الحكم الصادر بحق الرئيس السوداني المعزول، عمر البشير، بعد إدانته بالفساد المالي وحيازة عملات أجنبية بصورة غير مشروعة، بالسجن عشر سنوات وإسقاط العقوبة، بسبب تخطيه سن السبعين- أثار جدلاً واسعاً بشأن التهم التي حوكم على أساسها ومبدأ إسقاط عقوبة السجن لكِبر السن أيضاً.
ماذا حدث؟
كانت محكمة سودانية قد أدانت، أمس السبت 14 ديسمبر/كانون الأول 2019، الرئيس المعزول عمر البشير بالفساد المالي وحيازة مبالغ بالعملة الأجنبية بصورة غير مشروعة، وقضت بإيداعه مؤسسة الإصلاح الاجتماعي مدة عامين، كما قضت المحكمة الجنائية بمصادرة المبالغ المالية موضوع الدعوى، وذلك عقب إصدارها حكماً بالسجن 10 سنوات ضد البشير (75 عاماً). لكن المحكمة، وفي الجلسة نفسها، أسقطت حكم السجن عن البشير؛ لتجاوزه السبعين عاماً.
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت تحليلاً للقصة، بعنوان: "الحكم على رئيس السودان المعزول عامين في قضية فساد"، ألقت فيه الضوء على ثورة السودان التي أدت إلى عزل البشير، وإلى أين وصلت الأمور، والعناصر الغائبة في محاكمته.
على مدى ما يقرب من 3 عقود، حَكَم الرئيس عمر حسن البشير السودان بقبضة من حديد؛ إذ سجن معارضيه وحلفاء سابقين، وأشرف على الاضطهاد الوحشي لأهالي منطقة دارفور، وقمع الاحتجاجات التي تجرأت على تحدي نظام حكمه.
لكن أمس السبت 14 ديسمبر/كانون الأول، أدانت محكمة وسط العاصمة الخرطوم البشير، البالغ من العمر 75 عاماً، في قضية فساد تمثل أول محاولة من مواطنيه لمحاسبته على أفعاله، وأصدرت حكمها.
كيف جاءت ظروف محاكمته؟
وأطيح البشير من الحكم في أبريل/نيسان، عقب أشهر من مظاهرات متواصلة بأنحاء الدولة نجحت في إقناع كبار القادة العسكريين بالتخلي عن دعمه. وحين فتشت قوات الأمن منزله، وعثرت على حقائب مكدسة بملايين الدولارات واليورو والجنيهات السودانية، اعتقلت البشير واتهمته بحيازة عملات أجنبية والفساد وتلقي هدايا غير مشروعة.
وقد يواجه البشير إدانات أشد تتعلق بانتهاكات مزعومة لحقوق الإنسان. وقد اتُّهِم، بالفعل، بقتل محتجين في مظاهرات تنادي بالديمقراطية في وقت سابق من العام الجاري، واستدعته المحكمة هذا الشهر؛ لدوره في الانقلاب الذي جاء به إلى الحكم في عام 1989.
ومنذ 10 سنوات مضت، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لائحة اتهام ضد البشير شملت جرائم إبادة جماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، لكن مجلس الوزراء العسكري-المدني، الذي يحكم السودان الآن -وتشكَّل عقب أشهر من المفاوضات العصيبة- لم يوافق إلى الآن على تسليمه إلى المحكمة الدولية ليُحاكَم أمامها.
محاكمته تعكس رغبة شعبية جارفة
وفي هذا الصدد، علَّق جلال يوسف، وهو فنان سوداني كان له دور بارز بالاحتجاجات التي أطاحت البشير، إنَّ الدعوى القضائية الحالية ضد الرئيس المعزول تعكس رغبة كثير من الشعب، وقال يوسف: "ارتكب البشير كثيراً من الجرائم في السودان. أعرف أنه مذنب والجميع يعرف ذلك أيضاً".
واستطرد يوسف قائلاً إنَّ محاكمة البشير، مع ذلك، بتهم الفساد فقط، وليس بتهم انتهاكات حقوق الإنسان "ليس منطقياً، ولا يرقى إلى تحقيق العدالة الحقيقية لضحاياه"، وأضاف يوسف: "الجميع غير راضين عن ذلك، الشوارع يقظة وما زلنا ثائرين".
المحاكمة تمثل لحظة تاريخية
ومع ذلك، تُمثِّل هذه المحاكمة لحظة محورية في مسار التحول الديمقراطي الصعب بالسودان، وهو دولة استراتيجية كبيرة تعتبر الجسر الواصل بين شمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى. ومن خلال مثوله أمام المحكمة، ينضم البشير إلى قائمة من القادة الاستبداديين سيئي السمعة الذين أطاحتهم من مناصبهم احتجاجات شعبية، وحوكموا على ما ارتكبوه من أفعال في أثناء وجودهم بالسلطة.
