كان عم سيد يفترش بسطة صغيرة وسط القاهرة على رصيف شارع 26 يوليو وسط القاهرة، ليبيع من خلالها بعض الخردوات ولعب الأطفال، وظل يعمل ويقتات من هذه البسطة التي لا تتعدى مساحتها متراً واحداً في مترين.
وبعد عام 2013 بعد الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي، أخذت السلطات تشن حملات على هذه الأرصفة وتطارد "عم سيد" أينما ذهب، هو وغيره من آلاف الباعة بميادين القاهرة الكبرى، في إطار ما اعتُبر وقتها أحد مظاهر إعادة الانضباط للشارع المصري.
ولكن شيئاً فشيئاً احتلت الأرصفة أكشاك الشرطة والجيش تحت مسميات مختلفة، منها المساهمة في محاربة الغلاء، وتوفير السلع بأسعار رخيصة.
ولكن كثيرين يرون عكس ذلك، إذ يؤمنون بأن هدف تلك الأكشاك التابعة للشرطة والجيش هو استغلال المناخ الذي أفرزته المرحلة لتغوُّل المؤسستين الأمنية والعسكرية في مناحي الحياة المدنية كافة في مصر.
حملة على الأكشاك تم استثناء عملاء الأمن منها!
ولم يقتصر الأمر على أصحاب البسطات، لكنه وصل أيضاً إلى أصحاب أكشاك البقالة، وكثير منها مرخصة.
فقد شنت السلطات المحلية، ممثلة في شرطة "المرافق" وهي شرطة متخصصة في مطاردةِ مثل أصحاب هذه الأنشطة منذ ذلك التاريخ، حملات مكبرة على أصحاب هذه الأكشاك، لفحص تراخيصها وإزالة المخالفين منها.
ولكن أبقت على بعض الأكشاك التي تقع في مواقع حيوية شهدت أحداثاً ساخنة إبان ثورة 25 يناير، خاصةً تلك التي تقع أمام نقابة الصحفيين المصرية في شارع ثروت، وأخرى بداخل شارع معروف، ويقال إن أصحابها يعملون مرشدين للجهات الأمنية (عملاء للأجهزة الأمنية).
يقول "حسين ، م" بحسرة ولهجة مختنقة، لـ "عربي بوست": "أين أذهب؟! ومن أين أقتات لقمة عيشي، ولا أعرف عملاً غير هذا؟ وقد كبرت في العمر، وطوال حياتي أعمل في هذا الكشك، الذي أستأجره من صاحبه الأساسي بمبلغ يصل إلى 20 ألف جنيه شهرياً، وما ذنبي إذا كان صاحب الكشك لم يجدد ترخيصه؟".
وأضاف: "الآن أفترش الأرصفة وسط القاهرة، ورغم ذلك تطاردنا الشرطة بشكل شبه يومي، وهناك آلافٌ مثلي يأتون من المحافظات الأخرى -خاصةً محافظات جنوب القاهرة- يمتهنون مثل هذه المهنة".
ويشارك شاب في الثلاثين من عمره يدعى "محمد -ب"، في الحديث، قائلاً: "إبان ثورة يناير وما بعدها بعام كانت الشرطة تحتمي بنا.. الله يرحم هذه الأيام حينما خلعت الشرطة (ملابسها)، وإن شاء الله تعود هذه الأيام"، حسب تعبيره.
ويقول الشاب "ع -ح": "الآن أصبح هناك تحالف ومصالح بين الشرطة وأصحاب المحال التجارية، فهناك مرتبات شهرية تدفعها المحلات لأمناء الشرطة ومباحث الأقسام لحمايتهم من باعة الأرصفة، ولهذا لم يعد لنا مكان نفترش فيه ببضاعتنا، ونحن لا نشغل الطريق العام، ولا نضيًق على أصحاب المحال التجارية كما تدّعي الشرطة".
وتقليدياً، يوجد تنافس يصل إلى الصراع بين أصحاب المحلات من جهة وأصحاب الأكشاك والباعة الجائلين من جهة أخرى.
وساعدت الفوضى الأمنية التي أعقبت ثورة يناير/كانون الثاني 2011، على إتاحة الفرصة للباعة الجائلين وأصحاب الأكشاك لزيادة مساحات عملهم، وهو الأمر الذي أثار نقمة أصحاب المحلات بشدة.
