في صباح يوم ثلاثاءٍ ناعس، كانت ساحة الشهداء خاليةً مؤقتاً من مئات الآلاف من المُتظاهرين، الذين حوَّلوا وسط مدينة بيروت إلى مركزٍ لانتفاضتهم منذ الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول.
ولقرابة الثلاثة أسابيع، خرج اللبنانيون إلى الشوارع بطول البلاد وعرضها لإدانة فساد الطبقة السياسية وقبضتها المُحكمة على السلطة، في خضم أزمةٍ اقتصادية تزداد سوءاً.
الزارعون المتطوعون
ولكن في ذلك الصباح تحديداً، لم يحضر سوى حفنة من الأشخاص الذي يحملون بلاطاً إسمنتياً ثقيلاً من الأرصفة ويحفرون في التربة السطحية. واستقرت أشجارٌ لبنانية أصلية داخل أصص بالقرب من الحفارين المُتطوِّعين.
وسرعان ما سيجري وضع تلك الأشجار داخل الثقوب المحفورة، حيث يأمل الزارعون أن تصير تلك الأشجار مُكتفيةً ذاتياً في غضون عامين. وترمز هذه الخطوة إلى التجسيد المادي لطموح المُحتجين في استعادة الأماكن العامة بالمدينة.
ولا يمتلك لبنان سوى عددٍ محدود من الأماكن العامة غير المُعرَّضة لخطر الاختفاء، وحياةٍ نباتية أقل مساحة، نتيجة الخصخصة المُتفشِّية والغياب شبه الكامل للتخطيط الحضري.
وتُشير التقديرات إلى وجود 0.8 متر مربع من المساحات الخضراء لكل ساكنٍ في العاصمة اللبنانية -وهو أقل بكثير من المساحة الخضراء التي تنصح بها منظمة الصحة العالمية، والتي تصل إلى تسعة أمتارٍ مربعة للفرد الواحد.
ويعمل المُتطوِّعون تحت قيادة أديب دادا، مُؤسِّس شركة theOtherDada، وهي شركةٌ معمارية مُتخصِّصة في مجال البيئة.
"طريقة مياواكي"
ليس هذا أول مشروعٍ يُديره دادا من هذا النوع. ففي وقتٍ سابق من العام الجاري، زرع فريقه 800 شجرة وشجيرة على الضفاف الخرسانية لنهر بيروت الذي تُحيطه الكثير من المباني، لكن هذا المشروع يختلف في طبيعته. إذ كان يُضطّر في السابق إلى الحصول على كافة التصاريح اللازمة، لكن دادا ومُتطوّعيه لم يشغلوا بالهم بالتصاريح هذه المرة.
وقال المهندس المعماري لموقع Middle East Eye البريطاني: "لقد قرَّرنا أن نستولي على تلك المساحات الفارغة ونزرع فيها، نظراً لأنَّنا في وضع الثورة".
وتستخدم مجموعته تقنيةً تُعرف باسم "طريقة مياواكي"، نسبةً إلى عالم النباتات الياباني الذي ابتكرها. وخلال هذه العملية، تُزرَع شتلاتٌ من مجموعةٍ متنوعة من الأشجار الأصلية، والتي تتنافس مع بعضها البعض من أجل المعادن وأشعة الشمس، مما يُنتِج غابةً طبيعيةً مُتنوعة.
واستُخدِمَت هذه التقنية في العديد من المُدن الكبرى حول العالم، لتخفيف بعض الآثار القاسية للبيئات الحضرية الكثيفة. إذ يُؤدِّي الاستخدام المُكثَّف للخرسانة والزجاج في مدنٍ مثل بيروت إلى رفع درجات الحرارة المحلية، وزيادة الطلب على وحدات تكييف الهواء، مما يُؤدِّي بالتالي إلى زيادة التلوث.
وأوضح دادا: "يُعَدُّ التشجير الحضري أفضل وسيلةٍ تمتلكها المُدن للتعامل مع تغيُّر المناخ. وهذا جهدٌ شعبي. فنحن نُعيد تخصيص مساحاتنا العامة بنوعية المساحات الخضراء التي نُريدها، وبطريقةٍ مُستدامة".