لكن من جانبهم، قال محامو البشير إنه من الشائع أن يحتفظ القادة بعملات أجنبية. وعلى الرغم من أنَّ البشير اعترف للمحققين بأنه تلقى 90 مليون دولار من أفراد العائلة المالكة السعودية، تتعلق المحاكمة الحالية بمبلغ 25 مليون دولار من تلك الأموال، تلقاها البشير من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
الإدانة كسرت عقوداً من الحصانة
ولسنوات عديدة، بدا البشير أبعد من أن تطوله يد القانون. ويقول جوناس هورنر، وهو خبير في الشأن السوداني بمنظمة International Crisis Group للأبحاث، إنَّ إدانة البشير في قضية الفساد من شأنها أن "تكسر موجة الحصانة التي سادت" في عهد البشير وحزب المؤتمر الحاكم، وأضاف هورنر: "أعتقد أنَّ الناس عموماً بالسودان سيُسرُّون ويسعدون بصدور حكم إدانة" ضد البشير.
جاء إلى الحكم بانقلاب وأطيح منه بثورة
وبعد مسيرة مهنية بالجيش، تولى البشير مقاليد الحكم في السودان عقب انقلاب، لم تُرَق فيه قطرة دم واحدة، في عام 1989. وخلال فترة حكمه، عانى السودان صراعات مسلحة وصدمات اقتصادية متعددة. إلى جانب ذلك، قدَّم البشير ملاذاً لأسامة بن لادن قبل سنوات من هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية؛ وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى إدراج السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب.
لكن في ديسمبر/كانون الأول الماضي، اندلعت احتجاجات على ارتفاع سعر الخبز، وهو أحد أعراض الأزمة الاقتصادية الحادة بالدولة. وبدأت الاحتجاجات من مدينة عطبرة الشمالية الشرقية، وسرعان ما انتشرت إلى المدن الكبرى وضمن ذلك أم درمان والعاصمة الخرطوم.
ولكسر شوكة هذه الانتفاضة، أوقفت السلطات مؤقتاً الإنترنت، واعتقلت بعض المعارضين والصحفيين الناقدين، واستخدمت الغاز المسيل للدموع؛ لتفريق الحشود المتزايدة التي هتفت: "الشعب يريد إسقاط النظام".
وعقب أشهر من الاحتجاجات الصاخبة بقيادة الشباب السوداني والأطباء وغيرهم من المهنيين، عزل الجيش البشير من منصبه واعتقله في 11 أبريل/نيسان، ليضع بذلك النهاية لواحدة من أطول فترات الحكم في إفريقيا.
ووُضِع البشير في البداية قيد الإقامة الجبرية بمكان إقامته في مقر الجيش، لكن نُقِل بعدها إلى سجن كوبر، الذي احتجز فيه البشير سابقاً المتظاهرين والسجناء السياسيين.
ثم في منتصف شهر أغسطس/آب، توصل قادة السودان العسكريين، ومعهم تحالف المعارضة، الذي وُلِد من رحم الاحتجاجات، إلى اتفاقية لتقاسم السلطة تَعِد بالإشراف على الانتخابات والعودة إلى الحكم المدني في غضون ثلاث سنوات. وعُيِّن عبدالله حمدوك، وهو خبير اقتصادي، رئيساً للوزراء، في حين ترأس الفريق عبدالفتاح البرهان مجلساً سيادياً يتألف من 11 شخصاً.
واتخذت الحكومة الانتقالية خطوات للحفاظ على انتقال السودان على المسار الصحيح، ولتلبية المطالب الرئيسية للمتظاهرين المؤيدين للديمقراطية. إذ حلَّت إدارة حمدوك حزب المؤتمر، وألغت قوانين الأخلاق التي تحظر الشرب وارتداء النساء ملابس كاشفة، وأقنعت الإدارة الأمريكية بإرسال سفير إلى الخرطوم، لأول مرة منذ 23 عاماً.
وزار حمدوك وحكومته واشنطن مؤخراً؛ في محاولة لشطب السودان من قائمة الحكومة الأمريكية للدول راعية الإرهاب؛ وهو التصنيف الذي أدى إلى شل الاقتصاد السوداني وخفض الاستثمارات الأجنبية وفرض قيود على تخفيف الديون.
مخاوف من بداية محاكمته على تهم فساد مالي فقط
ودعمت منظمة Sentry، وهي مرصد حقوقي أسسه الممثل جورج كلوني والناشط الحقوقي جون بريندرغاست، إزالة السودان من القائمة هذا الأسبوع، مستشهدة بخطوات إيجابية اتخذتها إدارة حمدوك.
وقال هورنر، الخبير في الشأن السوداني، إنه على الرغم من أنَّ محاكمة الفساد ضد البشير حاسمة، يخشى عديد من السودانيين من أنَّ محاكمته على جرائم الفساد أولاً، لن تحقق عدالة ذات مغزى.
وأوضح هورنر أن "الجرائم المالية تأتي في مرتبة ثانوية لكثير من السودانيين"، وبالأخص في عيون أولئك الذين عانوا بسبب الحملة العسكرية الوحشية بمنطقة دارفور الغربية، والتي أسفرت عن مقتل 300 ألف شخص منذ عام 2003، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
وأضاف أن "الشاغل الأهم لأهالي دارفور والمناطق النائية في جنوب السودان وغربه هو رؤية البشير يُحاسَب على الجرائم الأشد عنفاً والتي أوقعت أضراراً أبشع بكثير".