في لبنان، يحب الشعب التفاخر بأنَّ المرء يمكنه التجول بالقرى الجبلية البِكر والسباحة في البحر المتلألئ، كل ذلك في يومٍ واحد، يفاخر اللبنانيون بجمال بلادهم ونظافتها، ولكن هذه الطبيعة الخلابة مهددة بكارثة جراء أزمة النفايات التي تظهر أن الفساد أصبح مؤسسياً في لبنان.
فشواطئ البلاد الرملية الذهبية تعاني الآن من انتشار الزجاجات البلاستيكية، وآلت جداولها الجبلية إلى مكبات نفيات مفتوحة، حسبما ورد في تقرير صحيفة The New York Times الأمريكية.
وتُبقبِق مياه البحر المتوسط بفعل مخلفات الصرف السامة الناتجة عن القمامة المتعفنة. وقد تسبَّب ما يبدو أنَّه انتشارٌ لا يمكن إيقافه للقمامة في إفساد المياه اللبنانية، والأطعمة البحرية، والصحة العامة.
لفهم الاحتجاجات الدائرة في لبنان حالياً وسبب عدم ثقة المحتجين في القيادات السياسية يجب استرجاع أزمة النفايات التي وقعت عام 2015 وأدت إلى مظاهرات حاشدة آنذاك.
كيف بدأت هذه الأزمة؟
تعود جذور عجز الحكومة عن توفير الخدمات الأساسية، بما في ذلك توفير الكهرباء لمدة 24 ساعة وجمع القمامة، إلى اتفاقٍ كان قد أذِن بنهاية الحرب الأهلية اللبنانية قبل قرابة 30 عاماً. قسَّم هذا الاتفاق السلطة بين الطوائف الدينية الـ18 المُعتَرَف بها في البلاد، ما أدَّى عملياً إلى إضفاء الطابع المؤسسي على الفساد بعدما باتت كل مجموعة قادرة على توزيع الوظائف الحكومية والعقود والمزايا والخدمات الاجتماعية على أتباع زعماء الطوائف.
وقد فاض كيل اللبنانيين أخيراً من هذا النظام الذي تسبَّب في إثراء النخبة السياسية في حين أخفق في بناء اقتصاد مستقر أو توفير الأساسيات مثل المياه الجارية التي يمكن الاعتماد عليها أو الإدارة الملائمة للنفايات.
وعلى مدار الأسابيع الستة الأخيرة، احتشد مئات الآلاف من المحتجين في الشوارع يهتفون "أعيدوا الأموال المنهوبة".
وبالفعل أجبر هؤلاء رئيس الوزراء على الاستقالة، لكنَّ أهدافهم أوسع من ذلك: يطالبون بإنهاء الفساد وسوء الإدارة، فضلاً عن المحسوبية الطائفية التي تجعل ذلك ممكناً.
جبال القمامة تملاً بيروت والحل يقدمه مقرب للحريري وآخر لعون.. إضافة المياه لزيادة الوزن
وأزمة القمامة الدائمة ليست إلا المثال الأوضح. وكانت آخر مرة تفجَّرت فيها هذه الأزمة ووصلت إلى الرأي العام في 2015، حين اختلفت النخبة السياسية في البلاد حول عقدٍ مربح لإدارة النفايات بعدما ملأت جبال القمامة شوارع بيروت. وأعقبت ذلك موجة من الاحتجاجات.
كان الحل المؤقت هو بناء مكبّي نفايات جديدين. لكن بعد ثلاث سنوات من افتتاحهما، لم يؤدِّ المكبَّان إلا لنقل أزمة القمامة إلى منطقة الساحل، وهما مهددان باكتمال طاقتهما الاستيعابية سريعاً.
ذهب عقد بقيمة 288 مليون دولار لأحد المكبِّين إلى جهاد العرب، وهو شقيق أحد مساعدي رئيس الوزراء المستقيل مؤخراً والذي ينتمي إلى الطائفة السُنّيّة سعد الحريري.
ووفقاً لثلاثة أشخاص مطلعين على عمليات الشركة، فإنَّها تضيف المياه إلى حاويات القمامة التي تصل كل يوم من أجل تضخيم وزنها وبالتالي زيادة الفواتير.
