لماذا يحرق المحتجون الإيرانيون البنوك والمؤسسات الدينية ومحطات الوقود خلال المظاهرات التي تشهدها البلاد حالياً؟
قد يكون مفهوماً سبب إحراق محطات الوقود، لأن الاحتجاجات اندلعت في الأصل اعتراضاً على زيادة أسعاره، والمؤسسات الدينية إحراقها ردُّ فعل على سيطرة رجال الدين على السلطة.
ولكن لماذا يحرق المحتجون الإيرانيون البنوك؟
تجربة البنوك مع الإيرانيين قد تكون أسوأ من تجربتهم مع رجال الدين، خاصة خلال السنوات الماضية، كما أنَّ غضب الإيرانيين من البنوك مرتبط بدورها في العلاقة الغامضة التي تربطها بأركان النظام.
300 في المئة زيادة في الأسعار، وإحراق 100 بنك
أدى إعلان الحكومة الإيرانية المفاجئ، في 15 نوفمبر/تشرني الثاني 2019، عن رفع أسعار البنزين الذي كان يحظي بدعم حكومي كبير، بنسبة تصل إلى 300 في المئة، إلى خروج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع للاحتجاج.
يتداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي باللغة الفارسية، مقاطع مصورة تُظهر حرائق مشتعلة بعدد من البنوك والمدارس الدينية في مختلف المدن. وبجانب رد فعل قوات الأمن العنيف على المتظاهرين، فإن إشعال الحرائق في البنوك والمعاهد الدينية اعتبره البعض ملمحاً جديداً إلى حد ما، على التظاهرات الإيرانية.
وفقاً للتقارير الإعلامية الواردة من إيران، فإن المتظاهرين أقدموا على إشعال
النيران في نحو 100 بنك بأغلب المدن.
لماذا يحرق المحتجون الإيرانيون البنوك والمؤسسات المالية؟
في السنوات القليلة الماضية تمتعت البنوك الإيرانية سواءٌ الحكومية أو الخاصة، أو حتى تلك المؤسسات المالية التابعة لها، بسمعة سيئة.
في الأساس تعاني إيران مشكلات عميقة الجذور في قطاعها المصرفي، وأبرز تلك المشكلات الفساد.
فعلى سبيل المثال، في شهر يونيو/حزيران 2019، تظاهَر عدد من المعلمين المتقاعدين ضد اختفاء صندوق استثماراتهم ببنك سرمايه.
أين ذهب مبلغ الـ3.5 مليار المملوك للمعلمين؟
ويعتمد المعلمون المتقاعدون على دخلهم من استثمار معاشاتهم من خلال الفائدة السنوية، في صناديق احتياطية بالبنوك.
كان الصندوق المودع في بنك سرمايه يحتوي على ما يقرب من 3.5 مليار دولار، اختفى فجأة من البنك.
إلى الآن يتم التحقيق في تلك القضية، ولم يحصل المعلمون على أموالهم المفقودة، ولم تعوّضهم الدولة.
مليون حساب مجهول
في الاحتجاجات الأخيرة، أحرق المتظاهرون أكثر من فرع لبنك "ملي إيران" بعدد من المدن (الأحواز، وبهبهان، وشيراز). بنك "ملي" واحد من أشهر البنوك الإيرانية التي تقدَّر بنحو 14 بنكاً على مستوى الجمهورية.
في سبتمبر/أيلول 2019، قالت وكالة مهر للأنباء الإيرانية، إنه تم اكتشاف أكثر من مليون حساب مجهول في البنك نفسه، ويُعتقد أن تلك الحسابات تُستخدم في عمليات غسل الأموال، وتمويل الجماعات الشيعية المسلحة بسوريا والعراق.
ولأن البنوك الإيرانية لا تخضع للمعايير الدولية المتعارف عليها، فمن السهل تورطها في تلك العمليات، بحسب الخبراء المصرفيين.
الشبهات بغسل الأموال، التي تدور حول البنوك الإيرانية، عزلت القطاع المصرفي الإيراني عن الاقتصاد العالمي بالكامل، وهذا ما يؤثر في الإيرانيين بالداخل.
