعل!
يعد حظر الإنترنت المستمر حالياً بإقليم كشمير الخاضع لسيطرة الهند، هو الأطول من نوعه في بلد ديمقراطي، إذ يستمر أكثر من 135 يوماً، وفقاً لـAccess Now، المجموعة الحقوقية التي تتتبَّع وتهتم بِحرية الإنترنت. ولم تُحظر خدمات الإنترنت وقتاً أطول من ذلك إلا من قِبل حكومة الصين الاستبدادية وحكومة ميانمار في عهد المجلس العسكري.
وجاء حظر الإنترنت في الوقت الذي انتشرت فيه القوات الهندية بإقليم كشمير عقب إلغاء حكومة نيودلهي الحكم الذاتي الشرعي الذي يتمتع به الإقليم. ولكن هذا الحظر ترك بعض الكشميريين غير مدركين لأسباب قطع الإنترنت. ومن دون إمكانية الوصول إلى الإنترنت، ظل عدد كبير من سكان الإقليم غير قادرين على إجراء أي محادثات، ومن الصعب أن تصل أصواتهم إلى خارج الإقليم.
الانقطاع الأطول في كشمير
لم يتمكن الكشميريون من الوصول إلى الإنترنت منذ وقت طويل جداً، لدرجة أن هناك أنباء تشير إلى أن تطبيق واتساب بدأ يحذف حساباتهم، بسبب عدم النشاط.
ويصف ديفيد كاي، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعنيّ بِحرية الرأي والتعبير، قطع الإنترنت المستمر بـ "الحصار المعلوماتي" و "العقاب الجماعي من دون حتى ادّعاء ارتكاب أي جريمة".
وهذا الأسبوع، امتد الأمر إلى أجزاء مختلفة من الهند، حيث قطعت السلطات في عديد من المناطق، وضمن ذلك أجزاء من العاصمة نيودلهي، خدمات الهاتف والإنترنت، وسط احتجاجات واسعة النطاق، بسبب قانون المواطنة المثير للجدل. وتأثّر عشرات الملايين من الأشخاص بهذا الحظر الأخير لخدمات الإنترنت. وأثارت هذه الخطوة غضباً واسعاً، وأدّت إلى ردود فعل من السياسيين وحتى من بعض القضاة.
وقوبلت الرقابة المتزايدة على الإنترنت في الهند بترحاب كبير في الصين، حيث أشارت جميع وسائل الإعلام الحكومية هناك إلى أنها تمثّل تأييداً لنهج بكين الاستبدادي. وقالت صحيفة People's Daily هذا الأسبوع، إن المثال الهندي يُظهر أن "حظر الإنترنت في حالات الطوارئ يجب أن يكون ممارسة معتادة للدول ذات السيادة".
أين بدأ كل ذلك؟
في أعقاب أعمل الشغب العرقية والاضطرابات العنيفة بمقاطعة شينجيانغ غرب البلاد في 2009، قطعت السلطات الصينية خدمات الإنترنت والهاتف عن الإقليم بالكامل.
وشهدت بعض المناطق في العالم قبل ذلك قطع خدمات الإنترنت والاتصالات، إلا أنها تكون حوادث عرضية، نتيجة أعطال بالكابلات البحرية التي تغذي معظم خدمات الإنترنت. وعلى الرغم من غرق شينجيانغ في الظلام، وانقطاع الأشخاص عن أصدقائهم وعائلاتهم، وتدهور الأعمال التي تعتمد على الإنترنت، بدا الأمر انحرافاً مبالَغاً فيه من السلطة، وأن هذا النوع من الأساليب لا يمكن أن يستخدمه أي نظام إلا إذا كان نظاماً استبدادياً مثل الصين.