وذهب العقد الآخر، بقيمة 142 مليون دولار، إلى داني خوري، وهو رجل أعمال مسيحي يُقال إنَّه مقرب من عائلة الرئيس ميشال عون، أكبر قائد مسيحي في لبنان. ووجد الخبراء أنَّ الموظفين في هذا المكب ألقوا القمامة والنفايات السامة مباشرة في البحر المتوسط.
تنفي كلا الشركتين الاتهامات، لكنَّ هناك أمراً واحداً أكيداً: بعد إنفاق 430 مليون دولار على الأقل، لم تقترب مشكلات القمامة في لبنان من الحل إلا قليلاً.
صهر نبيه بري على شاطئ المتوسط
قالت بولا يعقوبيان، وهي عضوة مستقلة بالبرلمان وشكَّكت مراراً في طريقة إنفاق المال العام على الكهرباء ومشروعات البنية التحتية، إنَّ "القمامة أشبه بمنجم ذهب للطبقة السياسية".
والمشكلة لا تقتصر على القمامة فقط، ولا تقتصر كذلك على بضع سياسيين فقط.
فحين ابتلع منتجعٌ مثير للجدل يُسمَّى إيدن باي "Eden Bay" جزءاً من آخر شواطئ بيروت العامة السنة الماضية، لم يتفاجأ الكثير من اللبنانيين بمعرفة أنَّ المُطوِّر العقاري وراء المشروع هو صهرٌ سابق لنبيه بري، رئيس البرلمان وأكبر مسئول شيعي في النظام.
نموذج الفساد الأكبر.. الكهرباء
يقول الخبراء إنَّ أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل لبنان لا ينتج كهرباء كافية لسكانه البالغ عددهم 4 ملايين شخص هو اللوبي القوي من مُلَّاك مولدات الكهرباء الذين توفر مولِّداتهم الكهرباء خلال فترات انقطاع الكهرباء اليومية، وكذلك صناعة وقود الديزل التي تُشغِّل هذه الموالدات والتي تبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار سنوياً.
وتعود ملكية أحد شركات استيراد الوقود الرئيسية، شركة Cogico، إلى وليد جنبلاط، زعيم الأقلية الدرزية.
حين ضغط جبران باسيل، صهر الرئيس عون، لشراء كهرباء إضافية من زوارق الطاقة التركية الراسية قبالة الشواطئ اللبنانية، سأل بعض المسؤولين لماذا تنفق الحكومة مئات الملايين من الدولارات لتأجير الزوارق بدلاً من بناء محطات طاقة خاصة بها.
قال بعض السياسيين إنَّ مسؤولاً بالحكومة حصل على رشى بملايين الدولارات، لكنَّهم لم يحددوا هوية الشخص علناً ولم يثبت أي شيء.
وبعد مرور 5 سنوات، اقترح وزير الطاقة، وهو مستشار سابق لباسيل، دفع مبلغ 1.9 مليار دولار لنفس الشركة للحصول على مزيد من الطاقة، في عملية مناقصة انتقدتها إدارة المشتريات بالحكومة نفسها باعتبارها منحازة.
والنتيجة أن التلوث وصل لمعدل خطير في البحر المتوسط.. وهذا المجلس ينظم الفساد
قال عبدو فرح، وهو صياد يجوب المياه المحيطة ببيروت منذ 34 عاماً وظل يتعمَّق أكثر في البحر بحثاً عن أسماك نظيفة بعدما لوثت مياه الصرف والصرف الصناعي والقمامة الشاطئ دون رقيب: "من المؤسف أن يكون لدينا مثل هؤلاء القادة. إنَّنا نعيش في سلة نفايات".
يجري الجزء الأكبر من عملية إبرام الصفقات في مجلس الإنماء والإعمار، وهو الهيئة الحكومية الغامضة التي تمنح العقود لمعظم مشروعات البنية التحتية الرئيسية في لبنان.
وعادةً ما يُدفَع لهذه العقود من المليارات التي يحصل عليها لبنان كمساعدات من البنك الدولي والدول الأوروبية وغيرها من المانحين الدوليين من أجل جهود إعادة إعمار وتنمية ما بعد الحرب.
