لو لم تكن الاحتجاجات في العراق ولبنان والأوضاع المعقدة التي لا تزال تتكشف عنها الأحداث في شمال شرق سوريا، لكان الاكتتاب العام الأوليّ لشركة أرامكو السعودية سيصبح إلى حدٍّ بعيد، القصةَ التي تحتل صدارة العناوين في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فربما لا يزال من نصيب التاريخ أن يتذكرها كذلك.
إذ ظلت الشركة ذات أهمية مركزية في سلطة آل سعود، تحديداً لأن العائلة المالكة ما انفكت تُحكِم السيطرة عليها. أما الآن، فإن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان جعل الشركةَ، في الوقت نفسه، في المركز من خطته الرامية إلى تغيير وجه البلاد، المعروفة باسم "رؤية السعودية 2030″، بوعده بيع جزءٍ من أسهمها للمستثمرين، وبالتالي منح أطراف أخرى سيطرة أكبر عليها.
كيف يمكن أن نفهم قرار محمد بن سلمان؟
ستيفن كوك، باحث في شؤون منطقة الشرق الأوسط والدراسات الإفريقية في "مجلس العلاقات الخارجية" الأمريكي في مقالة نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية، إن الإجابة سهلة، الأمر يتعلق بالمال. إذ على الرغم من السمعة المعروفة عن السعودية بأنها دولة ذات ثروات هائلة، فإن المملكة العربية تحتاج إلى مزيد من النقود.
لكنَّ هناك شيئاً آخر يجري ها هنا: عملية إعادة التأهيل السياسي لولي العهد. سيزعم أنصاره أنه لا يحتاج إلى إعادة تأهيل لأنه دائماً ما حظي بدعمٍ وتأييد واسع في السعودية. قد يكون هذا صحيحاً، ومع ذلك فلتحقيقِ رؤية 2030، يحتاج محمد بن سلمان إلى بعض السمعة الجيدة والنوايا الحسنة إزاءه التي تمتع بها حتى منتصف عام 2017. لكن هناك مشكلة واحدة فقط: وهي أن الاكتتاب العام الأولي لأسهم أرامكو ينطوي على مخاطرة أكبر بكثير مما يُقرّ السعوديون به.
الكثير من الالتباس
يقول كوك: من الأهمية بمكان أن نفهم أنه على الرغم من أن وسائل الإعلام أخذت تعرض تقارير مكثفة عن الاكتتاب العام، فإن هناك الكثير من الالتباس حول ما يحدث بالفعل. السعوديون يعرضون بيعاً على نسبة 2-5 % من أسهم الشركة.
غير أن إحدى النقاط الشائكة هي ما يتعلق بالتقييم أو تحديد القيمة السوقية للشركة، إذ وصل بعد سنوات من الجدال إلى ما بين 1.2 تريليون دولار (وفقاً لـ"بنك أوف أمريكا") و2.3 تريليون دولار، وهو الحدّ الأعلى لقيمتها وفقاً لتقييم مؤسسة "غولدمان ساكس". من جانبهم، يقول السعوديون إن أرامكو تبلغ قيمتها ما بين 1.7 تريليون دولار إلى 2 تريليون دولار. لكن بصرف النظر عن التقييم النهائي، فإن حقيقة أن البنوك تُقدّر قيمة الشركة على نطاق تريليون دولار فقط، لهي أمر غير مسبوق.
إذا كان الطلب ضعيفاً وقررت السعودية بيع 2% فقط من أسهم الشركة، فإنهم سيجمعون وفقاً لتقديرات بنك أوف أمريكا، 24 مليار دولار. وفي أفضل الأحوال، إذا ارتفع العرض ليصل إلى 5%، فإنه وفقاً لتقييم مؤسسة غولدمان ساكس، سيحصل السعوديون على 115 مليار دولار. هذا نطاق واسع بالفعل، لكن في كل الأحوال، هناك كثير من الأموال على المحك.
المستثمرون السعوديون ليس لهم خيار إلا الاستثمار
يضيف الباحث كوك: ستُطرح الأسهم في السوق المالية السعودية (تداول)، بداية من ديسمبر/كانون الأول المقبل. حثّت الحكومة السعودية السعوديين بشدةٍ على الاستثمار في الأسهم، وهذا يعني أن هناك مستثمرين (منهم أشخاص في البلاط الملكي وشركات كبرى) ليس لديهم خيار في هذا الشأن، لأن سبل عيشهم ومكانتهم متوقفة على إثبات أنهم يدعمون برنامج محمد بن سلمان، إضافة بالطبع إلى المستثمرين الأفراد الذين سيستثمرون بدافعٍ من "نشوة المشاعر الوطنية" أو "تأثراً بالدعاية الصاخبة التي تكتنف العرض".