وخلال السنوات العشر التي تلت ذلك، أحدث الإنترنت ثورة في عالم الاتصالات بجميع أنحاء العالم النامي، مع تخلّي عديد من الدول عن التقنيات القديمة والاعتماد على الهواتف الذكية والوسائط الاجتماعية والمدفوعات الهاتفية، وأدّى ذلك إلى نمو اقتصادي وترابط المجتمعات.
ومع زيادة عدد الدول التي شهدت استخدام الإنترنت من أجل التنظيم الشعبي للتغيير السياسي، أصبح قطع الإنترنت ممارسة أكثر شيوعاً؛ للسيطرة على الاضطرابات وخنق الانتقادات الموجهة إلى الحكومات. ولم تعد هذه الممارسة تقتصر على الدول الاستبدادية، لأن أسوأ مثال لتطبيقها حتى الآن هو الهند، أكبر ديمقراطية في العالم.
واعتمدت الدول الإفريقية أيضاً على هذا الأسلوب، إذ لجأت زيمبابوي، جمهورية الكونغو الديمقراطية، والتشاد وإثيوبيا إلى حظر الإنترنت؛ في محاولة لكبح الاحتجاجات المناهضة للحكومة.
ويتماشى ذلك مع النمط العام لزيادة الرقابة على الإنترنت. ويرجع ذلك، جزئياً، إلى انتشار مزيد من التقنيات المتطورة التي تجعل حظر الإنترنت أسهل، وأرخص، من مراقبة وتنقيح أنشطة المستخدمين على الإنترنت. كما تأثّر ذلك بتغيُّر منظور رقابة الإنترنت، والذي كان يُعتبر في وقت من الأوقات معركة خاسرة.
فقد أثبت الجدار الناري الصيني العظيم -بما لا يدع مجالاً للشك- أن السيطرة على الإنترنت أصبحت ممكنة، بل إنها تساعد على دعم النظام ومنع الحركات المعارضة من الحصول على أي أرضية يمكن أن تنطلق منها.
وعلى الرغم من أن الصين هي من بدأت هذا التوجه بقطع خدمات الإنترنت، فإن الاتهام لا يُوجَّه عادة إلى بكين في هذا الصدد. الرقابة الصينية متطورة بشكل عام بما يكفي، لكيلا تحتاج السلطات استخدام مثل هذه الطريقة الغاشمة بحظر إمكانية الوصول إلى خدمات الإنترنت بالكامل؛ بل يمكنها تحقيق الغرض نفسه، من خلال تنقيح ما يمكن مناقشته على الإنترنت في المقام الأول.
وبالنسبة للبلدان الأخرى، خاصة في العالم النامي، قد يكون حظر الإنترنت بالكامل مجرد اختصار بسيط وسهل للوصول إلى هذا المستوى من السيطرة. حظر الإنترنت يمنح الشرطة حرية أكبر في التصدي للاضطرابات من دون أي نوع من الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت واسعة الانتشار والاستخدام في المجتمعات، وتمكّن الحكومات من ضمان عدم سماع أي أصوات أخرى خلاف رأيها في مواضيع معينة.
وفقاً لمنظمة Access Now، عام 2018 شهد 196 حالة قطع لخدمات الإنترنت، بشكل رئيسي في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط. وفي النصف الأول من هذا العام، كانت هناك 128 حالة، ويبدو أن عام 2019 سيكون الأسوأ في هذا الصدد. وفقاً لمؤسسة Freedom House، المؤسسة غير الربحية بواشنطن، يعيش ما يصل إلى نصف سكان العالم تقريباً في بلد "قطعت فيه سلطاته خدمات الإنترنت أو الشبكات الهاتفية، غالباً لأسباب سياسية".
تداعيات كبيرة
فقدان القدرة على الوصول إلى الإنترنت ليس مجرد أمر مزعج أو حرمان من إحدى رفاهيات الحياة؛ بل يحرم الأشخاص من معرفة المعلومات المهمة خلال فترات الاضطرابات، وهو ما يعرِّض حياتهم للخطر. كما يقيِّد قدرة وسائل الإعلام على مساءلة الحكومة أو الأجهزة الأمنية.