وبسبب عزل النظام المصرفي الإيراني، لم يتمكن الإيرانيون من استيراد السلع الغذائية والأساسية، فلا توجد أي شركة أوروبية تريد التعامل مع بنك يتمتع بسمعة سيئة.
تورط الحرس الثوري في البنوك، وعلاقته بأزمة الأدوية
في 16 أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، وضعت الولايات المتحدة بنك "بارسيان" الإيراني على قائمة العقوبات، وكانت تلك هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الإسلامية، التي تقوم فيها الولايات المتحدة بتطبيق العقوبات الاقتصادية على بنك "بارسيان".
ظل بنك "بارسيان" يتمتع بسمعة طيبة داخل إيران وخارجها، وكان هو المَنفذ الوحيد للإيرانيين لشراء الأدوية والسلع الطبية من الشركات الأوروبية.
واستغل الحرس الثوري السمعة الطيبة للبنك، وتم توريطه في أنشطة تجارية تابعة لشركات استثمارية خاضعة لسيطرة الحرس الثوري، ومكتب المرشد الأعلى الإيراني.
وكانت النتيجة فرض العقوبات على بنك "بارسيان"، وهو ما حرم الإيرانيين من استيراد أدوية ضرورية وحيوية مثل أدوية علاج السرطان، وعرَّض البلاد لأزمة أدوية خطيرة.
من المفترض أن البنك الذي تأسس في عام 2000، بنك خاص مملوك لمجموعة من الأشخاص، ولا علاقة له بالحكومة أو النظام الحاكم، لكن بمرور الوقت استحوذت مجموعة شركات "تدبير" الاستثمارية التي يديرها مكتب المرشد الأعلى، على البنك.
مؤسسات مالية فاسدة.. لماذا لا يحاسبها أحد؟
عندما اندلعت الاحتجاجات في نهاية عام 2017، كانت الشرارة الأولى لتلك الاحتجاجات فساد البنوك والمؤسسات المالية التي لجأ إليها الإيرانيون لاستثمار أموالهم بها.
فمنذ التسعينيات انتشرت المؤسسات المالية في إيران، وعمِلت على جذب المواطنين بتقديم فوائد وأرباح أعلى من تلك التي تقدمها البنوك.
ازدهرت تلك المؤسسات، وتوسَّع حجم أعمالها في مختلف المجالات، دون الخضوع لأي إشراف من جانب البنك المركزي الإيراني. وبشكل مباغت في عام 2017، أعلن بعض تلك المؤسسات إفلاسها، وضاعت أموال المودعين، دون أي تعويض أو محاسبة من جانب البنك المركزي أو القضاء.
ليس الأمريكيون فقط مَن منعوا انفتاح الاقتصاد الإيراني
عندما تولى الرئيس حسن روحاني إدارة البلاد، كان يأمل في جعل الاقتصاد الإيراني منفتحاً على النظام العالمي، وجلب الاستثمارات الأجنبية.
لكن فساد القطاع المصرفي بجانب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وإعادة فرض عقوبات اقتصادية زاد من صعوبة الأمور.
فازداد سخط الجماهير الإيرانية على البنوك والمؤسسات المالية في البلاد، مما أدى إلى نوبة غضب عارمة، انتهت بإشعال النيران في البنوك.
"لا أحد يقدر علينا.. نحن رجال الدين"
"لن نسمح لأحد أن يقول لرجال الدين أن يتركوا الأمور في البلاد ويذهبون بعيداً"، كان هذا هو رد رجل الدين، آية الله لطف دزكام، ممثل المرشد الأعلى في مقاطعة فارس، وإمام صلاة الجمعة، على قيام المتظاهرين بإحراق عدد من مكاتب أئمة صلاة الجمعة في مختلف المدن الأخرى.
