منذ شهرين مضيا أو ما يزيد، كان لا يُتصوَر أن يخطر هذا النوع من الهتافات أبداً على بال أي شخص في لبنان. لكن في صباح الإثنين، 25 نوفمبر/تشرين الثاني، علا صوت البعض من مئات المحتجين ضد الحكومة، الذين احتشدوا في شارع رئيسي في العاصمة بيروت، قائلين: "إرهابي.. إرهابي.. حزب الله إرهابي"، في مواجهة مشحونة مع مؤيدي حزب الله و "حركة أمل".
وأخبر محتجون آخرون أصحاب الهتافات بالتوقف، لكن مع اتساع دائرة السخط من الأوضاع الاقتصادية واجتياح الغضب شوارع لبنان، واستمرار زعيم حزب الله، حسن نصرالله في الدفاع عن الحكومة، بات من الواضح أنَّ هالة القدسية المحيطة بسمعة حزب الله آخذة في التلاشي، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية.
"حزب الله جزء من الأزمة في لبنان"
وفي هذا السياق، قال مهند الحاج علي، الباحث في مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط للمجلة الأمريكية: "حزب الله يُرى أنه جزء لا يتجزأ من العقبة الأساسية أمام التغيير في لبنان".
وغلب على المظاهرات اللبنانية طابعٌ سلمي، ووقوفها بمفردها في مواجهة الطبقة الحاكمة بأكملها بجميع أحزابها وأطيافها. وحتى وقت قريب، كان نصرالله، الذي لا يشغل منصباً رسمياً في الدولة، يُرى على أنه بعيد عن الفساد المستشري في الدولة الذي دفعها نحو الانهيار، وتحديداً وسط قاعدة دعم حزب الله الشيعية، التي اكتسبها من نجاحه في طرد القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية المحتلة في عام 2000 بين اللبنانيين من جميع الانتماءات السياسية والطائفية.
وحتى عقب حرب 2006، التي ألحقت الدمار بمساحات شاسعة من لبنان، حشدت الجماعة دعماً جماهيرياً لما اعتبره الكثيرون انتصار حماة الدولة على العدوان الإسرائيلي. وفي مايو/أيار 2008، سيطر مقاتلو حزب الله على وسط بيروت بعد أن هددت الحكومة بوقف شبكة اتصالات الجماعة، وإقالة حليفها المسؤول عن أمن المطارات، ولأول مرة حينها صوبت الجماعة أسلحتها نحو الداخل وليس عبر الحدود.
التدخل في سوريا.. محطة مفصلية
وفي الوقت الذي أرسل فيه حزب الله الآلاف من عناصره عبر الحدود للقتال في سوريا لدعم بشار الأسد في عام 2013، بدأ المزيد من الناس يتساءلون عمّن يدافع حزب الله بالضبط. إضافة إلى ذلك، لَحِق مزيدٌ من الضرر بسمعة الجماعة منذ الأيام الأولى للاحتجاجات في منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول، التي شهدت خروج حشود هائلة إلى الشوارع في مناطق تمركز الشيعة، مثل مدينتي صور والنبطية.
وفجأة، وبينما يردد المتظاهرون هناك شعارات مناهضة للحكومة على غرار محتجي بيروت -الذين يريدون رحيل جميع القادة السياسيين الطائفيين الحاليين وإجراء انتخابات جديدة في ظل نظام جديد- وجد حزب الله نفسه جزءاً من المؤسسة المُستهدفة. وقال الحاج علي إنَّ الاحتجاجات شكَّلت تحدياً مباشراً للمكاسب التي حققها حزب الله في انتخابات 2018 وتهديداً لأجندة السياسة الخارجية للتنظيم.
وخلال الأسبوع الجاري، وفي مواجهة فرقتين كبيرتين من الجيش اللبناني وقوات مكافحة الشغب الشرطية على أرصفة تتناثر عليها الحجارة والعُصي، اشتكى بعض المتظاهرين أنَّ أجندة حزب الله لا تتعلق في الحقيقة ببناء لبنان، بل تمتد إلى دمشق وبغداد وصولاً إلى طهران. وعلى غرار بعض الاحتجاجات المشتعلة في الدولة المجاورة العراق، يصر المتظاهرون الشباب على التنديد بالنفوذ الإيراني على لبنان. إذ هتف بعضهم يوم الإثنين، 25 نوفمبر/تشرين الثاني: "هذا لبنان وليس إيران".