كما يعتمد جزء كبير من الاقتصاد العالمي على تقنية الاتصالات، كل شيء من تداول الأسهم بسرعة عالية إلى خدمات الإمداد والتوريد، وقد يؤدي قطع خدمات الإنترنت إلى تداعيات اقتصادية كبيرة.
تصل تقديرات المجلس الهندي لبحوث العلاقات الاقتصادية الدولية للخسائر الاقتصادية الناتجة عن انقطاع الإنترنت، في الفترة بين 2012 و2017، إلى أكثر من 3 مليارات دولار، وشهدت السنوات التالية على ذلك مزيداً من عمليات قطع خدمات الإنترنت.
ووفقاً لمنظمة Internet Society، "يؤثر قطع خدمات الإنترنت في قدرة المواطنين على الحصول على معلومات دقيقة من المصادر الحكومية في أوقات الاضطرابات أو الطوارئ. كما يصبح من الصعب على المواطنين التواصل مع أفراد عائلاتهم وأصدقائهم بالمناطق الأخرى من البلاد، أو في دول أخرى. كما يعيق قطع خدمات الإنترنت جهود المستجيبين الأوائل ومقدمي الرعاية الصحية، ويحول دون قدرتهم على التنسيق في حالات الطوارئ أو الكوارث الطبيعية".
أساليب قطع خدمات الإنترنت، لا سيما قطع الخدمة بالكامل، مباشرة تماماً. تأمر الحكومات مقدمي خدمات الإنترنت بقطع الاتصالات عن العالم الخارجي، الأمر أشبه بفصل قابس جهاز الراوتر المنزلي، ولكن عن الدولة بأكملها.
عند قطع الخدمة بالكامل بتلك الطريقة، لا توجد وسائل للتغلب على ذلك. وسائل مكافحة الرقابة، مثل الشبكات الافتراضية الخاصة، لا تعمل عندما لا يوجد اتصال بالإنترنت من الأساس. أطلق الكشميريون على القطار الذاهب إلى مقاطعة جامو المجاورة "قطار الإنترنت السريع"، إذ يستقله عديد منهم يومياً؛ للتحقق من بريدهم الإلكتروني ومتابعة أعمالهم.
لا تزال الوسائل البديلة لتوفير الوصول إلى الإنترنت في طور الاكتشاف والتطوير بشكل كبير. الأقمار الصناعية التي تبث حزم النطاق العريض باهظة التكلفة، وتعتمد على استعداد وقدرة الشركات الخاصة على تحدي الحكومات. والشبكات المتداخلة، التي تستخدم اتصالات الهاتف وأجهزة الراوتر لإنشاء سلسلة تناظرية من المناطق المقطوعة عنها الخدمة إلى منطقة مفتوحة الإنترنت، تتطلب مستوى معيناً من الكثافة السكانية الثابتة، لا توجد بالضرورة في عديد من المناطق المتأثرة بحظر خدمات الإنترنت، مثل كشمير.
ما الذي يمكن فعله؟
في عديد من الحالات، يرتبط قطع خدمات الإنترنت بالكامل بانتهاك الحقوق المكفولة بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 وغيره من المعاهدات الدولية. كما أكدت الأمم المتحدة مسؤولية الدول الأعضاء عن حماية حق الأشخاص في الوصول إلى الإنترنت وحرية التعبير على الإنترنت.
وقال بيتر ميسيك، المستشار العام لمنظمة Access Now: "سوف نتتبع كل عمليات قطع الإنترنت ونُبلغ بها الأمم المتحدة".
وأضاف: "قطع خدمات الإنترنت لا يعني فقط انتهاك الحقوق التي تكفلها الأمم المتحدة؛ بل يعيق أيضاً أعمال المساعدات الدولية، والأمن والتنمية".
