ظلَّت قضية الخيانة العظمى ضد الرئيس الباكستاني السابق والجنرال المتقاعد برويز مشرف مُعلَّقةً فترةً طويلة، حتى بدا أنَّها لن تشهد إصدار أي حكمٍ على الإطلاق. ولكن في يوم الثلاثاء 17 ديسمبر/كانون الأول، بعد ست سنوات من رفع القضية، أصدرت محكمةٌ خاصة في العاصمة الباكستانية إسلام آباد حكمها أخيراً، وحكمت على برويز مشرف غيابياً بالإعدام، بتهمة الخيانة العظمى. وقد يُسفر هذا الحُكم عن دفع باكستان، المضطربة بالفعل، إلى حالة من الاضطراب السياسي، في الوقت الذي يستعد فيه القضاء لمعركةٍ بين إرادته وإرادة الجيش.
المحاكم المدنية في مواجهة العسكر
إذ تنبثق التهم التي أدين بها مشرف من الانقلاب العسكري الذي أطاح برئيس الوزراء الباكستاني السابق نواز شريف في عام 1990. وقد قضت المحكمة الخاصة المكوَّنة من ثلاثة قضاة بأنَّ مشرف مُذنِب بانتهاك المادة 6 من الدستور الباكستاني، التي تنصُّ على أنَّ "أي شخص يلغي الدستور أو يقوِّضه أو يُعلِّق عمله أو يُجمِّده مؤقتاً، أو يحاول إلغاءه أو تقويضه أو تعليق عمله أو تجميده، أو يتآمر على ذلك باستخدام القوة أو استعراض القوة أو بأي وسيلة أخرى غير دستورية يكون مُداناً بالخيانة العظمى". وقد أشارت المحكمة إلى أنَّ العقوبة الوحيدة للخيانة العظمى في الدستور الباكستاني هي الإعدام.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه هي المرة الأولى التي تُصدِر فيها محكمة مدنية حكماً بالإعدام على جنرالٍ من الجيش الباكستاني (الذي نفَّذ ثلاثة انقلاباتٍ كبرى في أعوام 1956 و1977 و1999، وحكم البلاد 33 عاماً من أصل 72 عاماً من تاريخ وجودها).
أهمية رمزية بالغة للحُكم
وجديرٌ بالذكر أنَّ الجنرال مشرف، المتقاعد منذ فترة طويلة، يقيم في الإمارات العربية المتحدة حالياً لعلاج بعض المشكلات الصحية، لكنَّ المدعي العام الباكستاني وصف المحاكمة بأنها "غير عادلة"، وأعلن أن الحكومة ستطعن على الحكم أمام المحكمة العليا الباكستانية.
وصحيحٌ أنَّ حكم الإعدام الصادر بحق الجنرال لن يُنفَّذ بالتأكيد، لأنَّه من المستبعد أن يعود إلى باكستان، لكنَّ الحُكم يحمل أهمية رمزية هائلة بلا مبالغة.
فبحسب شبكة CNN الأمريكية، فمن المحتمل أن تصبح المحكمة العليا الباكستانية ساحةً لمواجهة أخرى بين قضاء باكستان وجيشها. ومن بين التهم الأخرى التي أدين بها مشرف تحرُّكه في عام 2007 لفرض "حكم الطوارئ" وإقالة افتخار تشودري، كبير قضاة المحكمة العليا الباكستانية آنذاك، لرفضه الرضوخ له. وقد أثارت هذه الخطوة حراكاً بين المحامين، واضطراباً في البلاد أجبر مشرف نفسه على الاستقالة.
معضلة لن يفوز فيها أي طرف
ومن ثَمَّ، يُمكن القول إنَّ المحكمة العليا، في جوهر أحد جوانب هذه القضية، ستنظر فيما إذا كان جنرالٌ عسكري غير منتخب لديه صلاحية سلطة عزل رئيس المحكمة العليا. فإذا قالت نعم، عبر بعض الثغرات القانونية الغامضة، فإنها بذلك تُقلِّص صلاحياتها بصفتها فرعاً حكومياً مستقلاً، وهذه خطوةٌ قد تثير المزيد من الاحتجاجات.
أمَّا إذا أيّدت الحكم على مشرف، فقد يتّخذ الجيش صاحب النفوذ الكبير بعض الإجراءات القسرية في المستقبل ضدها. لذا يمكن القول إننا أمام معضلة لن يفوز فيها أي طرف.
