يقال إن الطائفية والسلاح والتحالفات الخارجية سمة السياسة والحياة في لبنان منذ الاستقلال، ولكن الواقع أنها أقدم منذ ذلك بكثير، إذ إن جذور النظام الطائفي القائم على خلطة السلاح والدين والتحالفات الخارجية، تعود لمئات السنين.
وبعد ااستقلال البلاد عن فرنسا، أصبح للبلاد رئيس وبرلمان وحكومة وجيش، ولكن ظلَّ ملوك الطوائف الحكامَ الفعليين، بل ازداد نفوذهم.
فمن يتابع التركيبة اللبنانية، منذ إعلان الاستقلال، مروراً باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، يدرك أن من يحدد شكل ومضمون اللعبة السياسية هي لغة القوة المسلحة وطريقها المعبَّد بالضحايا والدماء وحروب الأزقَّة وفرض الزعامات العائلية بقوة الميليشيات وصوت الرصاص والقذائف.
فهل يستطيع شباب الحراك الشعبي في لبنان تحدي هذه الزعامات التي تقود آلافاً من الميليشيات؟ وما الأدوات التي ابتكرها نشطاء الحراك في مواجهة قوة ملوك الطوائف الراسخة؟
أولى الحروب الأهلية بعد الاستقلال
كان استقلال لبنان في 22 نوفمبر 1922 لحظة فريدة في تاريخ البلاد.
إذ بدا أنه قد أنهى عقوداً -إن لم يكن قروناً- من الصراع الطائفي بين المسيحيين والمسلمين، وتحديداً الموارنة والدروز، وحسماً للخلاف على هوية لبنان العربية، بتأكيد الوجه العروبي وتوزيع السُّلطة.
ولكن سرعان ما تبيَّن أن النظام يحمل فيه طيَّاته أزمات قادمة عبر المحاصصة الطائفية التي جعلت زعماء الطوائف الحكام الحقيقيين، وكذلك عبر منح المسيحيين حصة أكبر في السلطة، وهو الأمر الذي جعل المسلمين يطالبون بالمساواة أو إلغاء الطائفية، مع ميل لطلب الدعم من المحيط العربي.
في حين يقدّم الزعماء المسيحيون أنفسهم للطائفة على أنهم حُماة حقوقها التاريخية التي يريد المسلمون أخذها، مع الاعتماد على الحماية الغربية إضافة إلى الخلاف بين المسلمين والمسيحيين على الموقف من قضايا المنطقة، مع تزايد المد القومي بقيادة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر.
بدأت إرهاصات الصراع الطائفي المسلح في لبنان مطلع عام 1958، الذي كاد يشعل حرباً أهلية (صراع أمريكي-سوفييتي-ناصري) ضمن صراع مفتوح للسيطرة على الشرق الأوسط بين معسكرين عالميَّين، وقوة قومية عربية بزعامة جمال عبدالناصر دمجت سوريا ومصر.
بدأ التوتر في عام 1956، عندما رفض الرئيس اللبناني كميل شمعون، المسيحي الموالي للغرب، قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الغربية التي هاجمت مصر أيام أزمة السويس والعدوان الثلاثي.
وزادت حدَّة هذا التوتر عندما أعلن كميل شمعون تقرُّبه من حلف بغداد، الذي اعتبره عبدالناصر تهديداً للقومية العربية. وعند قيام الوحدة بين مصر وسوريا باسم الجمهورية العربية المتحدة، دعمها رئيس الوزراء اللبناني السُّني رشيد كرامي في 1956 و1958. وطالب اللبنانيون المسلمون الحكومة اللبنانية بالانضمام إلى الوحدة، في حين أراد المسيحيون التحالف مع الدول الغربية.
