في اليوم الـ53 للثورة اللبنانية، يتفقَّد طاهر الزعبي بلهفةٍ الحي الذي يعيش فيه، وهو بؤرةٌ للتظاهرات في قلب بيروت، ويساعد جيرانه في تدعيم خيامهم لتصمد أمام العاصفة الشتوية الشديدة التي هبت.
يتفاخر الزعبي بكونه أحد أوائل المتظاهرين الذين أشعلوا الانتفاضة الشعبية في لبنان. في يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول، نزل هو وقليلون آخرون إلى الشوارع بدراجاتهم النارية، قبل أن ينضم إليهم المئات في تلك الليلة، ومئات الآلاف في الليالي التالية.
وبعد مرور حوالي شهرين الآن على الحركة الشعبية ضد الفساد المستشري في الحكومة وسوء الإدارة الاقتصادية، ما زال الزعبي والكثيرون غيره يخيمون في وسط مدينة بيروت، ويسهل وصولهم وتجمعهم في التظاهرات والحركات المخطط لها ضد النخبة السياسية اللبنانية، كما يقول موقع Middle East Eye البريطاني.
معظم الخيام التي تشغل وسط العاصمة الآن تطورت لتصبح بنايات مؤقتة من الألواح الخشبية والمشمع، وهي رموزٌ جاسدة تشير إلى عزم الحركة الاحتجاجية على الإطاحة بالمؤسسة السياسية التي يرون أنها مسؤولةٌ عن تخبط الاقتصاد اللبناني.
قاسى سكان هذه الخيام من العواصف المطيرة الشديدة والهجمات المتكررة من أنصار حزب الله والأمل، وهما حزبان سياسيان شيعيان متحالفان يجاهران بانتقاد الانتفاضة.
في مثل هذه الليالي، يحرس طاهر ورفاقه محيط الاعتصام، ويحذرون الآخرين من الغارات القادمة. وفي ليالٍ أخرى، يساعد في قطع الطرق بهدف الضغط على النخبة السياسية للاستسلام. وعلى الرغم من نشاطه الشديد وانهماكه في الثورة اللبنانية منذ يومها الأول، ليس الزعبي لبنانياً في نظر القانون.
"يُعتبر أجنبياً"
عاش الزعبي حياته كلها في لبنان، منذ ولادته لأب فلسطيني وأم لبنانية. لا يعرف عن فلسطين سوى حكايات جده، لكن القانون يعتبره أجنبياً. من الناحية القانونية، يمكن للرجال اللبنانيين فقط تمرير جنسيتهم لزوجاتهم ونسلهم عبر قانون الجنسية القائم من عصر الانتداب الفرنسي في لبنان. ويُحظر على النساء اللبنانيات بموجب قانون الجنسية العتيق، تمرير جنسيتهم لأطفالهم، ولذلك يبقى نسلهم -مثل الزعبي- دون حماية قانونية واجتماعية مناسبة في لبنان.
ومن بين الأسباب العديدة التي اعتصم من أجلها الزعبي في وسط بيروت أنه يطالب أيضاً بالجنسية اللبنانية، التي يرى أنها حقٌّ مكتسب، عن طريق أمه. ونظراً لأن الدولة ترى أبناء النساء اللبنانيات والرجال الأجانب أجانب، فعليهم تجديد تصريحات الإقامة كل ثلاث سنوات لكي يسكنوا وطنهم.
لا يمكنهم التعامل مع المؤسسات الصحية العامة مثل مستشفيات التأمين القومي، أو المستشفيات المدعومة حكومياً، بالرغم من أنهم يدفعون ضرائبهم للنظام، ويُمنَعون من الكثير من الأعمال والمهن، ولا يمكنهم الاقتراض من البنوك، وفي بعض الحالات يُمنَعون من تملُّك أو حتى ورث الممتلكات بموجب الحدود الموضوعة على حصص التملُّك المسموحة للأجانب.
باختصار، تصطدم تعاملاتهم مع العمل، والتعليم، والخدمات الاجتماعية، والصحية، بالعديد من العوائق. في الوقت نفسه، من الصعب قياس الوصمة النفسية التي تلحق بهم بسبب حالتهم بوصفهم أجانب.
"تغييرٌ للأفضل"
الزعبي ليس الوحيد. ففي وسط مدينة بيروت وفي جميع أنحاء البلاد هناك عددٌ لا حصر له من "الأجانب" من أمهاتٍ لبنانيات يتشاركن المطالب الشعبية ذاتها مع المواطنين اللبنانيين بإطاحة النخبة السياسية، ويطالبون بإنهاء الفساد المستشري والقيادة الحكومية السيئة التي يعتقدون أنها اجترت البلاد للأرض طوال الثلاثين عاماً الماضية.
