عندما وصل جهاد ناصر إلى عيادة إصابات الحوادث بمستشفى "العودة" في غزة، كان يأمل أن يوقف الأطباء ألمه أخيراً. فهناك جرح في ساقه اليمنى من جراء طلق ناري لم يلتئم على نحو صحيح، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهيه السفن.
فالكسر المضاعف الذي يعاني منه تلوَّث على نحوٍ سيئ ببكتيريا المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين، المعروفة اختصاراً باسم "مارسا". إذ أخبره الأطباء أنه لن يستجيب للعلاج وسيحتاجون لبتر ساقه، كما تروي صحيفة The Guardian الأمريكية.
"فكرت في الانتحار عدة مرات"
يقول ناصر، 28 عاماً، الذي كان يعمل حداداً فيما مضى: "فكرت في الانتحار عدة مرات"، مضيفاً: "تمنيت لو أن الجندي الإسرائيلي (الذي أصابني) قتلني برصاصته هذه".
رفض ناصر الموافقة على عملية البتر، والآن هو في الدورة الثانية من العلاج لمدة 6 أسابيع بالفانكوميسين، وهو المضاد الحيوي الأخير الذي يمكنه مكافحة بكتيريا مارسا.
تزداد معدلات العدوى في المناطق التي تشهد نزاعاً، حيث يخترق الرصاص أو الشظايا الجلد يتأخر العلاج أو يكون غير كافٍ. الآن يواجه أطباء منظمة أطباء بلا حدود معضلة إضافية في معدلات التعافي: وجود "مستويات مرعبة" من مقاومة المضاد الحيوي في عيادات علاج إصابات الحوادث التابعة للمنظمة في الشرق الأوسط.
تقول كلير ميلز، إحدى المديرين الطبيين بمنظمة أطباء بلا حدود: "هناك مرضى من العراق واليمن وفلسطين وسوريا يصابون بجروح بليغة نتيجة للنزاعات، ولا يتلقون متابعة طبية كافية". وأضافت: "هناك مرضى بكسور لم تلتئم أبداً، أو بإصابات في الأعصاب بسبب الحروق. وفي حالة إصابات العظام تأتي معظم الحالات بجراثيم مقاومة للبكتيريا".
وفي غزة، تراجع عدد الفلسطينيين الذين أصيبوا برصاص القوات الإسرائيلية في الاشتباكات التي تقع عند الحدود، منذ بدء تظاهرات مسيرة العودة في 30 مارس/آذار 2018، بشكل ملحوظ منذ شهر مايو/أيار الماضي، عندما قُتل وأُصيب 6 آلاف شخص.
أضرار نفسية جسيمة غير الأضرار الجسدية المرعبة
في العام الماضي، ضاعفت منظمة أطباء بلا حدود قدرتها الاستيعابية في غزة ثلاث مرات، لأنه كان هناك اعتقاد بأن معظم المرضى ربما يعانون من جراثيم مقاومة لعدة أدوية مثل بكتيريا مارسا، لكن حتى شهر أبريل/نيسان، كان الأطباء يفتقرون إلى المعامل المتخصصة لاختبار نظريتهم.
منذ ذلك الحين، أظهرت عينات الأنسجة والعظام أن 83% من المرضى الذين دخلوا إلى العيادات التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود في غزة كانوا يعانون من العدوى. ومن بين المصابين بالعدوى 62% منهم مصابون بجراثيم مقاومة لعدة أدوية مثل مارسا.
تُعقّد مثل هذه العدوى علاج الكسور المضاعفة، ولا بد أن يُعزل المرضى، مما يُلحق بهم أضراراً نفسية جسيمة.
يقول الدكتور محمد أبومغيصيب من منظمة أطباء بلا حدود في غزة: "عدوى العظام صعبة للغاية، فالجراثيم تختبئ داخل العظم. سيضطر المريض للخضوع إلى 3 أو 5 عمليات جراحية على مدار ثلاث سنوات لإصلاح هذه الإصابة. يحتاج العديد منهم للعزل في غرفة مزودة بتجهيزات احترازية خاصة، من أجل (الحفاظ على سلامة) المرضى والعاملين".