وحصل تمرُّد إسلامي مسلح، قيل إنه حصل على السلاح من الجمهورية العربية المتحدة عن طريق الإقليم الشمالي (سوريا)؛ وهو ما دفع كميل شمعون إلى تقديم شكوى إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وأعلن محققو الأمم المتحدة عدم وجود أي دليل على تدخُّل الجمهورية العربية المتحدة. في 14 يوليو/تموز، سقطت الحكومة الملكية الموالية للغرب في العراق، فحصل عدم استقرار داخلي في لبنان، طلب عندها شمعون المساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية وإرسال الجيش الأمريكي لقمع المعارضة الوطنية التي تشكلت نواتها من السُّنة والدروز.
وانتهى الصراع يومها باستقالة الرئيس كميل شمعون وانتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بالتوافق مع كل اللاعبين الإقليميين حينها (تحديداً مصر والولايات المتحدة).
ولكن الصراع السياسي استمر مع دخول سوريا والحركات الفلسطينية للمشهد، إضافة إلى صعود دور الطائفة الشيعية تحت قيادة الإمام موسى الصدر.
الحرب الأهلية الكبرى
وأدى التوتر بين المسلمين، لا سيما الدروز المدعومين من الفلسطينيين، والموارنة الذين كانوا يسيطرون على الدولة وأسسوا ميليشياتهم أيضاً- إلى نشوب الحرب الأهلية في 1975.
وأصبحت المتاريس هي لغة المشهد، وانقسمت العاصمة بين شرقية مسيحية يدعمها الغرب، وغربية سُنية يدعمها الشرق (الاتحاد السوفييتي وعدد من الدول العربية).
وسادت وقتها لغة القتل على الهوية، وحصار المدن والمخيمات، والمجازر، وتغيير الديمغرافيا، وصراع الأجنحة؛ وهو ما خلف جرحاً عميقاً يعيش اللبنانيون على ذكرياته حتى هذا اليوم.
وانتهت فصول اللعبة الدموية بـ "اتفاق الطائف"، الذي مهَّد لولادة الجمهورية الثانية، التي خفضت صلاحيات رئيس الجمهورية وقدمتها على طبق من ذهب للرئاسة الثالثة (رئيس الحكومة السُّني)، وهو ما يعني إعادة رسم التوازن بين مارونية سياسية بخلفياتها الغربية، وصعود للسُّنية الجديدة المدعومة من نظام دمشق سياسياً وبغطاء مالي سعودي أنجب حينها زعامة رفيق الحريري.
واللافت أن الاتفاق نزع سلاح الميليشيات كلها ما عدا المقاومة، التي أصبح يحتكرها الشيعة ممثَّلين في حزب الله وحركة أمل وحركات صغيرة حليفة لسوريا.
اللحظة المفصلية.. اغتيال الحريري الاختبار الذي نجا منه حزب الله
يرى الباحث في التاريخ السياسي طارق المبيض، أن اغتيال الحريري كان حدثاً استثنائياً رغم أن لبنان شهد عشرات الاغتيالات السياسية.
إذ إن اغتيال الحريري ترافق مع قرار أممي حينها (القرار 1559) والذي يقضي بسحب سلاح حزب الله الخارج من عباءة طهران والمستند إلى زخم شعبي.
شكَّل الاغتيال امتحاناً لقياس قوة حضور الحزب بعد انسحاب الجيش السوري على ساحة لبنانية مستجدة، بدت حاضرة لصراع جماهيري، عنوانها الأكيد "الغلبة لمن يحشد الساحات".
فقد مثَّل تشييع الحريري أول الامتحانات الشعبية لتيار ناشئ يحمل شعار الثأر للحريري، ويطالب بخروج فوري لسلطة نظام الأسد، المتهم الأول -بحسب هؤلاء- باغتيال الرجل.
لكن المفارقة الكبرى أن حزب الله أراد اختبار شعبية ساحته، حيث أعلن أمينه العام، حسن نصرالله، الدعوة إلى مليونية "شكراً سوريا" والتي حشد لها الجماهير في ساحة رياض الصلح، لتحضير أرضية جماهيرية لما بعد الخروج السوري، فالانتخابات البرلمانية كانت تقرع الأبواب حينها.