من الواضح أن ولي العهد يعتقد أن الاكتتاب العام يأتي في وقت مناسب. إذ سيوفر زخماً وقوة دافعة لرؤية 2030، والتي لم تتقدم كما كان يأمل السعوديون. كذلك فإن مجرد خطوة تعويم الأسهم، ستتيح له التأشير على تحقق شيءٍ ما من قائمة خطوات رؤية 2030. علاوة على أنه يعني أيضاً تغيير السردية التي هيمنت على النقاشات المتعلقة بالسعودية منذ منتصف عام 2017، بل وبالأحرى منذ اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
ويُسهم في الأمر أن قادة الأعمال العالميين كانوا قد ألمحوا، خاصة بظهورهم في مؤتمر الاستثمار الذي عُقد مؤخراً في السعودية (الذي دُرج على تسميته بـمؤتمر "دافوس الصحراء")، إلى أنهم يريدون تجاوز الأمر والانتقال إلى مرحلة ما بعد خاشقجي، أي.. العودة إلى الأعمال والأشغال.
مخاطر الاكتتاب الأكبر
يرى كوك، أن هناك مخاطر تكتنف الدفع السعودي الحالي في اتجاه إنجاز عملية الاكتتاب العام لهذه الأسباب:
المخاطرة الأولى
قد تكون هذه لحظة جيدة من الناحية السياسية لمحمد بن سلمان للمضي قدماً، لكن شهر ديسمبر/كانون الأول ليس وقتاً مناسباً لطرحٍ عام أوليّ.
ذلك لأن مستثمري المؤسسات الدولية الذين حققت استثماراتهم العوائد السنوية المرجوّة يميلون إلى الأحجام عن المخاطرة في ذلك الوقت، في حين أن المستثمرين الآخرين الذين لم يحققوا الأهداف المرجوّة لن يريدوا المجازفة بتورطٍ أكبر في استثمار قد يفشل، ومن ثم يكون لديك المستثمرين الذين ساءت أوضاعهم تماماً لدرجة الاستعداد للرهان على أي شيء. وأقل ما يقال عن ذلك إنها ليست بيئة استثمارية كبيرة في أحسن الأحوال.
المخاطرة الثانية
وهذه تتعلق بالحسابات التي أجراها المستثمرون الدوليون. فقد خُطِّط أن يكون الاكتتاب العام على مرحلتين: عرض محلي وآخر دولي. ورغم النقاشات التي أخذت تدور حول أي بورصة دولية ستُدرج أسهم أرامكو فيها، فإن كثيراً من المحللين لا يعتقدون حقاً أن ذلك الإدراج سيحدث أبداً.
إذ من المحتمل أن يُسمح للمستثمرين الأجانب بالحصول على جزء فقط من المعروض من خلال سوق الأسهم في السعودية، أي سيجري التعامل معه على أنه ما يُطلق عليه خبراء الاستثمار "عرض ترويجي" لبناءِ طلبٍ على أسهم الشركة.
وخلال هذه العروض الترويجية، سيقصد مستثمرو المؤسسات إلى تحديد سعر الاكتتاب العام لأسهم شركة أرامكو بشكل مستقل. وإذا لم يصل السعر إلى ما يريد محمد بن سلمان، فسيكون أمامه خياران: المضي قدماً على أي حال، أو إيقاف العملية برمتها. وكلاهما سيترك الأمير في "هيئة الأحمق" بعد ذلك الترويج والإعداد الطويل لعملية الاكتتاب العام.
المخاطرة الثالثة
المخاطرة الأخرى، هي أن البيئة الجيوسياسية الحالية في المنطقة لا تساعد في إنجاح طرح عام أوليّ. وصحيح أن السعوديين سعوا إلى تهدئة الأمور مع إيران منذ الهجمات النفطية في 14 سبتمبر/أيلول الماضي، لكن الحرس الثوري الإيراني لا تزال لديه كل الأسباب لإبقاء السعوديين في موقف دفاعي وحالة اضطراب مع إجراء الاكتتاب العام لشركة أرامكو. ولا يحتاج الحرس الثوري إلى القيام مرة أخرى بعملية هائلة كمهاجمة أكبر منشآت معالجة النفط، بل كل ما عليه هو التسبب فقط في أضرار تكفي للفت انتباه المستثمرين وإثارة قلقهم.
هل يستطيع السعوديون تنويع اقتصادِهم بالفعل؟
لنفترض أن كل شيء سار على ما يُرام وأن الطرح العام الأوليّ حقق للسعوديين عائداً صافياً يتراوح بين 24 مليار دولار و115 مليار دولار؛ فإن هذا سيكون ربحاً مفاجئاً وغير متوقع- لكنها ستظل، مع ذلك، أموالاً هناك حاجة كبيرة إليها، فالصراع الدائر في اليمن مكلف، والسعوديون لديهم خطط تنمية كبيرة وعديد من الالتزامات. وفي الوقت نفسه، تراوح سعر برميل النفط بين نحو 46 دولاراً و64 دولاراً في عام 2019، ما جعل الأمور ضيقة نوعاً ما.
