شرعت السلطات الإيرانية في تحركات، الخميس 21 نوفمبر/تشرين الثاني، تهدف إلى الترويج لعودة الحياة الطبيعية، بعد أسبوع من الاحتجاجات العنيفة على ارتفاع أسعار البنزين، وهكذا أتاحت عودة جزئية للإنترنت، معلنةً أن الاضطرابات التي هزت البلاد كانت في الواقع مجرد "فشلٍ مدعوم من الخارج".
لكن هناك تطورات أخرى تشير إلى أن حملةَ قمعٍ لا تزال جارية، رداً على اشتباكات الشوارع وأعمال الشغب والتدمير التي كانت قد شلّت الحياة في عشرات المدن والبلدات الإيرانية، وهو ما يشي بأن الانتفاضات لم تُسحق بالكامل بعد، كما تقول صحيفة The New York Times الأمريكية.
الاحتجاجات لم تنتهِ بعد
ذكر أطباء إيرانيون أن المستشفيات كانت مليئة بأشخاص مصابين خلال الاحتجاجات. وقالوا أيضاً إن وزارة الصحة أمرت جميع المستشفيات في طهران وغيرها من المدن بإلغاء العمليات الجراحية الاختيارية، بسبب تدفق حالات الطوارئ.
قال اتحاد الطلاب الإيرانيين لـ "نيويورك تايمز"، إن عملاء يرتدون ملابس مدنية من ميليشيا "الباسيج" التابعة للحكومة، والذين اعتادوا الاختباء داخل سيارات الإسعاف، للتحايل على القيود المفروضة على دخول الحرم الجامعي، قد احتجزوا أكثر من 50 طالباً في جامعة طهران، بعد احتجاجات اشتعلت هناك.
كذلك تعرضت الحكومة لانتقادات غير عادية من اتحاد الكتّاب الإيرانيين، بسبب ما كان بمثابة قطع عام لشبكة الإنترنت، بدأ يوم الأحد الماضي، في الدولة التي يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة، وهو ما حجب فعلياً كثيراً مما كان يحدث خلال الاحتجاجات. وقالت شركة NetBlocks، المتخصصة في تعقُّب الأمن السيبراني، إن الإغلاق قطع الاتصال بشبكة الإنترنت عن البلاد بأكملها تقريباً.
قمع الاحتجاجات بعيداً عن أعين العالم
قال الاتحاد يوم الخميس، في بيانٍ نُشر على موقع تليغرام: "إن إغلاق شبكة الإنترنت وقطع وصول الإيرانيين والعالم الخارجي إلى الأخبار هما أحدث تكتيك لقمع الاحتجاجات بعيداً عن أعين العالم".
أما ترامب، الذي تتحمل العقوبات التي فرضها اللومَ جزئياً على المعاناة الاقتصادية الجارية في إيران، فكسر أخيراً حالة الصمت التي انتهجها ستة أيام منذ بدء الاحتجاجات. وكتب ترامب في تغريدةٍ على موقع تويتر، قائلاً: "لقد أصبحت إيران غير مستقرة بدرجة كبيرة، حتى إن النظام حظر الوصول إلى شبكة الإنترنت بالكامل، لكي لا يتمكن الشعب الإيراني العظيم من الحديث عن العنف الهائل الذي يُمارَس داخل البلاد".
في وقت لاحق من يوم الخميس، بدا أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي يشارك ترامب البغض لهيراركيةِ نظام الحكم في إيران، يعمد إلى إثبات صحة شكوك إيران فيما يتعلق بأن الولايات المتحدة شاركت في التحريض على الاحتجاجات. وقال بومبيو، في تعليق نشره على موقع تويتر، إنه طلب من المتظاهرين إرسال مقاطع فيديو إليه وغيرها من الأدلة التي توثق حملة القمع، وإن الولايات المتحدة "ستكشف تلك الانتهاكات وتعاقب عليها".
طهران: حملة تضليل تُشَن علينا
كانت منظمة العفو الدولية قالت إن أكثر من 100 إيراني قُتلوا خلال الاحتجاجات، بعضهم على يد قوات الأمن التي استخدمت الذخيرة الحية لتفريق وتخويف الجماهير. في حين ذهبت الحكومة، التي أخذت تصور المتظاهرين على أنهم من مثيري الشغب والبلطجية المتأثرين والمدفوع لهم من أجانب، إلى وصف تقرير منظمة العفو الدولية بأنه مجرد دعاية غربية.
