تحكي الأسطورة أنَّه في 28 سبتمبر/أيلول 1918، ركض أدولف هتلر جريحاً على مرأى من الجندي البريطاني هنري تندي، الذي حاز لاحقاً "صليب فيكتوريا" لشجاعته في الاشتباكات التي دارت في ماركونج بفرنسا. وتضيف الحكاية أنَّ تندي رفق بجندي ألماني جريح قليل الحيلة، وأنَّ الأخير أومأ له برأسه في امتنان وفر هارباً.
وفي حين يعتقد المؤرخون أن هذه الحادثة من نسج خيال هتلر نفسه، فإن هذه الأسطورة المشكوك في صحتها تفرض سؤالاً مستفزاً طرحته مجلة The National Interest: كيف كانت أحداث التاريخ ستسير، إذا كان الجندي البريطاني قد أضاف هتلر إلى قائمة قتلى مذبحة الحرب العالمية الأولى؟
بمعنى آخر: هل كان وقوع الحرب العالمية الثانية مرتبطاً بقوى اقتصادية وسياسية أكبر؟ أم أنه كان ناتجاً بشكل خالص عن زعيم وحشي صاحب كاريزما غادر الحياة بعد أن حوَّل مسار التاريخ في إثره؟
هل كان النازيون سيصعدون إلى السلطة دون هتلر؟
ظهر الحزب النازي في أوائل أيامه في صورة حزب العمال الألماني، الذي أسسه صانع أقفال اسمه آنتون دريكسلر. في الواقع، كلفت المخابرات الحربية الألمانية هتلر بعد الحرب العالمية الأولى باختراق حزب العمال الألماني، غير أنّ الحال انتهى بتحوله إلى النازية وتوليه زعامة الحزب عام 1921.
وعلى ذلك، من الواضح أنَّ القدر كان يخبأ لألمانيا اليمين المتطرف الصاعد من الطبقة العاملة حتى دون وجود هتلر، وحملته نفس تيارات الشدة الاقتصادية والغضب العدواني الناتج عن تلقي ألمانيا التي "لا تقهر" طعنة في الظهر بانسحابها من الحرب العالمية الأولى.
ولكن على الجانب الآخر، ثمة دليل قوي على أن صعود النازيين إلى السلطة جاء من الظروف غير الاعتيادية المرتبطة بهتلر نفسه. ذلك أنه حتى مع وجود هتلر لم يحظَ النازيون سوى بـ37% فقط من الأصوات في انتخابات عام 1932.
انتخب معظم الألمان (53%) الجنرال ورجل الدولة باول فون هيندنبورغ، الذي دعمته أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط، ليكون رئيساً للبلاد. ورغم أن هيندنبورغ البالغ من العمر 84 عاماً كان يكن كرهاً شخصياً لهتلر، فإنه وجد صعوبة كبيرة في تشكيل ائتلاف واقتنع أخيراً بتعيين هتلر مستشاراً. وبعد هجوم مدبر على مبنى البرلمان الألماني الرايخستاغ، استطاع هتلر إقناع هيندنبورغ بحل البرلمان، مما سمح لهتلر بالصعود بموجب مرسوم رئاسي.
وبالتالي، فإن صعود النازيين إلى السلطة لم يكن وليد الدعم الشعبي الطاغي، وإنما نتيجة لعوامل سياسية غريبة كان من الممكن أن تؤدي إلى نتيجة مختلفة لو لم يكن هتلر في الصورة.
ولو لم يكن النازيون هم من يديرون المشهد، هل كانت ألمانيا لتبدأ حملاتها العسكرية في أوروبا؟
ربما لا، على المدى القصير. تقول المجلة الأمريكية: لا شك أنه كان هناك شعورٌ بأن ألمانيا تعرضت لسوء المعاملة بفعل معاهدة فرساي (رغم أن ألمانيا لم تدفع سوى ثُمن التعويضات المستحقة عليها وأعفيت من القدر المتبقي عام 1932)، ورحبت النخبة القديمة بتركيز هتلر على إعادة بناء القوة العسكرية لألمانيا.