مشاهد الساحة الممتلئة بجماهير الولاء للحزب استفزت وقتها الخارجين من عزاء الحريري، وكانت الدعوة حينها لمليونية أخرى بساحةٍ مقابلة في 14 مارس/آذار 2005، والتي أسست حينها لحلف واسع من أطياف تداعت لإعلان ولادة لبنان جديد، وهو ما أجبر النظام السوري على الانسحاب من لبنان، بعد ثلاثة عقود من وصاية قمعية كانت تحدد حتى المرشحين الفائزين في انتخابات البرلمان وليس الرئاسة فقط.
وبات الشارع هو مسرح عرض العضلات بين قوى 8 و14 من آذار عند كل مناسبة أو تشييع. وشهد الشارع أيضاً في نهاية عام 2006 اعتصاماً مفتوحاً لحزب الله والتيار الوطني الحر وفريق الولاء لسوريا الأسد بعد استقالاتهم من حكومة فؤاد السنيورة؛ اعتراضاً على المحكمة الدولية التي تشكلت لمحاكمة قتلة الحريري.
العودة للشارع مجدداً ولكن بالسلاح هذه المرة
وأصبح وسط بيروت مخيماً كبيراً لمحازبي فريق 8 آذار، للمطالبة بإسقاط الحكومة، وشهد لبنان خلال هذه الفترة عديداً من الأحداث والاغتيالات السياسية والتظاهرات والتظاهرات المضادة بين أفرقاء الوطن الواحد، حتى تاريخ السابع من مايو/أيار، الذي يشكل يوماً فارقاً في موازين القوى في لبنان.
في هذا اليوم ثبت أنَّ صوت البندقية يعلو فوق صوت الشارع، بعد أن اقتحم مسلحو حزب الله وحركة أمل بيروت بعد اتخاذ حكومة السنيورة إجراءاتٍ، اعتبرها الحزب مساساً بخطوطه الحمراء، منها تفكيك شبكة اتصالات الحزب العسكرية، وإقالة مدير أمن مطار بيروت المحسوب على الحزب.
بعد هذه القرارات، قرر حزب الله إعلان حسمه العسكري في بيروت وجبل لبنان، وأدت الأحداث حينها إلى مصرع 71 شخصاً (وفقاً لبعض التقديرات)؛ من جراء القتل والاشتباكات المسلحة، إلى حين المبادرة القطرية التي أفضت إلى "اتفاق الدوحة" بين الأفرقاء اللبنانيين وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
لعبة الشارع تنتقل من ملوك الطوائف إلى الحراك
تُجمِع كل الأطراف السياسية على أن حزب الله، منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان، هو أكثر القوى اللبنانية التي تجيد لغة الشارع والحشد الشعبي والجماهيري، وهذا ما برهنته الساحات اللبنانية التي شهدت تظاهرات دعا إليها الحزب ومن يدور في فلكه (حركة أمل-التيار العوني)، نتيجة التعبئة السياسية والعقائدية، والعناوين التي باتت الخبز اليومي للحزب وجمهوره.
لكن حزب الله نفسه بات يدرك خطورة لعبة الشارع منذ حراك المجتمع المدني صيف عام 2015، والتي فاجأت حينها الأحزاب اللبنانية التي لم تتعود حراكاً مطلبياً يملء الساحات، ويطالب برحيلها على خلفية أزمة النفايات.
لكن امتصاص القوى السياسية حينها للحراك والالتفاف عليه أفضيا إلى تراجعه.
ويرى الناشط السياسي سعد إسكندراني، أنَّ تسارع الأزمة الاقتصادية منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، بما عُرف حينها بالتسوية الرئاسية التي أعادت سعد الحريري إلى السلطة في لبنان، جعلت اللبناني يدفع ثمن خيارات اقتصادية أنتجتها الحكومة والتي باتت الضرائب خبزها اليومي، وهو ما زاد الخناق على الطبقتين المتوسطة والفقيرة.
وأمام تسريبات متتالية عن صفقات ومحاصصات وهدر وفساد، انتهت إلى أزمتَي الدولار والمحروقات، أصبح اللبناني أمام مفترق طرق خطير: إما الاستمرار في الزحف نحو الانهيار المالي، وإما الانتفاض الفوري على قوى الحكم.