وأضاف: "إذا لم يعالج المرضى بطريقة صحيحة فقد ينتهي بهم الأمر بالبتر. إنه موضوع حساس للغاية"، لا يمكن لأي شخص دخول وحدة العزل بمستشفى "العودة" دون ارتداء زي المستشفى. يوجد بغرفة ناصر سريران وتلفزيون. أحد السريرين للزوار، لكنه يقول إن أحداً لم يزره حتى الآن، كان للإصابة أثر سلبي على علاقاته مثلما كان لها أثر على دخله، يتلقى الآن مبلغاً ضئيلاً من جمعية خيرية قطرية، معنية بمساعدة من يصابون في أثناء المظاهرات.
"أشعر بالألم طوال الوقت"
يقول ناصر: "أشعر بالألم طول الوقت، الألم لا يتوقف"، مضيفاً: "مررت بأوقات عصيبة نفسياً نتيجة لهذه الإصابة. علاقتي بأسرتي سيئة للغاية، فكرت في الانتحار مرات عديدة، كنت مكتئباً، ذهبت عند الحدود كثيراً واقتربت للغاية من السياج لكنهم لم يطلقوا عليّ الرصاص".
قبل أن يصل ناصر إلى عيادة إصابات الحوادث، قضى 9 أسابيع في العناية المركزة في أحد مستشفيات وزارة الصحة. يقول ناصر إن أطباء منظمة أطباء بلا حدود منعوه من قتل نفسه. وقال: "الآن أتمنى أن أُشفى وأعود إلى حياتي الطبيعية".
في غزة يمكنك الحصول على المضادات الحيوية من الصيدليات دون الحاجة إلى أن يصفها الطبيب لك، مما أدى إلى سوء الاستخدام، إذ تستخدم المضادات الحيوية مراراً وتكراراً دون وجود حاجة حقيقية، ولا تكتمل دورات العلاج لنهايتها، ويأخذ الأشخاص جرعات غير كافية، وكلها أشياء تزيد من خطر تطور بكتيريا مقاومة.
بالإضافة إلى ذلك، فقد قوض عقد من الحصار نظام الرعاية الصحية في غزة، إلى جانب نقص المضادات الحيوية الجيدة والرقابة الكافية.
يقول دكتور محمد بريكة، اختصاصي المضادات الحيوية في مستشفى "العودة"، إن المرضى يخضعون لاختبار في حال كان هناك شك في أن لديهم مقاومة بكتيرية.
ويضيف: "عندما يشعر الأطباء أن المرضى يعانون من ألم مستمر، وجروحهم لا تلتئم، ويصابون بحمى ليلية، نأخذ عينة من العظام"، مضيفاً: "اعتدنا إرسال العينات إلى أحد المعامل في تل أبيب بإسرائيل، لكننا الآن نرسلها إلى وزارة الصحة في غزة. ونحصل على النتائج بعد خمسة أيام أو سبعة".
ويقول إنه في معظم الحالات تأتي النتائج إيجابية، مضيفاً: "تنتشر بكتيريا مارسا في قطاع غزة، كانت لدينا حالة لشاب عمره 17 عاماً، تلقى الدورة العلاجية ثلاث مرات، لكن جراحه لم تلتئم وفقد ساقه".
البتر والصدمات النفسية
أصبح 170 فلسطينياً على الأقل عاجزين بسبب جروح الطلقات النارية في العام الأول من المظاهرات الحدودية، والسبب الرئيسي هو البتر، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.
يقول الطبيب النفسي محمد عواد إن البعض يعاني ألماً عضوياً ونفسياً شديداً، لدرجة أنهم يتوجهون إلى الحدود الإسرائيلية الفلسطينية، أملاً في أن يكونوا هدفاً لرصاصة رحمة من قناص إسرائيلي.
يقول عواد: "كل إصابة تسبب صدمة نفسية للمريض، ويعتمد الأمر على الشخص نفسه والدعم الذي يحظى به"، موضحاً: "يصبحون عصبيين، ويتحدثون إلينا باستمرار عن مشكلات مع العائلة. وتزداد مشكلاتهم المادية سوءاً بعد الإصابة. ويشتكي العديد منهم من أن أصدقاءهم شُفيت جراحهم، وهم ما زالوا مصابين بالعدوى، يصابون بالإحباط سواء كان السبب العزلة أو المرض النفسي، لقد فقد كثيرون الأمل، وقالوا إن المستقبل مظلم للغاية".
أضاف: "ليست لديّ أي إحصاءات دقيقة عن الحالات التي حاولت الانتحار، لأنه كانت هناك حالات خارج العيادة، وبعض المحاولات كانت بطريقة غير تقليدية (مثل العودة إلى الحدود والاقتراب من السياج)، لكن المؤكد أن هناك محاولات للانتحار".