"هذا لبنان، وليس إيران"
حين أصر نصرالله على ألا تتنحى الحكومة اللبنانية، خلال بداية انطلاق المظاهرات في أكتوبر/تشرين الأول، شعر كثيرٌ من المحتجين أنه جزء من المشكلة.
وقال الحاج علي: "لقد كانت إحدى تلك اللحظات التي (يصدمك فيها الواقع)؛ إذ شكَّل انضمام الشيعة اللبنانيين إلى حركة الاحتجاج صدمة؛ فلماذا يدافع حزب الله عن الوضع الراهن الذي يشوبه فساد شديد، ويدفع البلاد نحو أزمة مالية واقتصادية؟".
وحاول نصرالله تشويه سمعة المحتجين، مشيراً إلى أنهم مموَّلون من حكومات أجنبية. وهي الاتهامات التي قابلها المحتجون بسخرية، بل واستقال العديد من الصحفيين من صحيفة "الأخبار"، التي تؤيد عادةً موقف حزب الله.
وقال أحد المتظاهرين، ويُدعى بهاء يحيى، بينما كان ينتظر على طريق جانبي إلى أن يتبدد سيل الغاز المسيل للدموع الذي أطلقه الجيش: "هم يحاولون فقط الحفاظ على النظام. وكل ما نريده هو إزالة النظام. هذه هي حقيقة ما يحدث".
في الماضي، نجح حزب الله في تجنب معظم الانتقادات المباشرة حول علاقاته بإيران وسوريا. وعلى مدار عقود من الزمن، تمتع أمراء الحرب في لبنان، وكانوا حينها من النخبة السياسية، بدعم من القوى الإقليمية والدولية، وقد هاجم المتظاهرون هذا التدخل الأجنبي في بلادهم. لكن المحتجين حرصوا على عدم الإشارة لجماعة بعينها، وحتى وقت قريب نَدَر ذكر أسلحة حزب الله التي زودته إيران بها، والتي تفوقت على أسلحة الجيش الوطني للبلاد، ومن المفارقة أنه يتصدى الآن لمؤيدي حزب الله.
أنصار حزب الله يقاومون الاحتجاجات
خلال الأسبوع الماضي، عندما خرج الآلاف من الناس إلى شوارع إيران احتجاجاً على ارتفاع أسعار الوقود هناك، وجد المتظاهرون في وسط بيروت سبباً مشتركاً معهم، وهم يهتفون: "من طهران إلى بيروت.. ثورة واحدة لن تموت".
لكن أنصار حزب الله يقاومون؛ إذ رفعت الاحتجاجات المضادة أعلام حزب الله وحركة أمل هذا الأسبوع، ورددت شعارات طائفية مثل "شيعة.. شيعة.. شيعة"، وأكدوا ولاءهم لنصر الله ونبيه بري، زعيم حركة أمل ورئيس البرلمان اللبناني.
وفي المقابل، ردَّ المحتجون المعارضون للحكومة بهتافات "الشعب واحد"، ثم علت أصواتهم بغناء النشيد الوطني. وليس واضحاً تماماً كيف اندلعت المواجهة ليل الأحد، 24 نوفمبر/تشرين الثاني، لكن ما هو واضح هو أنها أثارت مخاوف من تصعيد عنيف لتمرد لبنان المستمر منذ ستة أسابيع ضد الحكم الطائفي الرديء، وأضافت "وصمة عار" أخرى إلى صورة حزب الله بأنه المدافع عن البلاد.
كان هذا الطريق نفسه هو الجبهة الأمامية لمعظم الحرب الأهلية في لبنان. والجميع هنا يعلم هذا، لكن معظم المحتجين أصغر من أن يتذكروا القناصة ونقاط التفتيش التي سيطرت على الشارع.
وتمكن بعض من أنصار حزب الله وحركة أمل من اختراق هذه الجبهة، ومهاجمة المتظاهرين ومطاردتهم إلى الشوارع الجانبية، حيث المباني لا تزال تحمل آثار معارك الحرب الأهلية.
