تدخل حركة الاحتجاج اللبنانية شهرها الأول هذا الأسبوع. وقد أثارت الاحتجاجات، التي أشعلها فرض ضريبة على مكالمات واتساب، انتفاضة غير مسبوقة في تاريخ البلاد الحديث.
يُعَد فرض ضرائب على خدمة مجانية مثالاً يوضح الكيفية التي يسير بها لبنان في مرحلة ما بعد الحرب، حسبما ورد في مقال لجميل معوض، المُحاضِر في السياسة بالجامعة الأمريكية في بيروت، نشر في موقع Middle East Eye البريطاني.
فالطبقة الحاكمة تبيع للمواطنين اللبنانيين ما يعود إليهم، فيما تثري نفسها في أثناء ذلك وتفقر المواطنين العاديين. فتُظهِر الدراسات عملياً أنَّ 28% من اللبنانيين فقراء للغاية، وأنَّ 8% فقراء فقراً مدقعاً، في حين أنَّ 1 إلى 10% من السكان البالغين يحصلون على ما بين 25 إلى 55% من الدخل القومي في المتوسط.
بعبارة أخرى، هناك احتجاجات اجتماعية بامتياز، يسيطر فيها الناس على الشوارع للتعبير عن مظالمهم، سواء كانت فردية أو جماعية أو كليهما.
يبيعون لهم الكهرباء والماء مرتين
الاحتجاجات الاجتماعية ليست جديدة على لبنان، إذ حشدت العديد من المجموعات في مناسبات مختلفة للمطالبة بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية (من المعلمين وسائقي التاكسي وغيرهم). لكن ما يجعل الاحتجاجات الحالية فريدة هو أنَّها اندلعت بعد تبلور ثلاث أزمات: أزمة الدولة العامة، وأزمة الطبقة الحاكمة، وأزمة المجتمع.
ليس خفياً أنَّ الدولة اللبنانية تقدم خدمات قليلة للمجتمع. في الواقع، أُنفِق 8% فقط من مجموع الإنفاق العام للدولة اللبنانية منذ نهاية الحرب عام 1990 على الاستثمار الرأسمالي العام.
في غضون ذلك، لجأ المواطنون اللبنانيون إلى مصادر بديلة للحصول على الخدمات والمرافق، ترتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بمصالح الطبقة الحاكمة، مثل الكهرباء والمياه والخدمات الأمنية وغيرها، (إذ يعوض السكان انقطاع الكهرباء اليومي لمدة ثلاث ساعات يومياً بالاشتراك في مولدات خاصة مرتبطة بالأحزاب الحاكمة ونفس الأمر بالنسبة للمياه التي يعاني من شحّتها).
لذا، وفيما سيطرت الطبقة الحاكمة على مؤسسات الدولة، اضطلعت في الوقت نفسه كذلك بدورٍ توزيعي من خلال السيطرة على المجتمع أيضاً عبر شبكات الزبونية والرعاية. بالتالي أصبحت الدولة غير مهمة في الحياة اليومية للشعب اللبناني، ولم تترسخ قط باعتبارها مصدراً للعدالة بالنسبة للمواطنين العاديين.
مجتمع وصل لحدوده الاستهلاكية القصوى
تعيش الطبقة الحاكمة كذلك حالة أزمة بعدما وجدت نفسها تعاني في الأعوام القليلة الماضية. فبسبب الاضطرابات الإقليمية، حدوث استنزافٌ للمصادر الإقليمية التي كانت تاريخياً تغذي شبكات الزبونية التابعة للطبقة الحاكمة.
علاوة على ذلك، شهدت هذه الطبقة الحاكمة مؤخراً صراعاً غير مسبوق بين النخب. فلم تبذل أي جهد جاد للدفع بالإصلاحات المطلوبة بشدة في مواجهة الآفاق الاقتصادية المقلقة للغاية، بل باتت مُستهلَكة في المشاحنات الشخصية.
واتخذ بعض أعضائها مواقفَ شوفينية وعنصرية للغاية، ليس فقط ضد اللاجئين، لكن أيضاً ضد اللبنانيين أنفسهم، الأمر الذي استحضر ذكريات الحرب الأهلية بين اللبنانيين. وعلى هذا النحو، باتت الطبقة الحاكمة منفصلة تماماً عن المجتمع.
أخيراً، ساهم النظام النيوليبرالي الذي اتُّبِعَ بعد الحرب الأهلية في خلق مجتمع أزمة. وفي غياب كل الخدمات العامة، أُسنِدَت كل الخدمات تقريباً لجهات أخرى غير الدولة.
كانت القروض المقدمة من البنوك التجارية أساسية في تأمين سبل الحياة اليومية للبنانيين (مثل الإسكان والقروض الاستهلاكية وغيرها)، وتلتهم ما يصل إلى 50% من راتب المواطن اللبناني العادي.
وفي ظل الوضع الاقتصادي المزري، يعاني الأفراد من مختلف الطبقات الاجتماعية-الاقتصادية من أجل تلبية احتياجاتهم.