وكان الجيش الألماني على وجه التحديد يؤمن أن ألمانيا تستحق استعادة مكانتها كقوة عظمى، ودافع عن وجود مجتمع أكثر شمولية وعسكرية. ورعى المختصون الفنيون داخل الجيش الألماني سراً تطوير الدبابات والسفن والطائرات الحربية الممنوعة، وفقاً لمعاهدة فرساي في عشرينيات القرن العشرين (ومن المفارقات أن هذا تم بمساعدة سوفيتية)، أي قبل سنوات من صعود هتلر إلى السلطة.
ومع ذلك، فإن القيادة العليا للقوات المسلحة (فيرماخت) كانت تعتقد أن حروب هتلر تتسم بالتهور، بل إن بعضهم خططوا للانقلاب عليه. لم يكن رفضهم لحروب هتلر من منطلق رفض مبدأ غزو دولة أجنبية، وإنما كان لاعتقادهم أن ألمانيا تحتاج من ست إلى عشر سنوات أخرى لبناء قواتها.
وبالتالي فإن ألمانيا كانت ستعاود الصعود كقوة عسكرية، ولكن ليس بالضرورة بالوتيرة الجنونية التي دفعها بها هتلر.
ربما كانت ألمانيا دون النازيين ستعود إلى القومية العسكرية. كما أن المناطق الحدودية المثيرة للجدل- إقليم السوديت في التشيك، والممر البولندي الغريب جغرافياً، كانت ستظل نقاط خلاف محتملة.
غير أن الرياح السياسية في البلاد كان من الممكن أن توجه سفينة الجمهورية الألمانية في طريق أقل تدميراً لها.
هل بدأ ستالين الحرب العالمية الثانية؟
جاء رد فرنسا والمملكة المتحدة على هتلر مشوشاً بفعل انشغالهما بالتهديد الذي يشكله الاتحاد السوفيتي بزعامة ستالين. وحتى إبان أزمة ميونيخ عام 1938، رفضت باريس ولندن عرضاً للتحالف مع موسكو، خوفاً من السوفييت أكثر من خوفهما من النازيين.
في الواقع، يزعم بعض المؤرخين أن الاتحاد السوفيتي كان يعتزم غزو ألمانيا.
لا شك أن ستالين كان مستعداً لأي غزو انتهازي. فقد تعاون مع هتلر في احتلال بولندا عام 1939، وغزا فنلندا في شتاء العام نفسه، ثم استحوذ على دول البلطيق ومقاطعة بيسارابيا الرومانية.
غير أن ستالين فضل اختيار دول ضعيفة لا تحظى بدعم حلفاء أقوياء. وثمة سبب قوي للتشكيك فيما إذا كان الجيش الأحمر السابق للحرب العالمية الثانية كان ليشكل التهديد نفسه الذي شكلته ماكينة الحرب الألمانية النازية. في حرب الشتاء التي دارت رحاها عام 1939، بذل أكثر من نصف مليون من القوات السوفيتية المدعومة بآلاف الدبابات والطائرات الحربية جهداً كبيراً لهزيمة القوات الفنلندية الأقل عدداً وتسليحاً، وتكبدت خسارة باهظة، وبالنظر إلى هذا المستوى المتدني في الأداء، يصعب تصديق أن ستالين كان سيعتبر الجيش الأحمر مستعداً للدخول في مواجهة مع أوروبا الغربية.
ومع ذلك، فإن عدوان هتلر قطع مسيرة التنافس الاستراتيجي بين أوروبا الغربية وموسكو. وفي غياب هتلر، كان من الوارد أن تندلع حرب باردة مبكرة بين الطرفين.
ماذا عن الصين واليابان؟
بالنسبة لما يزيد عن سُدس كوكب الأرض، بدأت الحرب العالمية الثانية ليس في سبتمبر/أيلول 1939، وإنما في يوليو/تموز 1937، حين شرعت اليابان الإمبريالية في غزو ثانٍ واسع النطاق للصين عقب حملة سابقة عام 1933.
كانت الروح القومية العسكرية التي سادت في طوكيو آنذاك قد تصاعدت رداً على الاستعمارية الأوروبية، وليس كاستجابة للفاشية. وبالتالي فإن غزو اليابان للصين كان سيحدث على أي حال. وربما أدى ذلك إلى فرض الحظر الأمريكي على البترول الذي قاد طوكيو إلى التخطيط لهجوم بيرل هاربر.