وذكرت السفارة الأمريكية في بيروت في برقية لوزارة الخارجية تعود لعام 2009 ونُشِرَت في تسريبات ويكيليكس إنَّ قواعد إرساء العطاءات "تشتهر بأنَّها فضفاضة".
وذكرت البرقية أنَّ ديمبا با، المدير الإقليمي للبنك الدولي في لبنان، قال آنذاك لدبلوماسيين أمريكيين إنَّه "يصارع باستمرار إعلانات مجلس الإنماء والإعمار التي تشير إلى أنَّ هناك بالفعل مقاولاً للمشروعات، وعادةً إما أن يكون هذا المقاول شخصاً مرتبطاً برئيس الوزراء أو شخصاً يحتاجه رئيس الوزراء لرد جميل سياسي أو مالي".
الفساد أصبح مؤسسياً في لبنان والمغانم توزع على قيادات الطوائف بالعدل
يُدار المجلس منذ سنوات من جانب نبيل الجسر، وهو موظف سابق وحليف قديم لعائلة الحريري. لكنَّ مجلس إدارته يضم كذلك شخصاً مسيحياً وآخر درزياً وآخر شيعياً يتصادف أنَّه أخ للرئيس بري رئيس البرلمان.
يقول جاد شعبان، وهو اقتصادي بالجامعة الأمريكية في بيروت وأعدَّ دراسة حلل فيها إنفاق المجلس، إنَّ المستشفيات والطرق والمدارس وغيرها من المشروعات توزَّع على المقاولين المُفضَّلين وفقاً لحصص طائفية تضمن منافع كل زعماء طائفة، بصرف النظر عن مدى ضرورة ذلك.
وأضاف: "سيقولون لك: (حسناً، اضطُرِرنا لموازنة الأمر بطريقة طائفية لأنَّنا لا يمكننا بناء المدارس في المناطق ذات الغالبية السُنّيّة فقط، علينا أيضاً أن نقوم بذلك في المناطق المسيحية). إنَّهم يختبؤون وراء الطائفية لتمويل شبكات محسوبيتهم وأزلامهم".
ولا تحدد الروابط الطائفية العقود الحكومية فقط، بل وكذلك القدرة على الوصول إلى الوظائف الحكومية المرغوبة، والمدارس، والمصالح البيروقراطية، وأحياناً الخدمات الاجتماعية.
ولم يؤدِّ النظام الرامي لتعزيز التعايش السلمي إلا لتعزيز الانقسامات الطائفية، جاعلاً معظم اللبنانيين معتمدين على نفحات الخير من زعماء طوائفهم، وجعل كل طائفة أكثر عزماً على القتال من أجل كل دولار ومنفعة حكومية.
وها هم يلقون القمامة في البحر دون فرزها
لذا لم يكن الأمر مفاجئاً حين لجأ المجلس في عام 2016 إلى خوري، رجل الأعمال المسيحي المرتبط بالرئيس عون، وكذلك إلى جهاد العرب، المقاول السُّنّي المرتبط بالحريري، للمساعدة في حل أزمة القمامة الطارئة في لبنان.
فاستحوذ خوري على مكب نفايات قديم بمنطقة برج حمود شمالي بيروت، وجاء بخططٍ لتوسعته وصولاً إلى البحر.
ووجدت نجاة صليبا، وهي كيميائية بالجامعة الأمريكية في بيروت تفقَّدت الموقع عام 2017، أنَّ شركة خوري تلقي القمامة في المكب دون فرزها، على الرغم من وجود شرط تعاقدي يشير إلى فصل النفايات القابلة لإعادة التدوير وإزالة المواد الخطرة.
وعلاوةً على ذلك، وجدت أنَّ حواجز المياه التابعة لمكب النفايات في البحر المتوسط لم تمنع النفايات من الوصول إلى المياه. فالنفايات والسوائل السامة المنبعثة منها كانت تذهب مباشرةً إلى البحر.
وقالت شركة المقاول إنها لا تفرز القمامة لأنَّ ذلك من شأنه تأخير المشروع. وقالت لنجاة إنَّ البحر تلوَّث بفعل الصرف الصحي وأشكال الصرف الأخرى، وليس بسبب مكب النفايات.
وقال محامٍ عن السيد خوري، مارك حبكة، الأسبوع الماضي إنَّ جميع المعايير يتم الوفاء بها الآن.
