عادت الأزمة اللبنانية للمربع صفر بعد رفض الحراك الحازم لفكرة ترشيح النائب محمد الصفدي لرئاسة الحكومة، فلماذا رفض الشارع اللبناني الصفدي بهذه الحدة، وهل كان ترشيحه مناورة من جهات ما لتحقيق هدف آخر؟.
واعتذر الصفدي بعد رفض الشارع له كمرشح لرئاسة الحكومة المنتظرة، حيث يعتبره الحراك أحد رموز المنظومة السياسية والاقتصادية التي يسعى لإسقاطها وإبعادها عن الواجهة.
كما أن ثلاثة من رؤساء الحكومات السابقة (سنة) تحفظوا على ترشيحه، وأعلنوا صراحة تأييدهم لترشيح الحريري لرئاسة الحكومة الجديدة.
لماذا رفض الشارع اللبناني الصفدي رغم أنه مريح للسياسيين؟
وبمجرّد تداول خبر ترشيح الصفدي لرئاسة الحكومة تجمّع محتجون أمام بيت الصفدي في بيروت معلنين رفضهم له ومردّدين: "كلّن يعني كلّن والصفدي واحد منكن".
ويمثل الصفدي نمطاً من السياسيين السنة الذين يكرههم الجميع في لبنان ولكن لا يستطيع أحد الاستغناء عنهم.
الصفدي ومن قبله ميقاتي يعد نوعاً مختلفاً عن الحريري من السياسيين السنة، نوعاً دخل السياسة من بوابة المال فقط بدون مشروع سياسي، وفي الأغلب يميلون لمحاولة احتفاظ بعلاقات متناقضة مع الأقوياء في الملف اللبناني، فيتبنون أحياناً خطاباً طائفياً سنياً شكلياً وأنصارهم خليط من المتطرفين الدينيين والبلطجية، ويحاولون مغازلة السعودية، مع الاحتفاظ مع علاقة وثيقة مع قوى 8 آذار بقيادة حزب الله.
من وجهة نظر كثير من اللبنانيين، فإن مثل هذا النمط من السياسيين هو الأسوأ، فهو ليس مخلصاً لطائفته وفي الوقت ذاته فهو جزء من منظومة فساد النخب السياسية الطائفية، بل في الأغلب ينظر لهذا النمط أنه يدخل السياسة بالأساس من أجل تحقيق مصالحه الاقتصادية، بينما ينظر للزعماء الطائفيين التقليديين أنهم يجمعون بين الحرص على مصالح الطائفة والفساد!.
وكان لدى الصفدي ميزة نسبية فيما يتعلق بملف الفساد، وهي أنه قيل إن معظم أعماله خارج لبنان، ولكن الحراك لفت النظر إلى أنه اسمه متورط في فضيحة صفقة اليمامة السعودية الشهيرة.
إذ جرى تبادل قائمة تهم فساد لاحقت الصفدي خلال سنوات عمله في الحياة السياسية اللبنانية، من بينها صفقة اليمامة المعروفة.
وقد وصفه البعض بنائبٍ "قليل الإنتاجية"، لينتشر وسم (هاشتاغ) "الصفدي ساقط بالشارع"، دلالة على رفض المحتجين تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، وقد دعا مغردون إلى تجمعات أمام مركزه احتجاجاً على القرار، فيما عبر آخرون عن ترحيبهم.
بالنسبة للأحزاب المتناحرة تمثل نوعية رجال الأعمال الوسطيين مثل الصفدي أو رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي حلاً مقبولاً في أوقات الخلاف بين 14 و8 آذار ليتولوا مناصب قيادية وخاصة رئاسة الحكومة، ولكن بالنسبة للشارع سواء الشارع الطائفي أو الحراك المعادي للطائفية يمثل هذا النوع من رجال الأعمال والسياسيين الأسوأ، فلا هم مخلصون للطائفة التي ينتمون إليها رغم أنهم يتجارون دوماً بهذه المسألة، ولا هم سياسيون مشهود لهم بالنزاهة ومعاداة الطائفية.
هل كانت مناورة من الحريري أم محاولة حقيقية لحل الأزمة؟
لا يعرف حتى الآن هل كان الهدف من طرح اسم الصفدي، مناورة من زعيم تيار المستقبل سعد الحريري الذي يعلم أن الصفدي سيرفض وبالتالي يعود للحكومة بشروط أقوى أم أنها محاولة من النخب السياسية اللبنانية بالطرق القديمة.