مشاجرة وإطلاق نار وسط القاهرة
ومؤخراً وقعت مشاجرة كبيرة بين أصحاب "البسطات" وأصحاب المحال التجارية، كانت نتيجتها أن تجمَّع هؤلاء الباعة وألقوا بزجاجات المياه الغازية على واجهات المحال، حتى تدخلت الشرطة، وأطلقت الرصاص الحي في شارع شريف وسط القاهرة.
وقد وثّق "عربي بوست" هذه الواقعة بفيديو حصري.
ويشير "ع، ب" إلى أن عمله كان "ناضورجي"، بمعنى أنه يجوب شوارع وسط القاهرة حتى ميدان العتبة، حيث يقع قسم شرطة "الموسكي" المسؤول عن هذه المنطقة، ويراقب ما إذا كانت هناك حملة ستأتي أم لا؟ ثم يتصل ببعضهم ويبلّغهم بالحملة.
وأضاف: "كانت أحلى أيام، أيام الثورة، كان الباعة الجائلون يعملون ويحققون مكاسب هائلة، ولكن بعد 2013 ضاق الحال عليهم، وأنا لم يعد لي عمل".
ولكن شيئاً فشيئاً، بدأ الباعة يعودون إلى الأرصفة، ولكن مع تضييق الخناق عليهم.
ويزعم الباعة الجائلون أن الشرطة تضيّق عليهم بسبب الرواتب التي يدفعها أصحاب المحال التجارية لأمناء الشرطة ومسؤولي الحي (رِشى).
وبعد تصاعد الأمر مؤخراً بسبب هذا التضييق، وقعت معركة كبيرة بين الباعة وأصحاب تلك المحال، استخدموا فيها زجاجات المياه الغازية، وقاموا بتكسير عدد من المحال حتى تدخلت الشرطة وأطلقت النار لتفريقهم.
السبب الحقيقي لمطاردة الباعة ليس حفظ النظام
"يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"، بيت شهير يلوم فيه المتنبي سيفَ الدولة الحمداني، ويبدو أن هذا البيت ينطبق على العلاقة بين أصحاب الأكشاك والشرطة المصرية.
تؤكد السلطات المصرية أنها تسعى لفرض الانضباط والنظام في الشارع، ولكن الكثيرين، ومن بينهم الباعة الجائلون، يرون عكس ذلك.
ويقولون إن السبب الحقيقي لهذه الحملات، وهو رغبة الحكومة المصرية في الاستيلاء على الأرصفة من خلال إنشاء أكشاك تابعة لوزارة الداخلية أطلقت عليها اسم "أمان"، ومنافذ توزيع منتجات الجيش المصري.
هذه الأكشاك يقف فيها إما موظف تابع لوزارة الداخلية وإما شخص مؤجِّر لهذا الكشك ذو نفوذ داخل الوزارة، وبالفعل بدأت تحتل ميادين وشوارع رئيسية في قلب العاصمة المصرية القاهرة، مثل ميدان السيدة عائشة وباب الشعرية وميدان الجيزة.
محاربة الغلاء تنتهى إلى تأجير من الباطن
وتتخذ الداخلية المصرية ومنافذ الشركة الوطنية التابعة للجيش المصري من أرصفة ميادين وسط القاهرة مكاناً لتقيم فيه أكشاكها، وبذلك تُزاحم أصحاب الأكشاك القديمة، لمحاربة الغلاء، حسبما تقول.
ولكن هذه حجة واهية، وفقاً لما يقوله"محمود –س" لـ "عربي بوست".
ويضيف قائلاً: "منذ أيام اشتريت علبة (كانز) من أحد منافذ الجيش أمام مصلحة الجوازات الجديدة بميدان العباسية، ففوجئت بأن سعرها لديهم 10 جنيهات، في حين أن سعرها 5 أو 7 جنيهات على الأكثر".
وتابع: "وحينما سألت البائع: كيف تبيعونها بهذا السعر وأنتم من المفروض تساهمون في محاربة الغلاء؟ قال لي: نحن نستأجر هذا المنفذ، ولسنا تابعين للقوات المسلحة في الحقيقة".