قال علي رضا مريوسفي، المتحدث باسم البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة، يوم الأربعاء، في تغريدة على تويتر: "إن أي أرقام عن قتلى أو مصابين لم تؤكدها الحكومة الإيرانية، أرقام تخمينية وغير موثوق بها، وفي كثير من الحالات، جزء من حملة التضليل التي تُشَنّ على إيران من أطراف خارج البلاد".
في الوقت نفسه، قال متحدث باسم الحرس الثوري الإيراني، قوة النخبة المسؤولة عن الأمن القومي، إن السلطات الأمنية ألقت القبض على عدد من قادة الاضطرابات والذين تبين أن لديهم جنسيات مزدوجة وعلى تواصل مع حكوماتٍ أجنبية. وذكرت وكالة Fars News Agency شبه الرسمية أن "مثيري الشغب نهبوا وأحرقوا سلسلة متاجر في عدد من ضواحي طهران، وأن بعضهم كان قد حصل على 60 دولاراً لكل مكان تم إحراقه". ولم تذكر الوكالة على وجه التحديد، الجهةَ التي من المفترض أنها قد قدمت تلك الأموال.
كسر الحجب
على الرغم من القيود التي فرضتها الحكومة على الاتصال بالإنترنت، والرقابة التي طبقتها على كل ما يمكن الإبلاغ عنه رسمياً، فإن الإيرانيين الذين شاهدوا أو شاركوا في الاحتجاجات وجدوا طرقاً لتناقل مقاطع الفيديو والنصوص التوثيقية لما أخذوا يشاهدونه بأم أعينهم.
أخذت مقاطع الفيديو والمنشورات، وإن بُنيت على مشاهدات فردية في بعض الأحيان، تُصور مدى الخوف والمرارة والقلق الذي عاناه الإيرانيون.
على سبيل المثال، كان بيمان غوليبور البالغ من العمر 18 عاماً، قد ذهب يوم الإثنين إلى مدينة كرج، للتسوق وشراء بدلة يرتديها لحضور حفل زفاف شقيقه. يوم الأربعاء، أقامت عائلته جنازة له في بلدة لنغرود الساحلية، وفقاً لصحفي إيراني يُدعى ياسين نمكجيان.
كان السيد غوليبور قد صادف وقوعه في طريق أحد الاحتجاجات عندما فتحت قوات الأمن النار، ليصاب خلالها. أعلن نمكجيان، وهو من البلدة نفسها التي ينتمي إليها غوليبور، عن وفاته، في تغريدةٍ كتبها على موقع تويتر.
وفي مكان آخر لا يبعد كثيراً عن الذي قُتل فيه غوليبور، كاد شاب مجهول الهوية يفقد ساقه بفعل رصاصة تلقاها. وأظهر مقطع فيديو متظاهرين وهم يسحبونه على الأرض وسط الاشتباكات وصفارات الإنذار، ليصرخ أحدهم فجأة: "توقف، ولُفّ ساقه!". أخذت الدماء تسيل من أسفل بنطاله، في حين تتدلى ساقه المقطوعة جزئياً، وفقاً لمقطع فيديو شاركه على وسائل التواصل الاجتماعي صحفيٌّ آخر في إيران.
نظام روحاني يعاني كثيراً
قال الرئيس الإيراني حسن روحاني، الأربعاء، إن الحكومة قد قهرت ما سمَّاه أعداء أجانب أخذوا يحرّضون على الاضطرابات، وأنها تمكنت من استعادة الهدوء والنظام.
تقول "نيويورك تايمز" مستدركةً: "لكن عرض التبجح والوحدة الذي أظهره روحاني، على النقيض من هدفه، أعطى إشارات عن ضغط شديد يعانيه الجهاز الحكومي من داخله، بسبب الزيادات المفروضة في أسعار البنزين، وردود الفعل عليها. وتداولت وسائل إعلام إيرانية أنباء عن أنه خلال اجتماع لحكومة الطوارئ في اليوم ذاته، تجادل روحاني مع أحد السياسيين المحافظين والذي أخذ يستجوبه فيما يخص زيادة الأسعار، وأن روحاني خرج بعدها مشتعلاً بالغضب".
كانت المظاهرات التي بدأت سلمية نسبياً ضد الزيادة في أسعار البنزين، ما لبثت أن تحولت في غضون أيام، إلى انتفاضة عنيفة ضد النظام. وأثارت تعبئة قوات الأمن لقمعِهم، مزيداً من مشاعر التحدي لدى المتظاهرين، وهو ما يشي بأننا نشهد مرحلة جديدة في ديناميكية المقاومة والقمع التي فرضت إيقاعها على تاريخ إيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979.