"يريدون تخويفنا"
وقال يحيى، بينما يقف في الطريق الجانبي: "يمكنهم (داعمو حزب الله وحركة أمل) الوصول إلينا إذا أرادوا، لكنهم لا يرغبون في ذلك. هم فقط يريدون إخافتنا".
وعاد معظم المتظاهرين الذكور للشارع مرة أخرى حاملين أغصان الأشجار والعُصي. وحاول الجانبان التراشق بالحجارة عبر المنطقة المحرمة التي حددتها صفوف قوات الأمن.
وألقى حزب الله باللوم في حادث سيارة وقع في ساعة مبكرة من صباح الإثنين الماضي على الحواجز التي شيَّدها المتظاهرون. ويظهر في شريط فيديو للحادث، سيارة تضرب عقبة في وسط طريق يبدو فارغاً، ولم يظهر فيه أي محتج في الأفق. واعتبر البعض أنها محاولة لتصوير الاحتجاجات على أنها تهديد أمني. وشارك المئات مساء ذلك اليوم في وقفة احتجاجية، ورفعوا أعلام حزب الله وأمل وهم يهتفون بشعارات حزبية وطائفية. فيما خرج آلاف المؤيدين الآخرين في مسيرات سياسية أكثر صراحة؛ إذ جال بعضهم الشوارع بدراجات بخارية وهم يطلقون أبواقها ويهتفون "شيعة.. شيعة.. شيعة" أثناء مرورهم أمام المتظاهرين المناهضين للحكومة.
وقال حاج علي: "كلما هاجمهم حزب الله باستخدام هذه التكتيكات الطائفية، ينفضح أكثر، ويخسر المزيد"، مضيفاً أنَّ جزءاً من استراتيجية الثورة المضادة هو تحويل الاحتجاجات إلى صراع طائفي. وإذا ظن نصرالله أو غيره من قادة حزب الله أو حركة أمل أنَّ استعراضاً بسيطاً للقوة سيخيف المحتجين ويبعدهم عن شوارع لبنان ويعيد الهدوء إليها، فهذا سوء تقدير خطير.
"ثورتنا في خطر"
ومساء الإثنين، تصاعدت وتيرة الاحتجاجات بإطلاق نيران واندلاع اشتباكات، لكن هذه المرة مع أنصار "تيار المستقبل" لرئيس حكومة تصريف الأعمال السُني سعد الحريري. ففي مدينة صور الجنوبية، هاجم أنصار الحزب خيمة للمحتجين وأحرقوها. واستمرت الهجمات والاشتباكات حتى يوم الثلاثاء، 26 نوفمبر/تشرين الثاني.
ويصف العديد من المتظاهرين المناهضين للحكومة منظمي الاحتجاجات المضادة بأنهم "تعرضوا لغسيل دماغ"، مشيرين ليس فقط لمؤيدي حزب الله وحركة أمل، بل أيضاً لكل الذين خرجوا في استعراض أقل صدامية للتعبير عن دعمهم لرئيس البلاد ميشال عون، وأحزاب أخرى في الأسابيع الماضية.
من جانبه، أعرب متظاهر آخر صديق ليحيى، يُدعَى نادر يسراوي، عن اعتقاده بأنه في نهاية المطاف جميع اللبنانيين يريدون نفس الشيء.
وقال يسراوي: "ما يريدونه هو نفسه ما نريده. نحن نعيش في ظروف متردية. وما نريده جميعنا هو أن ننعم بالحرية وأن نأكل ونؤسس لمستقبلنا".
لكن يبدو أنَّ كل فريق يرى سبيلاً مختلفاً لتحقيق هذا الهدف. وكان يسراوي ويحيى في المنزل عندما بدأت الاشتباكات في وقت متأخر من ليل الأحد. ويسترجع يسراوي ما حدث قائلاً: "اتصلت به وقلت: بهاء، دعنا نذهب إلى [الشارع]. ثورتنا في خطر".
وعلى غرار الكثير هنا، بدأ الخوف ينمو بداخل يحيى حول تطور الاضطرابات، لكنه يقول إنه يتفق مع يسراوي في أنَّ الأمر يتعلق بتغيير عقول أولئك الذين يقفون على الجانب الآخر من الطريق، وقال يحيى: "يوماً ما، سيقتنع الجميع".