بالنسبة لإيفا (24 عاماً) وتقبع في وسط مدينة بيروت أيضاً ليلاً ونهاراً، فإن المطالبة بالجنسية مطلبٌ واحد فقط من بين العديد من مطالبها بصفته جزءاً من مشاركتها في الحراك الجماهيري الشامل في لبنان.
قالت إيفا عن لبنان وهي تجلس على الرصيف المقابل لخيمتها التي تقبع فيها خلال فترة النهار: "إنه أجمل بلد في العالم، وأريد تغييره للأفضل". وأضافت: "لن أسمح للسياسيين الفاسدين بأن يخرِّبوا بلادي".
مات والد إيفا، المواطن السوري، في لبنان حين كان عمرها 13 عاماً، ولا يوجد تقريباً ما يربطها بسوريا إلا جنسيتها. آخر مرة كانت في بلاد والدها كانت تسعى للعلاج من سرطان الدم، الذي شُخِّصَت حالتها به منذ عام.
قيل لها إن الدواء الذي تحتاجه سيكلِّفها 1600 دولار في الجلسة الواحدة في لبنان، لأنها لا يمكنها الانضمام إلى التأمين الصحي القومي أو المنشآت الصحية المدعومة حكومياً. وفي سوريا، الرعاية الطبية مجانية في المستشفيات الحكومية.
لكنها تقول إن السعي للعلاج في سوريا يعني الحياة والعمل في دولة أجنبية دون نظام دعم، وفي النهاية ستكون تكلفة الحياة نفسها. وأصرت: "من تربَّى على أرضٍ لا يمكنه الانتقال ببساطة ليعيش على أخرى".
تقدِّر إيفا، التي لم ترغب في كشف اسمها الحقيقي، ما يتبقَّى لها في الحياة بحوالي 4 أو 5 سنوات. وتقول إنها تصالحت مع موقفها وتخلَّت عن فكرة العلاج، لكنها تصر على أن تغييراً في قوانين الجنسية القديمة قد يكون مفيداً لمن هم في موقفها.
وفي الوقت الحالي، تقول إيفا إنها وجدت السلام في الثورة التي منحتها الإحساس بالانتماء بتوحيد مختلف الناس من جميع أنحاء لبنان. وقالت بهدوء: "أشعر أن هذا المكان هو موطني".
ترسيخ وجود مادي
عادة ما تتحجَّج الحكومة بالتوازن الطائفي الهشّ في لبنان لرفض إعطاء اللبنانيات الحق لتمرير جنسيتهم، على الرغم من أن قانون الجنسية العتيق الذي عمره 95 عاماً يعود لعصر الانتداب الفرنسي.
يقول السياسيون إن منح المرأة الحق لتمرير الجنسية للأزواج الأجانب والذرية سيُثقِل كفَّة الميزان لصالح الأغلبية السنية المسلمة، لأن معظم اللاجئين الفلسطينيين والسوريين الذي يقيمون في لبنان هم من السُّنة.
لكن هذا المنطق معيبٌ وعنصري، من وجهة نظر مريم الذهبي، المنسقة في حملة "جنسيتي كرامتي"، لأن هذا لا يسري على رجال لبنان الذين يتزوجون من نساءٍ أجنبيات، والذين يرث أطفالهم تلقائياً الجنسية اللبنانية.
"جنسيتي كرامتي" هي واحدة من بين العديد من المنظمات الشعبية الناشطة التي جعلت وجودها ملحوظاً في انتفاضة لبنان. فبعد أن طالبوا بتعديل في قانون الجنسية لسنوات، أنشأوا أكشاكاً من الخيام في العديد من المدن في لبنان، من بينها وسط بيروت، ينادون من خلالها بحقوق نساء لبنان في منح الجنسية لأزواجهن وأبنائهن، وهو ما يرونه حقاً أساسياً.
تؤكد مريم، مسؤولة الإعلام والتواصل في هذه الحملة، أن عدد الأفراد الذين "لا يمكنهم العيش بكرامة في بلدهم" من أمهات لبنانية، ليس عدداً تافهاً.
لا توجد إحصائياتٌ رسمية حالياً للنساء المتزوجات من أجانب، ولا لعدد الذرية المتأثرة بهذا القانون، سوى تقرير بالشراكة مع برنامج التطوير التابع للأمم المتحدة في عام 2009، وجد أن هناك تقريباً 18 ألف امرأة تزوجن من أجانب، في الفترة من 1995 وحتى عام 2008. وعلى الأغلب زاد العدد منذ ذلك الحين.