واتهم لطف دزكام المتظاهرين بأنهم مثيرو شغب وبلطجية، وهددهم باستخدام قوات الباسيج (قوات شبه عسكرية من المدنيين) لقمعهم، قائلاً: "حتى رضا خان (آخر ملوك إيران)، بكل سلطاته لم يكن قادراً على قمع رجال الدين، ولن نسمح لأي شخص بالقيام بما يريد".
وأفادت التقارير المحلية بقيام المتظاهرين بإشعال النار في عدد من مكاتب رجال الدين في شيراز، وأصفهان، والأحواز، ويزد.
ممثل المرشد سلطة مطلقة بلا رقيب ويمنع الغناء حتى لو كان معك ترخيص قانوني
يوجد لكل مدينة إيرانية ممثل للمرشد الأعلى الإيراني، وهو أيضاً إمام لصلاة الجمعة، يتمتع ممثلو المرشد بصلاحيات كبيرة وواسعة، ولا تتم محاسبتهم على أي أخطاء.
يقول البعض داخل إيران إن صلاحيات ممثل المرشد في المدن قد تفوق صلاحيات الرئيس المحلي للمدينة، فمن حقه منع قيام أي حفلات موسيقية أو تجمعات فنية، حتى بعد حصول منظمي تلك الحفلات والتجمعات على كافة التصاريح من وزارة الثقافة.
فعلى سبيل المثال في مدينة مشهد، منع ممثل المرشد الأعلى العديد من الحفلات الموسيقية، بعد قيام منظمي الحفلات بتنظيمها وبيع تذاكر الدخول، إذ يأمر ممثل المرشد قوات الشرطة بالحضور، ومنع قيام الحفلة من دون أي سند قانوني.
تلك الممارسات من قِبل ممثلي المرشد ورجال الدين في المدن تثير استياء عموم الإيرانيين، وقد ظهر هذا الغضب في احراق مكاتبها في مختلف المدن التي شهدت احتجاجات.
المعاهد الدينية.. أموال بلا حدود
ليست مكاتب أئمة صلاة الجمعة هي فقط من تعرضت للاحتراق من قبل المتظاهرين، لكن أيضاً تم حرق عدد ليس بالقليل من المدارس والمعاهد الدينية (الحوزات العلمية)، فتم إشعال النيران في مدرسة دينية في مدينة الأحواز.
وأحرق المحتجون معهداً دينياً كبيراً في مدينة أصفهان، وفي شيراز تم حرق أكثر من مدرسة ومعهد ديني.
يعترض أغلب الإيرانيين على الميزانيات المالية الضخمة المخصصة لتلك المعاهد الدينية ومكاتب رجال الدين، والتي يتم اقتطاعها من الميزانية الحكومية.
ففي عام 2017 خصصت الحكومة مبالغ طائلة لدعم تلك المعاهد والمراكز الدينية، مما ساعد في تأجيج الاحتجاجات في نهاية العام، ولجأ الإيرانيون إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن رفضهم لتلك الميزانيات الضخمة الموجهة إلى مؤسسات دينية لا نتاج لها بحسب اعتقادهم.
تتلقى الحوزات والمؤسسات الدينية التمويل من طريقين: الأول من خلال الموازنة الحكومية السنوية، والطريق الثاني
يعطي المسلمون أموال الخمس المجتزأة من ثرواتهم المكتسبة إلى آيات الله العظمى للتصرف بها، فتذهب أغلبها إلى دعم المدارس والحوزات الدينية، وأيضاً المؤسسات الدينية المسؤولة عن رجال الدين في مختلف أنحاء البلاد.
الكارثة تكشف المفارقة الصارخة
في مارس/آذار 2019، تعرضت إيران إلى فيضانات خلفت الكثير من الخسائر البشرية والمادية، فتساءل المواطنون وقتها عن دور المؤسسات الحكومية المخصصة لمواجهة تلك الكوارث.
منظمة إدارة الكوارث واحدة من تلك المؤسسات الحكومية التي لم تستطع التصدي للفيضانات لقلة ميزانيتها، ففوجئ الإيرانيون بأن ميزانية هذه الإدارة تقدر بحوالي 12 مليار تومان، أي ما يعادل 3 ملايين دولار فقط.