وقادت الأزمات الثلاث مجتمعة الناس للخروج إلى الشوارع والمطالبة بالإطاحة بالنظام إلى جانب مطالب أخرى، مثل استقالة الحكومة وتشكيل حكومة انتقالية، لكن ما هو هذا النظام الذي يريد اللبنانيون التخلص منه؟
ثلاثة أعمدة للنظام الطائفي.. لماذا يعد إسقاط السلطة اللبنانية أصعب من أي سلطة عربية أخرى؟
بعكس الحال في بعض البلدان العربية التي أُطيح بأنظمتها واحد تلو الآخر خلال الموجة الأولى من الربيع العربي، لا تتركز السلطة في لبنان في شخص واحد أو مؤسسة واحدة، الأمر الذي يجعل عملية تحديد النظام أصعب، وربما -وهو الأكثر أهمية- مقاومة هذا النظام.
تحدد ثلاثة أعمدة النظام منذ ترسّخه في لبنان ما بعد الحرب.
العمود الأول هو الهيمنة والسيطرة الاستطرادية على المُخيِّلة. فمنذ نهاية الحرب، تبنَّت الطبقة الحاكمة خطاباً أقنعت الناس من خلاله بأنَّ الدولة "أضعف" من أن تضطلع بنفسها بمسؤولية إعادة إعمار البلاد.
من ثمَّ لم تلجأ فقط للخصخصة و/أو إسناد القيام بوظائفها لجهات أخرى، بل صوَّرت نفسها باعتبارها الضامن لبناء البلاد وحماية حقوق المناطق المختلفة. بالتالي، لا يمكن للمواطنين العاديين تصور مستقبلهم دون حماية أو خدمات زعمائهم.
العمود الثاني هو العنف. والعنف هنا مفهوم في سياق أوسع وليس مقتصراً على سلاح حزب الله. في الواقع، تعتمد الطبقة الحاكمة على مجموعة من آليات العنف التي تُستخدَم للسيطرة على المعارضة وضمان حصانتهم والبقاء في السلطة.
تشمل هذه الآليات العنيفة، سواء الرمزية أو المادية، مواكب لتخويف المواطنين العاديين في الشوارع، وسيطرة رجال أقوياء على الأحياء، والاضطلاع بدورٍ رئيسي في ترهيب الناس في أيام الانتخابات، والحواجز الأمنية التي تحمي منازل الساسة في المراكز الحضرية.
لقد أُضفي الطابع الأمني على الحياة اليومية لصالح الزعيم والطائفة التي يتظاهر بأنَّه يحميها.
ويتمثل العمود الثالث في السيطرة على رأس المال واستخراجه. ففي حين صورت الطبقة الحاكمة الدولة باعتبارها ضعيفة، رسَّخت هذه الطبقة قبضتها على مؤسسات الدولة، وأثرت نفسها وأزلامها.
إنَّ العلاقة بين العام والخاص قوية، لدرجة أنَّ تلك الحدود بينهما باتت غير واضحة تماماً. إذ راكمت الطبقة الحاكمة الموارد من خلال الغش المالي، الذي غالباً ما يكون بإشراف وتصميم المصرف المركزي، وكذلك ومن خلال احتكار مشروعات الدولة، التي يتحصَّلون منها على أرباح غير مشروعة.
إنجازات حركة الاحتجاج اللبنانية والتحديات أمامه.. منع مصيبة في جلسة البرلمان
منذ بدء الاحتجاجات، نجح اللبنانيون في زلزلة أول عمود من أعمدة النظام: أيديولوجيته. فهُم اليوم يتخيلون مستقبلهم خارج عالم الزعيم، وهم يتحركون لتحقيق ذلك من خلال استعادة الدولة باعتبارها مصدراً للعدالة.
وتنتشر فكرة الدولة باعتبارها مصدراً للعدالة في الوقت الذي ينادي فيه اللبنانيون بالحقوق الأساسية التي لم يقدمها النظام لهم. وتم إحياء مفهوم المساءلة من جديد.
على سبيل المثال، دفع المحتجون البرلمان لتأجيل جلسة كانت تهدف لتبني قانون للحصانة، كان من شأنه ربما أن يمنح الزعماء وأتباعهم حصانة من المحاكمة في الجرائم المالية التي ارتكبوها في العقود الثلاثة الماضية.
بالإضافة إلى ذلك، يظهر النضال والمقاومة اليومية حين يكون المواطنون العاديون هم مَن يدافعون عن حقوقهم، على سبيل المثال من خلال رفض دفع رسوم مواقف السيارات التي تُعَد مظهراً واضحاً على الكيفية التي تحتل بها الشركات الخاصة المجال العام.
لكنَّ الطريق لإسقاط النظام طويلٌ جداً. وهناك حاجة لنقل المطالب من الشوارع إلى الهياكل والنقابات (قديمة أو حديثة الظهور)، والأهم هو عدم السقوط في فخ عمود النظام الثاني، ألا وهو العنف.
والمقاومة والتماسك المجتمعيان هما وحدهما القادران على منح الثورة الحصانة التي تحتاجها لئلا تسقط في فخ النظام.