وافتتح جهاد العرب مكب نفايات جديد في منطقة كوستا برافا إلى جانب محطتي فرز.
لكن وفقاً لثلاث أشخاص على دراية بالعمليات، لم يقم العمال في محطتي الفرز بمحاولات تُذكَر لفرز الكثير من النفايات التي وصلت.
وقالوا أيضاً إنَّهم رأوا عمالاً يستخدمون الخراطيم لإضافة المياه إلى القمامة قبل وزنها، ما يزيد التكلفة على الحكومة.
ويضم الأشخاص الثلاثة شخصين زارا عمليات الفرز في 2017 وشخصاً ثالثاً مطلع على عمليات المحطتين الحالية والذي أكَّد أنَّ هذه الوسائل مستمرة. وطلب هؤلاء الأشخاص عدم الكشف عن هويتهم، خشية تعرضهم للأذى الجسدي نتيجة تحدثهم.
جرى التواصل مع ممثلين عن شركة جهاد العرب، شركة الجهاد للتجارة والمقاولات، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وأصروا أنَّ كل النفايات كانت تُفرَز بصورة مناسبة.
لكنَّ البيانات الداخلية للمصنع من شهر يوليو/تموز 2018 تظهر أنَّ 93% من النفايات كانت تُلقَى في مكبات النفايات، حسب تقرير الصحيفة الأمريكية.
ونفى هشام كرامة، مدير إدارة النفايات بشركة الجهاد، اتباع الشركة أي حيل في ما يتعلق بالوزن، قائلاً إنَّ عملية الوزن يجري مراقبتها من خلال ممثلين من الشركة والحكومة والبلدية ومستشارين خارجيين.
والآن مجلس الإعمار يوسع عقد العملية دون عطاء جديد
وعلى الرغم من كل هذه التساؤلات، زاد مجلس الإنماء مراراً عقد الجهاد، فوافق المجلس في سلسلة من الملحقات الإضافية على دفع 161 مليون دولار إضافية للشركة لتطوير وتوسيع العملية، دون فتح العملية أمام عطاءات جديدة.
وأصرَّ كرامة على أنَّ العملية نزيهة. وقال: "فزنا بما فزنا به بنزاهة. كل رجل أعمال في لبنان مرتبط بشخصٍ ما في عالم السياسة".
وقالت شركة الجهاد ومجلس الإنماء إنَّ الشركة قدَّمت أقل عطاء لنيل العقد الأساسي.
وفي حين ازداد ثراء رجال الأعمال والسياسيين، لم تزدد أزمة النفايات إلا صعوبةً في التجاهل.
فقالت صليبا: "أُهدِر المال القادم من الدول المانحة في التظاهر بتنفيذ تلك المشروعات البنَّاءة. لكن لم يحدث شيء".
ولكن السكان منعوا سيارات القمامة بعدما فاض بهم الكيل
وبحلول الصيف الماضي، كان الكيل قد فاض بأحياء منطقة كوستا برافا. فمنع السكان المحليون شاحنات القمامة من الدخول، داعين الحكومة لتقديم حل مستدام.
فقال زياد حيدر، رئيس بلدة الشويفات القريبة: "يبدو كما لو أنَّ عمليات إلقاء القمامة لن تتوقف إلا بعدما تصل القمامة إلى قبرص. لكن ماذا عسانا نفعل؟ إذا واصلنا إغلاق الطريق سترى القمامة في كل مكان في الشوارع".
وعلى مدى سنوات عديدة، كانت الحكومة تشجع حرق القمامة باعتباره حلاً طويل الأجل، على الرغم من الاعتراضات من نشطاء البيئة والعلماء.
وفي يونيو/حزيران الماضي، صرَّح وزير البيئة فادي جريصاتي لصحيفة The Daily Star اللبنانية المحلية بأنَّه لا يعتقد أنَّ لبنان "مؤهل" لعملية تنظيم مواقد حرق القمامة.
وبعد أقل من شهرين، وافقت الحكومة على خطته لبناء المزيد من المكبَّات وثلاثة مواقد لحرق القمامة. وكُلِّف مجلس الإنماء بتحديد المواقع المحتملة لها.