غير أنه من الناحية التاريخية، كان السبب في فرض الحظر الأمريكي هو غزو اليابان لاندوتشاينا الفرنسية، وهو غزو مفاجئ لم يكن ليحدث دون هزيمة فرنسا على يد ألمانيا.
لا شك أن الحسابات الاستراتيجية لليابان عام 1940 كانت ستختلف كثيراً لو لم تكن هناك حربٌ دائرة في أوروبا. وقد كان المقصود من الإغارة على بيريل هاربر كسب الوقت حتى تتمكن اليابان من السيطرة على الأراضي البريطانية والهولندية في آسيا، لاسيما حقول النفط في جزر الهند الشرقية التابعة لهولندا.
ولو كانت طوكيو قد أحجمت عن مواجهة هيمنة المملكة المتحدة والولايات المتحدة، لكانت بدلاً من ذلك قد حازت مكانة أعمق في الصين، وطورت قوة اقتصادية لإمبراطوريتها التي خططت لإقامتها على عدة دول، أي محور شرق آسيا الأكبر للرخاء المشترك. ربما أدى هذا إلى إطالة احتلال اليابان لكوريا وأجزاء من الصين، وعزز إقامة روابط أكثر توطداً مع القوميين في تايلاند والهند.
عالم مختلف
في بداية الحرب العالمية الثانية، كانت هناك ست قوى عظمى لها محاور تأثير في دول متعددة: المملكة المتحدة وفرنسا بإمبراطوريتيهما الاستعماريتين في إفريقيا وآسيا؛ وألمانيا التي هيمنت على أوروبا الوسطى؛ واليابان وإمبراطوريتها المتنامية في آسيا/المحيط الهادئ؛ والاتحاد السوفيتي بتأثيره في أوروبا وآسيا الوسطى؛ والولايات المتحدة، التي كانت آنذاك تنسحب من المغامرات الاستعمارية في أمريكا اللاتينية والفلبين.
دمرت الحرب العالمية الثانية وجود ألمانيا واليابان كقوتين عظميين. ولم يبق لفرنسا والمملكة المتحدة سوى ظلال من كيانهما السابق. أما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة فقد برزتا كقوتين عسكريتين عظيمتين لهما أقدام راسخة في أوروبا وآسيا.
ومن هذا التبدل الضخم في النظام العالمي ظهرت الأمم المتحدة، وإسرائيل، وحلف الناتو، وحلف وارسو، وتحولت الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية إلى دول قومية مستقلة، وانفصال الكوريتين الشمالية والجنوبية.
تقول المجلة الأمريكية، إنه دون الحرب العالمية الثانية كانت تقنيات عديدة غيرت وجه العالم، مثل العلاج الكيماوي والصواريخ والقنبلة النووية ستتطور في أزمان وأماكن مختلفة. وكانت الحركات التي تأثرت بالتغييرات الاجتماعية التي أحدثها النزاع، مثل حركة الحقوق المدنية أو استقلال الهند، ستأخذ مناحي مختلفة.
ودون نظريات هتلر عن الإبادة الجماعية، لكان من الممكن تجنب المجزرة التي أودت بحياة اليهود وغيرهم من الأقليات في الهولوكوست، بل إن معاداة السامية نفسها لم تكن لتستمر. ربما كان من الممكن أن تتجنب جمهورية فايمار صعود ألمانيا النازية إلى الشكل العسكري والأصولي.
ومع ذلك، لم يكن ثمة مفر من أن يعايش العالم نزاعات جمة، كانت ستصل في أماكن وأزمان مختلفة، ولكنها كانت ستحل التوترات المعتادة بين الرأسمالية والشيوعية، والاستعمار والاستقلال المحلي، والقومية والعالمية.
ولا يمكننا أن نخمن على وجه الدقة الصورة التي كانت تلك النزاعات ستنتهي بها، ولكن يمكننا القول إن النسخة التاريخية البديلة لأغنية "We Didn't Start the Fire" كانت ستبدو كاملة لا ينقصها أي محتوى إضافي.