حصر الأكشاك القديمة
هذه المنافذ والأكشاك إذن ليست لمحاربة الغلاء ولكنها تجارة تدرُّ ربحاً، حسبما يقول محمود.
ويقول: "لذلك قررت محافظة القاهرة منذ عام 2017، وقف إصدار تراخيص للأكشاك الجديدة، وحصر الأكشاك القديمة وعدم تجديد تراخيص القديمة وإزالتها.
في حين توسعت الحكومة في بناء أكشاك الداخلية والشرطة، والتي خصصت لها أماكن حيوية ذات كثافة سكانية عالية، ومحاور طرق رئيسية، مثل كشك (أمان) التابع لوزارة الداخلية والمقام وسط شارع 26 يوليو ونهاية شارع أحمد عرابي، وكشك أمان بجوار قسم شرطة السيدة زينب، والذي تحول إلى مطعم لبيع الأطعمة السريعة".
خطة تجميل الأكشاك تتحول إلى إزالتها
"لمّوا نفسكم وكفاية بعزقة.. هلكتوا الأرصفة"، هكذا وبلهجة تحذيرية أنذر عاطف عبدالحميد، محافظ القاهرة السابق، أصحاب الأكشاك المخالفة من التوسع فيها، مؤكداً أنه "لا وجود لهم في المنظومة الجديدة التي أعدتها محافظة القاهرة لإدارة الأكشاك".
وكشف المحافظ، بحسب "بوابة الأهرام المصرية"، أن "الأكشاك غير المرخصة أصبحت تدار من خلال مافيا"، حسب قوله.
الأكشاك بالفعل تدر عائداً مادياً كبيًرا على أصحابها، خاصة إذا كان الكشك في مكان استراتيجي وحيوي.
وبحسب ما قاله أبو يوسف محمود، صاحب كشك في منطقة المقطم، لـ "عربي بوست"، فإن "هناك أكشاكاً تدر عائداً يبلغ 2000 جنيه يومياً، وهو مبلغ كبير بالنسبة لمتوسط دخل المصريين، وهناك من حصل على ترخيص بكشك وقام بتأجيره بمبلغ 20 ألف جنيه شهرياً إذا كان الكشك في شارع جانبي.
أما إذا كان وسط ميدان فإيجاره الشهري يصل إلى 30 ألف جنيه، ولهذا توقفت الحكومة المصرية عن إصدار تراخيص جديدة للأكشاك، وبدأت تغير في منظومتها، وفحص أصحابها الذين حصلوا على تراخيص بها، وما إذا كانوا على قيد الحياة أم لا، فإذا كان صاحب الترخيص قد توفي فلا يؤول الكشك إلى ورثته، وما زالت مشكلتهم معلَّقة حتى كتابة هذه السطور".
لماذا توقفت تراخيص الأكشاك للمواطنين؟
توقفت عملية إصدار تراخيص الأكشاك مدة تقترب من 5 سنوات، والسبب -كما أعلن المحافظ السابق عاطف عبدالحميد- هو إعادة هيكلة المنظومة بالكامل، واستحداث منظومة جديدة لتوزيع الأكشاك ومراجعة تراخيصها وأماكنها وصحة تلك التراخيص، وإعادة المظهر الحضاري لها، ومنع الإشغالات الخاصة بها، مع منع سرقتها للتيار الكهربائي الذي كان يأخذه أصحابها من أعمدة الإنارة بالشوارع، بحسب المحافظ السابق.
وصممت محافظة القاهرة في المنظومة الجديدة نموذجين جديدين لأشكال الأكشاك، لاستبدال الموجودة في الشارع بهما، لتعطي مظهراً حضارياً للشوارع، بالإضافة إلى إعادة اختيار أماكنها وفق مساحتها الجديدة التي تمثل 5 أضعاف الموجودة حالياً في الشوارع، لتسع كل بضائع البائع، ولمنع وضع المنتجات والسلع في الطريق العام واستغلال حرم الأرصفة.
وأوضح المحافظ السابق أن "الأكشاك الجديدة ستكون ملكاً للمحافظة، مقابل حق انتفاع، ولن يتم تمليكها لأحد، حتى لا يتم التلاعب في رخصتها أو بيعها"، لافتاً إلى أن "أصحاب الأكشاك المرخصة لن يُضاروا، كما أن الأكشاك الجديدة ستصمم على حساب شركات الإعلانات، ولن تتحمل المحافظة من تكلفتها شيئاً".