وجاءت ضريبة وزارة الاتصالات على تطبيق "واتساب"، لتعلن انفجاراً شعبياً، كانت بيروت أولى محطاته، وأدى هذا الانفجار إلى تظاهرات شعبية أربكت أحزاب السلطة السياسية، ووضعتها أمام خيارين: إما مواجهة الناس الغاضبة في الساحات، وإما الخضوع لها.
وجاءت ورقة الإصلاحات الحكومية التي طُرحت، لتزيد غضب الناس، مطالبين برحيل الطقم السياسي من أعلى الهرم حتى أسفله.
ورغم تلميحات وتلويحات الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، فإن الحراك لم يخفت.
الأهم أنه بدا أنه اكتشف سلاحاً فعالاً في مواجهة ملوك الطوائف.
سلاح الحراك الجديد في مواجهة ملوك الطوائف
الجديد في الحراك اللبناني المنطلق منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، أن ناشطي الحراك اتخذوا من قطع الطرقات سبيلاً أساسياً في مواجهة الحكومة، وهذا يعني شل البلد وإقفاله تماماً، وتكبيد الحكومة خسائر كبرى.
ويعني هذا أن الصراع الشعبي والجماهيري بات يأخذ شكلاً جديداً غير الذي تعودته الحكومات المتعاقبة، التي دأبت على امتصاص مطالبات الإصلاح، وترك المحتجين يتظاهرون إلى أن تخبو حماستهم.
والمفارقة المهمة هي اتهام البعض لأحزاب سياسية بركوب موجة الحراك، خاصةً في الساحات المسيحية والسُّنية، التي تتخذ من الوزير جبران باسيل خصماً مباشراً وتتهمه بمحاولة السيطرة على قرار الحكومة وإقصاء شركاء آخرين.
أسلحة ملوك الطوائف المضادة
ويرى بعض المراقبين أن انخفاض حدَّة المشاركة في المناطق المسيحية بعد استقالة الحكومة، نتيجة جزئية لدخول حزبَي القوات والكتائب على خط الحراك في منطقتي جل الديب وذوق مصبح، لمحاولة الضغط حينها على باسيل ودفعه إلى التراجع.
وردَّ التيار الوطني الحر، الذي يتزعمه باسيل، بحشد تظاهرة بالقرب من منزل رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، واتهامه باختلاس المال العام؛ ربما لتحويل الصراع من جديدٍ إلى صراع طائفي، في ظل اتهام قوى سياسية أخرى لـ "الجماعة الإسلامية" بقيادة التحركات في المناطق السُّنية، وهذا ما تنفيه الجماعة بشكل واضح.
وحزب يلوح بالشارع
جاء الخطاب الأول للأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، بعد انطلاق عجلة الثورة الشعبية، ليزيد التوتر وحدَّة الصراع.
فنصرالله أعلن أنه لن يسمح برحيل العهد، الذي جهد الحزب على الإتيان به، وكان التهديد الرئيسي هو أن حزبه جاهز لحشد شارع بوجه شارع، وهو ما يعني أنه حاضر للعبة الشارع، التي يؤكد نصرالله جهوزيته فيها.
وباتت العيون تترقب حشد الشارع المضاد ولتأتي تظاهرة التيار الوطني الحر الداعمة لرئيس الجمهورية كامتحان لشعبية حلفاء الحزب، بالإضافة إلى امتحان اختبار القوة، التي مارسها الحزب في الاعتداء على المتظاهرين وسط بيروت؛ في محاولة لترهيب المتظاهرين.
لكن الشيء الجديد أن كل محاولات الترهيب والتهديد بالشارع والساحات المضادة كانت تزيد قوى حراك اللبنانيين بشكل متصاعد، عكس تجارب سابقة، وهو ما يعني انكسار حاجز الخوف المستمد من خطاب المذهب والطائفة والأقلية والأكثرية.