ولكن من الواضح أن الرفض للصفدي الذي كان متوقعاً وطبيعياً من الشارع الذي يريد إسقاط النخب القديمة قد زادته التصريحات التي أطلقها وزير الخارجية جبران باسيل صهر الرئيس عون، إذ بدا من حديث باسيل أن فكرة طرح اسم الصفدي من بنات أفكاره، وتحدث عن الإجراءات المرتبطة بالتكليف كأنه الرئيس.
علماً أن باسيل هو أكثر شخصية مكروهة من قبل الحراك اللبناني ومن الشارع اللبناني برمته ويعد إخراجه من الحكومة مطلباً واضحاً من النشطاء.
لاحقاً، أوضح المكتب الإعلامي لباسيل، أن ما ورد مسنوباً لم يكن نتيجة تصريح أعطاه الوزير، بل "نتيجة أجواء إعلامية على خلفية دردشة صحافية حول الأوضاع، وبالتالي فإن ما ورد يفتقد إلى كثير من الدقة في العناوين والتفاصيل".
في المقابل، علق مصدر سياسي مقرب من تيار المستقبل على تصريحات باسيل بأن الأخير "حدد موعد الاستشارات قبل أن يحددها رئيس الجمهورية.. وأعلن أنّ التشكيل سيتم سريعاً"، مشيراً إلى أن باسيل "يحاول ترميم وضعه على حساب صلاحيات الآخرين، وإذا أراد فعلاً أن يقدم خدمة للعهد ورئاسة الجمهورية ينبغي أن يطلب إجازة عن الكلام".
رفض سني يربك المشهد
بالإضافة إلى رفض الحراك للصفدي لأنه يراه جزءاً من النخبة السياسية الفاسدة، فلقد كان هناك رفض في الأوساط السنية للصفدي وبالأحرى طريقة ترشيحه.
فبعد أن بدا في البداية أن الحريري موافق على ترشيح الصفدي، خرج رؤساء الحكومة السابقين، تمام سلام ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة الذين نفوا أول من أمس المعلومات التي أشارت إلى موافقتهم عليه، وهو موقف لا يمكن أن يكون بعيداً عن الحريري.
وأكد الرؤساء نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام، في بيان، "على موقفهم الأساسي باعادة تسمية الرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة الجديدة
وقالوا "إننا نرى، في ضوء الأوضاع الراهنة، أنه على القوى السياسية كافة تسهيل مهمته في ذلك".
إضافة إلى ما رافق بيان رؤساء الحكومات الثلاث من تسريبات وسجالات إعلامية بين مصادر الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل بعدما اعتبر مقربون من الحريري أن تحديد باسيل موعد الاستشارات النيابية، خرقاً للدستور وتعدياً على صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف.
وفي هذا الإطار، رأى السنيورة، في حديث تلفزيوني أنه "كان من المفترض ومنذ استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، أن يبادر رئيس الجمهورية بالدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة. لكن ما جرى كان التفافاً على مسألة الاستشارات النيابية الملزمة وخلافاً للدستور اللبناني، وذلك بإجراء مشاورات جانبية، وفي ذلك افتئات على صلاحيات رئيس الحكومة المكلف الذي يفترض أن يصار إلى تكليفه بنتيجة تلك الاستشارات الملزمة ويقوم هو بإجراء المشاورات مع النواب".
وفي الأغلب سعد الحريري ليس بعيداً عن إعلان روؤساء الحكومات الثلاثة رفض تكليف الصفدي ، خاصة أن السنيورة هو الرجل الثاني في تيار المستقبل، وسلام حليف مهم للحريري.
يمثل ترشيح الصفدي والجدل المحيط به نموذجاً يوضح تعقيد الأزمة اللبنانية الحالية واختلافها عن الأزمات السابقة.
إذ لجأ السياسيون اللبنانيون للأشخاص والمناورات والأساليب القديمة، ولكن الجديد أن هناك حراكاً في الشارع طالما شاهد هذه المناورات لعقود ويحفظها جيداً وسئمها ويريد تغييراً حقيقياً.
ولذا لم يكن غريباً أن الحراك عقب اعتذار الصفدي قد جدد دعوته لتشكيل حكومة مستقلة، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وتفعيل أجهزة القضاء لمحاسبة من يتهمونهم بالفساد، بينما يحاول السياسيون التقليديون استخدام اعتذار الصفدي كجسر للعبور للعودة للماضي.