وقال ميسيك: "لطالما طالبت منظمات حقوق الإنسان بالرقابة، ولكننا الآن نتطلع إلى ما وراء ذلك، نتطلع إلى أن تشير المنظمات التقنية مثل الاتحاد الدولي للاتصالات، والمؤسسات المالية، والمنظمات الإقليمية مثل رابطة دول جنوب شرقي آسيا والاتحاد الإفريقي، والأمين العام للأمم المتحدة بنفسه، بشكل واضح لا لبس فيه، إلى أن قطع خدمات الإنترنت من الممارسات غير المقبولة على الصعيد العالمي، وأنها تمثل إهانة للقانون الدولي".
ولكن يظل هناك اختلاف كبير بين وجود الحقوق وإنفاذها. في الهند، تحدى بعض الأفراد ممارسات قطع الإنترنت بالمحاكم وأمام القضاء، وهناك جهود جارية لتغيير قانون البلاد المتعلق بحظر خدمات الإنترنت؛ لجعل تطبيق مثل هذا الحظر أصعب على الحكومة.
ووفقاً لمنظمة Access Now، فقد أدى الوعي المتزايد بأضرار قطع خدمات الإنترنت إلى مزيد من التحديات المتكررة لتلك الممارسات أمام القضاء. وقالت المنظمة: "حتى عندما لا تحكم المحكمة مباشرة لصالح المتضررين، أو حتى تستمع إلى القضية، فإن هذا الإجراء القانوني قد يكون له تأثير إيجابي على حقوق الإنسان لمن يعانون تحت وطأة قطع خدمات الإنترنت".
معظم هذه القضايا يرفعها الأفراد، وليس شركات الإنترنت، رغم أنها، على الأغلب، الأكثر تضرراً من حظر الإنترنت. وترى منظمة Access Now وغيرها من المنظمات، أن شركات الاتصالات يمكنها أن تؤدي دوراً أكبر بكثير في هذا الصراع، ويمكنها أن تحقق من وراء ذلك أيضاً استفادة مالية، إلى جانب تحسين سمعتها. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، كافحت شركة أبل بضراوة ضد محاولات تقويض تشفيرها لمصلحة مكتب التحقيقات الفيدرالي.
ولكن في عديد من الدول، تكون المحاكم ضعيفة ولا يمكنها على الأرجح تحدِّي ممارسات حظر الإنترنت. كما تسير عديد من الحكومات أيضاً على خطى الصين في محاولة إخضاع تنقيح والسيطرة على الإنترنت للإطار القانوني. وأظهرت الشركات نفسها، وضمن ذلك Apple، عدم استعداد، أو رغبة، في تحدِّي الحكومات، مثل بكين، حيث تكون فرص النجاح في إجراءات التقاضي ضئيلة.
وقال ميسيك: "من الممكن أن يتَّحد مجتمع الأعمال معاً ويطالب الحكومات بالتوقف عن هذا النهج المدمر والمتمثل في قطع خدمات الإنترنت وحظرها. الكشف عن التكلفة المالية لقطع الاتصالات قد يكون طريقة واضحة للشركات لإظهار التداعيات الاقتصادية السلبية أمام صنّاع السياسات".
وأضاف: "بإمكان الشركات أيضاً رفض تنفيذ أوامر تعطيل الشبكات، وتحدِّي الحكومات بالوسائل القانونية والسياسية كافة ووسائل الضغط الممكنة كافة".
وفي عام 2019، أصبح قطع خدمات الإنترنت مشكلة رئيسية وشائعة، ولا يمكن إنكار أضرارها السياسية والاقتصادية. ومع وضوح القضية بهذا الشكل، سوف يواجه المدافعون عن حرية الإنترنت والمنظمات المناهضة لرقابة الإنترنت مَهمة أكثر مشقة وصعوبة في العام المقبل؛ للعمل على مكافحة هذه الظاهرة.