وكما يبدو فإن الأموال ستُستخدم في الغالب لإنجاز أهداف ولي العهد فيما يتعلق بإعادة تشكيل الاقتصاد والمجتمع السعوديين. لكن هذه الأهداف يجب التعامل معها ومع تحقيقها بكثير من التأمّل الحذر. إذ لطالما، كما يمكن لنا جميعاً أن نتذكر، كان السعوديون يعلنون أنهم سيعملون على تنويع اقتصادِهم حتى لا يكون اعتمادهم الكامل على النفط، غير أن الواقع أن هذا لا يحدث أبداً.
إذ سبق أن أعلن السعوديون، منذ أكثر من عقد من الزمن، عن مخططات لإنشاء مجموعة من المدن الجديدة ترمي إلى الاستفادة من كافة الإمكانات الاقتصادية المتاحة. وكانت المخططات (ومقاطع الفيديو الترويجية) مثيرة للإعجاب، لكن تلك المساعي فشلت فشلاً ذريعاً، وكان الأمر إهداراً هائلاً. يبدو أن السعوديين عازمون الآن على إنشاء "نيوم"، وهي مدينة مستقبلية (أغلب سكانها روبوتات!) يُخطط لها أن تقام على سواحل البحر الأحمر.
لم يأت أي مسؤول سعودي على الإطلاق بسببٍ وجيه يفسّر فكرة إنشاء المدينة، بخلاف قولهم إن الاستشاريين الدوليين يقولون إن موقعها رائع. لكن إذا كان هذا هو الحال، فلم إذاً لم يجر إنشاء مدينة وتطويرها في هذا الموقع من قبل؟ وليس هناك استخدام أفضل للموارد السعودية من تحديث البنية التحتية وإعمار أماكن يريد الناس حقاً العيش فيها.
الأمر كله متعلق بسيطرة ولي العهد
ينبغي الالتفات إلى أن قادة السعودية يهتمون، أكثر من أي شيء آخر، بالحفاظ على سيطرتهم. وحتى الإصلاحات الاجتماعية التي شرع فيها ولي العهد هي في نهاية الأمر تتعلق بالسيطرة. إذ رأى محمد بن سلمان أن لديه فرصة أكبر لانتزاع ولاء رعاياه –وبالتالي تعزيز قوته الخاصة ونفوذه- من خلال إعطائهم الأفلام والحفلات الموسيقية وفعاليات المصارعة، إلى جانب كبح جماح الشرطة الدينية، ومنح النساء الحق في قيادة السيارات.
غير أن هناك دائماً خطر أن يعمد الناس بعد ذلك إلى طلب أكثر مما يرغب ولي العهد في تقديمه. والأمر يتماثل مع فتح الباب أمام الاكتتاب العام، فهو جيد لصورة القيادة السعودية، لذا فهم يريدون السيطرة على العملية. لكن، ومع ذلك، فإنه بمجرد تعويم أسهم الشركة الأهم في البلاد وتعيين سعر حقيقي لها، سيفقد محمد بن سلمان السيطرة. إذ فجأة سيكون هناك مستثمرون يطالبون بالشفافية والالتزام بالقواعد وطرق للاحتكام تحميهم من نزوات الحكام. وهذا ما يُطلق عليه اقتصاد السوق. فهل هذا ما يريده ولي العهد حقاً؟ يقول هو ومؤيدوه إن هذا ما يريده، لكن أفعاله أفادت مراراً وتكراراً عن شيء آخر.
الاكتتاب.. عرض ترويجي لرؤية ولي العهد
يقول كوك إن الاكتتاب العام لا يعدو كونه مجرد عرض يهدف تسليط الضوء على رؤية محمد بن سلمان ومجهود العلاقات العامة الشاق الذي يبذله ليروّج لاضطلاعه بحملةٍ ستنقل المملكة العربية السعودية إلى آفاق القرن الحادي والعشرين. في حين يبدو أنه هو ومستشاروه، وكما هو الحال مع نيوم وغيرها من مشاريع الفيلة البيضاء الضخمة ذات التكلفة الهائلة المدمرة، لم يفكروا في الآثار المترتبة على ما يفعلونه، وهو منشغلون بالإعلانات المبهرجة وما يأتي معها من إشادات صحفية ومديح.
من المؤكد أن الاكتتاب العام لأسهم أرامكو سيحقق أرباحاً مالية هائلة، لكنه سيجلب معه ارتياب واحتمالات فشل من نوع آخر. ولا شك أن طرح أسهم الشركة قد يفرض انضباطاً وشفافية على تعاملات أرامكو السوقية، لكن الاكتتاب العام سيحمل في جعبته الكثير في ما هو قادم، إذ يبدو أن الدافع الاقتصادي وراءه أقل من المصلحة السياسية التي ستُبنى على ادّعاء بيع جزءٍ من أسهم أرامكو للمستثمرين. إذ ليس هناك منطق في اتخاذ خطوة لها مثل تلك التداعيات والآثار التي يتعذر الرجوع فيها.