وصحيحٌ أنَّ الرئيس السابق لديه أنصاره في باكستان، لكنَّ الكثيرين يشعرون بالاستياء ممَّا يرون أنه كان تودُّداً متحمساً للغاية من مشرف إلى الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب. إذ كان مشرف رئيساً للوزراء حين أعلن جورج بوش الابن، الرئيس الأمريكي آنذاك، إنذاره الشهير الذي قال فيه: "إما أن تكون معنا أو ضدنا". وقال الجنرال مشرف للباكستانيين آنذاك إنَّه لا يملك خياراً آخر سوى التعاون مع الأمريكيين، مشيراً إلى أنَّ ريتشارد أرميتاغ، مساعد وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، قال له: "كن مستعداً للتعرُّض للقصف، كن مستعداً للعودة إلى العصر الحجري".
ومن غير الواضح ما إذا كان أرميتاغ قد قال هذه التصريحات بالفعل، لكنَّ الواضح أنَّ مشرف استمر في التمتع بدعم إدارة بوش، مع أنَّه فقد دعم الشعب الباكستاني منذ فترة طويلة في ذلك الوقت.
ما الذي فعله مشرف لأمريكا في باكستان؟
رأى العديد من الباكستانيين أنَّ قرار مشرف بجعل باكستان حليفةً لأمريكا في الحرب على الإرهاب، جعل البلاد هدفاً لهجماتٍ إرهابية، بينما أصبحت مسرحاً آخر للحرب بين حركة طالبان وتنظيم القاعدة ومجموعة متنوعة من الجماعات الأخرى. وفي الآونة الأخيرة، أدت هجمات الطائرات الأمريكية بدون طيار التي استهدفت مُسلَّحين في المناطق القَبَلية في باكستان إلى مقتل حوالي 3700 شخص، كثير منهم من المدنيين الأبرياء، بحسب ما جاء في بحثٍ أجرته مؤسسة New America.
وعلى صعيدٍ آخر، كشف تقرير نشرته صحيفة The Washington Post الأمريكية، أنَّ الولايات المتحدة تسعى إلى إبرام اتفاق سلام مع طالبان، وأنَّ المسؤولين الأمريكيين أدركوا عدم قدرة الولايات المتحدة على حسم الفوز في الحرب التي تخوضها في أفغانستان.
وكشف التقرير، الذي نُشِر بعنوان The Afghanistan Papers أو "الأوراق الأفغانية"، عن أكاذيب قالها المسؤولون الأمريكيون بشأن الحرب على الإرهاب في أفغانستان، وهي أكاذيب لا يبدو أنَّها ستُسفر عن عواقب على الأطراف التي ذكرتها. ولكن في باكستان، رفض القضاء مرور ما حدث مرور الكرام دون عواقب، وحَكَم على جنرالٍ كان من المسؤولين المُفضَّلين لدى أمريكا بالإعدام.
الجيش لن يقف مكتوف الأيدي
ومع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، تعيد دول العالم ترتيب علاقاتها. إذ لجأت باكستان إلى الصين، لتصبح أقرب أصدقائها تحسُّباً لذلك الانسحاب. وقد لا يشعر جنرالات باكستان الجدد، الذين يهتمون الآن اهتماماً أكبر بضمان رضا الصينيين عنهم، بالولاء لقائدٍ قديم متقاعد، ليس له فائدة في هذا النظام الجديد. وإذا كان الأمر كذلك، فربما تغضُّ المؤسسة العسكرية الباكستانية الطرف عن القضية في الوقت الذي ستؤيد فيه المحكمة حكم الإعدام بحق الجنرال برويز مشرف.
ومع ذلك، لا يبدو أنَّ الجيش سيكون راضياً تمام الرضا عن إعدام فردٍ ينتمي إليه. ففي بيانٍ نُشِر على موقع تويتر، قال الجنرال آصف غفور، المتحدث باسم الجيش الباكستاني، إنَّ الحُكم قوبل "بألم وحُزن شديد" داخل الجيش الباكستاني، متهماً المَحاكم "بتجاهل الإجراءات القانونية الواجبة". وأضاف أنَّ الرجل الذي "خدم البلاد طوال أكثر من 40 عاماً، وخاض حروباً من أجل البلاد لا يمكن أن يكون خائناً".
غير أنَّ الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف يُعد خائناً في الوقت الحالي. وحتى هذه اللحظة على الأقل، خضع رجلٌ تلاعَب بالمؤسسات المدنية الباكستانية للمساءلة. وصحيحٌ أنَّ انتصار العدالة في نهاية المطاف ما زال أمراً غير معروف، ولكن في هذه اللحظة التاريخية لباكستان، فالعدالة منتصرة بالتأكيد.