وقالت منى حرب، أستاذة الدراسات الحضرية والسياسة بالجامعة الأميركية في بيروت، إنَّ مشروع التشجير وغيره من المشروعات الشبيهة التي تهدف إلى استعادة مركز المدينة -مثل الطفرة في فنون الشارع- هي "جميعاً من مظاهر رغبة الشعب في استعادة تلك المساحات العامة".
وقالت عن ساحة الشهداء، في إشارةٍ إلى الحرب الأهلية التي دمَّرت البلاد بين عامي 1975 و1990: "نظراً إلى العقم الذي أصاب الساحة في مشروع ما بعد الحرب، إذ صارت أشبه بدوارٍ مُحاطٍ بالبُنى التحتية؛ فإنَّ ما يحدث الآن هو وسيلةٌ لاستعادة الساحة بوصفها مكاناً للقاء".
ومع ذلك، فقد حذَّرت منى من أنَّ الحفاظ على استصلاح تلك المساحة بعد انتهاء الاحتجاجات سيُمثِّل تحدِّياً، نظراً لأنَّ منطقة وسط المدينة مملوكةً إلى حدٍ كبير لشركاتٍ عقارية خاصة.
ويخشى دادا أنَّ عمل مجموعته الشاق قد ينتهي به المطاف في النهاية إلى محوه من قِبَل السلطات، نتيجة عدم سلك المجموعة للقنوات الشرعية. لكنَّه يأمل أن تخدمه حقيقة كونه مشروعاً مستداماً ذاتياً بنهاية المطاف. وقال: "يجب أن يكون ذلك هو الحل المثالي للبلديات. فنحن نعلم أنَّهم لا يمتلكون المال إطلاقاً".
التعاون والتعلُّم
حظيت أنشطة العمل المُجتمعي، مثل أنشطة دادا، بالعديد من المُتابعين. وقال رجلٌ يبلغ من العمر 31 عاماً ويحمل مجرفةً في يده، طلب عدم ذكر اسمه: "هذا مشروعٌ رائع. ويتعاون الجميع مع بعضهم البعض".
ووُلِد الرجل لأبٍ سوري وأمٍ لبنانية، لكنَّه لا يمتلك أيّ جنسيةٍ منهما. وبعد فراره من سوريا إثر مقتل والده -على يد النظام حسب قوله- ألهمته الانتفاضات الأخيرة للمشاركة في بعض المشاريع المُجتمعية التي ازدهرت حول ساحة الشهداء.
وخلال حديثه عن برنامج التشجير الحضري، قال: "إنَّه مشروعٌ رائع. ويتعاون الجميع مع بعضهم البعض. لقد تطوَّر الناس، إذ تعلَّموا الكثير من تلك الاحتجاجات".
وبالنسبة لسارة (21 عاماً)، البيروتية التي تخرَّجت من الجامعة الأمريكية في بيروت هذا الربيع؛ فإنَّ مشاركتها في المشروع هي تعبيرٌ عن ظروف معيشتها.
وأوضحت: "نحن نتظاهر من أجل مُختلف القضايا في البلاد. ولا يتعلَّق الأمر بالفساد والاقتصاديات فقط. بل يتعلَّق أيضاً بالبيئة، والظروف شديدة السوء التي تُؤثِّر على حياتنا اليومية".
وعلى غرار العديدين من أبناء جيلها، كانت الخريجة الشابة تُفكِّر في الهجرة بحثاً عن العمل، بعد أن رأت قلة الفرص المُتاحة في وطنها الأم رغم شهادتها في هندسة المناظر الطبيعية، لكنها تُعيد النظر الآن. إذ أضافت: "أود بالتأكيد أن أظل هنا في حال عثرت على فرصة. لقد منحتني الاحتجاجات بعض الأمل".
واستمدّت سارة الإلهام من التغيير الملموس الذي طرأ على ساحة الشهداء خلال الاحتجاجات. وقالت: "لقد كانت الساحة هي أرض الموتى -أو مدينة أشباح. وهذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها الناس وهم يستغلون تلك المساحة بكل تلك الوسائل الإبداعية".