ساحات حرب
تقول الصحفية الإيرانية في "نيويورك تايمز" فرناز فصيحي: "تبدو الشوارع في عديد من المدن الكبيرة والصغيرة كأنها مناطق حرب. فقد غمر الدخان وبقايا النيران المشتعلة عديداً من المباني والبنوك والمتاجر. وينتشر زجاج مدمر وحطام عبر الطرق الرئيسة، دون أي إشارة إلى عودة للتجارة العادية أو حركة المرور".
قال ثلاثة من سكان طهران الذين جرى التواصل معهم عبر الهاتف، إن منطقة الأثرياء في شمال المدينة كانت هادئة، لكن الاضطرابات استمرت مشتعلة في أحياء الطبقة الوسطى والطبقة العاملة. وقالوا إن العاصمة شهدت خلال الأيام الماضية، فرض منطقة أمنية مشددة، حيث اصطفت أسراب من شرطة مكافحة الشغب على الدراجات النارية، والقوات الخاصة على كل الطرق الرئيسة تقريباً. كذلك انتشرت عناصر ميليشيا الباسيج في الشوارع مرتدين ملابس مدنية.
قالت سارة، وهي مترجمة من طهران طلبت عدم ذكر اسمها الأخير: "الأمر ليس طبيعياً بالتأكيد، إذ لم يعد بإمكاننا الخروج من المنزل إلا للضرورة، وتوقف العمل الرسمي تقريباً". وأضافت أن المرضى في العيادة الطبية لزوجها أخذوا يلغون حجوزاتهم، وأحجم كثير من الناس عن إرسال أطفالهم إلى المدرسة.
البنية التحتية في شيراز تضررت بشدة
في حين صرح عمدة مدينة شيراز، التي كانت قد شهدت اشتباكات عنيفة، يوم الأربعاء، بأن البنية التحتية للنقل في أربعة من أحياء المدينة قد دُمرت. وقال صاحب سلسلة متاجر "رِفاه" الإيرانية واسعة الانتشار، والمعادل الإيراني لمتاجر شركة وول مارت الأمريكية، إن ثلاثة من مقراتها تعرضت للنهب.
حتى الشخصيات السياسية بدت أجرأ في انتقاداتها للحكومة خلال تلك الأزمة، إذ أصدر أحد أبرز الناشطين السياسيين في إيران، والمقربين من الفصيل الإصلاحي، أبو الفضل قدياني، بياناً ألقى فيه المسؤولية على المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، الذي أخذ يدعم بثقله سياسة رفع أسعار الغاز؛ ومن ثم أغلق الباب فعلياً أمام أي إعادة نظر في القرار.
فقد قال قدياني: "إن الشخص المسؤول أولاً وأخيراً عن إراقة الدماء هو السيد خامنئي، ويجب أن يحاسَب على ذلك".
في الوقت الذي سيطرت فيه أخبار الاضطرابات، تحرَّك القضاء بهدوء، لإغلاقِ قضية تجسس مثيرة للجدل، كان قد اتُّهم فيها دعاة للحفاظ على الحياة البرية في إيران، وشدّت محنتهم انتباه كلاً من الإيرانيين والمجتمع الدولي. فقد خلصت وزارة الاستخبارات الإيرانية إلى أن أخصائيي الحفاظ على البيئة، المنتمين إلى "مؤسسة التراث الفارسي للحياة البرية"، ليسوا جواسيس. ومع ذلك، فإن الحرس الثوري، الذي يدير جهاز استخبارات موازاياً، مضى في ادعائه على أي حال.
حُكم على أحد المتهمين، مراد طاهباز، وهو أمريكي إيراني من ولاية كونيتيكت، بالسجن 10 سنوات، وحُكم على متهمة أخرى، نيلوفر بياني، وهي مستشارة سابقة بالمشروع وعالمة في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، بالسجن ثماني سنوات. وقد أدانتهما محكمة الحرس الثوري كليهما بتهمة التعاون "مع دولة معادية"، إضافة إلى أن السلطات صادرت دخل بياني الذي حصل عليه من عملها في الأمم المتحدة.
تلقَّى أربعة متهمين آخرين أحكاماً تتراوح بين ست وثماني سنوات. وما زال اثنان من المتهمين في انتظار صدور الحكم عليهما، وفقاً لتقرير نشره "مركز حقوق الإنسان في إيران".