بينما يتم تخصيص ميزانية للمعاهد الدينية تقدر بحوالي ضعف الميزانية المخصصة لمؤسسة إدارة الكوارث.
فعلى سبيل المثال في أحدث موازنة حكومية (مارس/آذار 2019 إلى مارس/آذار 2020)، تم تخصيص مبلغ 1029 مليار تومان، أي ما يعادل 245 مليون دولار أمريكي لمركز خدمات المعاهد والحوزات العلمية.
مكتب مدينة قم الدينية والمسؤول عن أغلب الحوزات الدينية في المدينة له بند أساسي ومستقل في الموازنة الحكومية، يقدر بحوالي 20 مليار تومان، أي ما يقدر بحوالي 4.76 مليون دولار أمريكي.
إلى جانب كل تلك الأموال التي تأتي لدعم الحوزات والمؤسسات الدينية، سواء الحكومية الرسمية أو غير الرسمية، فإن تلك المؤسسات تتلقى تبرعات من المواطنين بحجة دعم الطلاب غير القادرين.
رجل دين لكل مدرسة
وبعيداً عن غضب الإيرانيين من الأموال المخصصة لتلك المؤسسات الدينية، فهناك سبب آخر لغضبهم من رجال الدين المسيطرين على تلك المؤسسات.
في عام 2017، أعلنت وزارة التربية والتعليم أنه تم الاتفاق مع رجال الدين في مختلف المعاهد الدينية على وجود رجل دين واحد على الأقل بشكل أساسي في المدارس العامة غير الدينية.
وسيشرف رجل الدين المعين على كافة البرامج الثقافية والتعليمية في المدارس، فأثار هذا القرار حفيظة أولياء الأمور، الذين رأوا أنهم لو كانوا أرادوا لأطفالهم تعليماً دينياً لكانوا ألحقوهم بالمعاهد الدينية. فإن سيطرة رجال الدين على المدارس العامة أمر غير مستحب بالنسبة إلى الكثيرين.
القرارات الأخيرة ذهبت بميزة ثورة الخميني الرئيسية
منذ يوم الجمعة الماضي استمر الإيرانيون في الاحتجاج والتظاهر، رافضين رفع أسعار البنزين في بلد يعد من أكبر احتياطات العالم للنفط الخام.
يكتسب سعر الوقود أهمية خاصة لدى الإيرانيين.
فعندما أتى الخميني ليطيح بنظام الشاه الفاسد، الذي كان يسرق ثروات الشعب الإيراني، وتستفيد منها طبقة معينة، وعد الخميني الإيرانيين بتطبيق العدالة الاجتماعية، وإزالة الفروق بين الطبقات، وكانت أولى الطرق لتحقيق هذا الأمر هو الدعم الحكومي للوقود وكافة السلع الغذائية والأساسية.
لكن رويدا رويدا بدأت العقوبات الاقتصادية في الضغط على الاقتصاد الإيراني، الذي يعاني من الفساد بشكل كبير، وما كان من الحكومات المتتالية إلا تقليل هذا الدعم بشكل تدريجي، فشعر الإيرانيون أن كل مميزات الثورة الإسلامية بدأت في التلاشي، ولا يتبقى منها سوى المساوئ.
هل تراجعت الاحتجاجات؟
حتى اليوم لا يعلم المراقبون خارج إيران إلى أي مدى وصلت الاحتجاجات الأخيرة، نتيجة التعتيم وحجب الإنترنت بالكامل عن كافة المدن الإيرانية.
وتشير تقارير عديدة إلى استخدام قوات الأمن للذخيرة الحية في قمع المحتجين، مما أدى إلى عدد غير محدد من الوفيات إلى الآن.
تقول السلطات الإيرانية إنه اعتباراً من يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني، تراجعت الاحتجاجات بشكل كبير، وعادت الحياة إلى طبيعتها، بعد أن تم التعرف على من سمتهم بمثيري الشغب والقبض عليهم، لكن لا يمكننا التأكد من صدق تلك التصريحات، نتيجة حجب الإنترنت.