ولكن الأمر انتهى بإخلاء الأرصفة للجيش والشرطة وأُسر شهدائهما
غير أن خطة المحافظ السابق توقفت بعد عزله، وتعيين اللواء خالد عبدالعال، مدير أمن القاهرة السابق، محافظاً للقاهرة.
وتدخلت وزارة الداخلية في الأمر بعد عام 2017، فأنشأت ما يسمى أكشاك "أمان ="، وتوسعت في ميادين مصر، ولكن "لكي تحصل على مثل هذا الكشك يجب أن تكون من أسرة شهيد شرطة"، بحسب ما صرح به مصدر أمني لـ "عربي بوست".
وتابع: "هدفنا هو المساهمة في رفع معاناة الغلاء عن الشعب، وقد نجحت المنظومة حتى الآن، كما نجحنا في مساعدة أسر شهداء الشرطة".
مثقف قريب للشرطة يعترض على مخالفاتها
ورغم أن أسباب إزالة أكشاك المواطنين القديمة هي رفع الإشغالات عن الطرق ومحاربة ما أطلقت عليه الحكومة المصرية "مافيا الأكشاك "، فإن الأسباب نفسها لم تطبَّق على أكشاك "أمان" التابعة لوزارة الداخلية، وهذا ما عبَّر عنه الكاتب والسيناريست المعروف بقربه للشرطة تحديداً وحيد حامد، في مقال له بصحيفة "المصري اليوم"، معتبراً أن "الداخلية المصرية تخترق القوانين بمثل هذه الأكشاك، فهي تتجاوز المساحات المخصصة لها وتعيق حركة المرور".
وإضافة إلى ذلك، خرجت بعض أكشاك الداخلية عن أهداف إنشائها، فبعضها تؤجره الداخلية من الباطن أيضاً، كما قال لـ "عربي بوست" مستأجر لأحد تلك الأكشاك في منطقة السيدة زينب.
ومع تكثيف حملات الإزالة بشكل شبه يومي، بالتعاون مع شرطة المرافق، يتم في الوقت نفسه تخصيص مساحات من الأرصفة لأكشاك وزارة الداخلية ومنافذ بيع منتجات القوات المسلحة التي تنتشر في مدينة نصر، وأحياء التجمع الخامس والقاهرة الجديدة، بحجة محاربة الغلاء.
ووصل الأمر إلى إعلان رئيس الوزراء المصري تخصيص مساحات لمنافذ الجيش داخل أسواق الجملة مثل "سوق العبور"، وهو ما أغضب التجار مؤخراً، كما قال لـ "عربي بوست" صاحب أحد المنافذ داخل السوق.
لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
توافق « عربي بوست » أحياناً على عدم التعريف بأسماء مصادر تقدم معلومات حساسة لقرائنا. وبموجب إرشادات الموقع، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر وذات مصداقية، وأننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، وبعضهم يتساءلون ما إذا كانت هذه المصادر موجودة أصلاً. لكن لدينا قواعد وإجراءات لمحاولة معالجة هذه المخاوف.
فبالإضافة إلى المراسل، يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر. ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم أو من ينوب عنه قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. وعندما تكون القصة مبنية على معلومة مركزية من مصدر مجهول، فيجب الموافقة عليها بشكل عام من قبل رئيس التحرير.
نحن نتفهم حذر القراء، ولكن لا يمكن أبداً الحصول على المعلومات حول العديد من القصص المهمة في مجالات حساسة، مثل السياسة والأمن القومي والأعمال، إذا استبعدنا المصادر غير المعرّفة. فالمصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية. حتى في بعض الأحيان من أجل سلامتها.
يعتقد بعض القراء أن المصادر تكون أكثر صدقاً إذا تم نشر أسمائها، ومن غير المرجح أن يكذبوا إذا تم الكشف عن هويتهم. إلا أن المراسلين في العديد من المناطق يعرفون أن العكس هو الصحيح. فالمصادر في المناصب الحساسة غالباً ما سيتحدثون ببساطة بحسب التوجهات الرسمية. وسيكونون صريحين فقط إذا كانوا يعرفون أن أسماءهم لن يتم الكشف عنها.