تقول مريم إن المتأثرين بهذا القانون: "لم يعرفوا سوى هذا البلد وحبه، وهذا البلد يرفض وجودهم".
"المرأة ليست أقل من الرجل"
تأتي زينة القيسي، لبنانية مطلقة، إلى التظاهرات كل يوم بهدف تأمين مستقبل ابنها، الذي ورث جنسية أبيه السوري رغم حضانتها له. وُلِدَ ابنها حمود، ذو الأربعة أعوام بخصية معلقة، وهو ما قد يؤدي إلى مضاعفات صحية عديدة بعد ذلك في حياته مثل سرطان الخصية. لكن العملية الجراحية مكلفة، وحمود مثله مثل إيفا لا يمكنه الانتفاع بالتأمين الصحي القومي بسبب جنسيته السورية.
عندما حملت زينة في البداية، لم يخطر ببالها قط أن ابنها لن يكون لبنانياً. علَّقَت زينة بحسرة: "لم أفكر في الأمر قط، لأنه يبدو واضح جداً، سيكون لبنانياً". وأضافت: "لكن الآن سيتوجَّب عليه الهجرة من بلده إذا كان يريد أن يعيش بكرامة".
لا يمكن لأحد أن يلومها على استيائها من قانون الجنسية. وقالت ساخرةً: "إنها كراهية النساء في أنقى صورها". المرأة ليست أقل من الرجل. لكن في هذه الدولة الأمر مقلوب، ونحتاج تغيير هذا".
في العام الماضي، عبَّرَ جبران باسيل، وزير الخارجية اللبناني، وقائد حزب التيار الوطني الحر، وهو حزب سياسي مسيحي، عن دعمه لتعديل في قانون الجنسية من شأنه إعطاء الحق للمرأة لإضفاء جنسيتها اللبنانية على زوجها وذريتها.
لكن مقترحه أشعل الخصام لأنه سهَّل منح الجنسية للأجانب من "الدول المجاورة" مثل سوريا وفلسطين، وهذه الدول ذات أغلبية سنية. باسيل ليس وحيداً في قلقه حيال اضطراب التوازن الطائفي بتجنيس "الأجانب" الذين لهم أمهات لبنانيات.
يكافح لبنان ليدعم حوالي 1.5 مليون لاجئ من سوريا المجاورة التي دمَّرَتها الحرب الأهلية الوحشية، ومئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين الذين أقاموا في البلاد طوال 71 عاماً مضى، بعد ترحيلهم بالقوة من فلسطين، التي أصبحت الآن "إسرائيل".
بالنسبة لدولةٍ صغيرة متعددة الطوائف تعاني من تخبُّطٍ اقتصادي، أصبح اللاجئون كبش فداء سهلاً للهروب من المأزق السياسي والاقتصادي في لبنان، هناك العديد من اللبنانيين الذي لا يحبون الفلسطينيين والسوريين.
المطالب ذاتها
يقول متظاهر من وسط بيروت يدعى هشام بواس، رداً على سؤال موقع Middle East Eye البريطاني، إذا كان يرى أن الأجانب ذوي الأمهات اللبنانيات، يجب أن يشاركوا في الثورة اللبنانية: "لا يحق لهم فهم ليسوا لبنانيين. ربما إذا أصبحوا لبنانيين يمكنهم المشاركة".
من الصعب تحديد مدى شعبية رأي مثل هذا، إذ أظهر الكثير من اللبنانيين الثائرين اعتراضاً واضحاً لنظام الحكم الطائفي، وتمثَّل هذا الاعتراض في مطالبات المتظاهرين بحكومة تكنوقراط منفصلة تماماً عن الطبقة السياسية الحالية.
يقرّ طاهر الزعبي، نصف الفلسطيني نصف اللبناني، الذي كان ناشطاً في التظاهرات منذ اليوم الأول، بأن "الكثيرين من الناس يعتقدون أن الفلسطينيين يستغلون الثورة للمطالبة بالجنسية".
ويقول: "لكن مطالبي هي نفس مطالب جميع من في الثورة". وأضاف: "باعتباري أجنبياً، لا أعلم إذا كان لديّ الحق لانتقاد النخبة السياسية. لكنني لست أجنبياً، بغض النظر عما يقوله القانون. وأنا أنتقد النخبة السياسية".
في اليوم الـ57 من الثورة، تمطر السماء ثانية، وما زال الزعبي هناك، يدخن سيجارة، ويحل الخلافات بين جيرانه المتخاصمين. مشهدٌ يرسم صورةً لرجلٍ لبناني صميم، إلا أنه ينقصه مُكوِّنٌ واحد: جنسيته.