عندما انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة (المعروفة باسم الاتفاق النووي الإيراني) في مايو/أيَّار 2018 وأعاد فرض العقوبات على إيران، اعتقد كثيرون في الإدارة الأمريكية أنَّ ذلك سيؤدي إلى تغيير أسلوب عمل إيران في المنطقة.
وزير الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو قال في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 إنَّ "النظام الإيراني يواصل تمويل الحوثيين اليمنيين الذين يطلقون الصواريخ على الرياض ودبي. ويجب أن يتغيّر هذا السلوك". كانت الإدارة الأمريكية تأمل أنَّه من خلال الحد من موارد إيران، لن يصبح النظام في طهران قادراً على مواصلة دعمه لجماعات مثل الحوثيين. وفي محاولة لتضييق الخناق على العلاقات الإيرانية-الحوثية، ألحقت حملة "الضغط الأقصى" التي تنتهجها إدارة ترامب أضراراً بالغة بالاقتصاد الإيراني، مما أدى إلى خفض ميزانية الدفاع الإيرانية وارتفاع مُعدّل التضخم إلى مستويات كبيرة وزيادة التكاليف المرتبطة بالرعاية الصحية، بحسب تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
وبحسب المجلة الأمريكية مع ذلك، لم تؤثر هذه الحقائق على العلاقة بين إيران والحوثيين على النحو الذي كانت تسعى إليه الإدارة الأمريكية. نشأت الحركة الحوثية على عكس جماعات أخرى في المنطقة، باعتبارها جماعة مناهضة للاستعمار في بداية ظهورها ولم تكن لها علاقات قوية مع إيران، لكن مع استمرار الإدارة الأمريكية في خنق الاقتصاد الإيراني وإذكاء شعور الحصار المتزايد بالفعل في البلاد، نمت العلاقات الإيرانية-الحوثية.
وقد تجاوزت هذه العلاقة مرحلة الانتهازية الإيرانية وتحوّلت إلى شراكة استراتيجية راسخة، كما تبيَّن من هجوم 14 سبتمبر/أيلول على منشآت نفط سعودية. وبينما كان الهدف من حملة "الضغط الأقصى" التي تنتهجها الإدراة الأمريكية، من بين أمور أخرى، يتمثَّل في إضعاف التحالف بين إيران والحوثيين، فقد حقَّقت العكس تماماً. إذ دفعت هذه الحملة إيران إلى تعزيز دعمها للحوثيين وقادت الولايات المتحدة إلى تسريع نظام عقوباتها رداً على ذلك، مما خلق حلقة مفرغة مستديمة لا نهاية لها تلوح في الأفق.
جماعة مناهضة للاستعمار، وليس وكيل حرب
تصنيف الصراع في اليمن بأنَّه "حرب بالوكالة" يعطي فكرة خاطئة عن أصول الحوثيين، الذين لم يعتمدوا على دعم إيران منذ بداية نشأتهم، على عكس حزب الله في لبنان. وُلدت ظاهرة الحوثي من رحم الانتهاك المتزايد من جانب قوى أجنبية لمجتمع معزول بصورة تقليدية. مَوَّل السعوديون عدداً لا يحصى من المدارس الدينية الوهابية في شمال اليمن في محاولة لتقويض الطائفة الزيدية الشيعية، الذين تتمركز معاقلهم عند الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية. كانت هذه المناطق على مدار قرون خاضعة لحكم الأئمة الزيديين المتدينين، وقد حافظ كثير منهم على بقاء أراضيهم معزولة عن بقية العالم في محاولة للدفاع عن هويتهم ضد العدوان الخارجي. لم تشهد المنطقة دخول المذياع لأول مرة حتى عام 1960.
في أوائل تسعينيات القرن الماضي، دعت شبكة من الناشطين أُطلق عليها اسم "حركة الشباب المؤمن" إلى إعادة تأكيد الهوية الزيدية في وقت كانت تتعرض فيه للتهديد على نحوٍ متزايد من جانب النفوذ السعودي. برز اسم "أنصار الله"، الاسم الرسمي للجماعة الحوثية، رسمياً في عام 2003 عندما حشد حسين الحوثي، زعيم المجموعة الذي يحمل نفس اسمها، الفصائل الشمالية ضد الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، الذي سرعان ما رأى في الحوثيين تحدياً أمام الحفاظ على سلطته في البلاد. أدى ذلك إلى اندلاع ست حروب متتالية من عام 2004 حتى 2010، والمعروفة باسم "حروب صعدة"، وهي "معارك مُتجدّدة" قادت إلى تشكيل الجماعة الحوثية المُتمرّسة في القتال، التي نشهدها حالياً.
بدأت العلاقة بين إيران والحوثيين لأول مرة خلال النصف الأخير من فترة حروب صعدة. أرسلت إيران في أكتوبر/تشرين الأول 2009 أولى شحناتها من الأسلحة إلى الحوثيين، والتي سبقتها تقارير عن دعم تكتيكي متزايد. بعبارة أخرى، أتّضحت أصغر علامات التعاون بين إيران والحوثيين بعد ما يقرب من عشرين عاماً من إنشاء الحركة على يد أسلاف الحوثيين.
كانت العلاقة محدودة للغاية في أواخر العقد الأول وأوائل العقد الثاني من القرن الحالي، بل في بعض الأحيان كانت خلافية. وفي أعقاب الاحتجاجات الضخمة التي اندلعت في أوائل عام 2011 وما تلاها من تغيير في السلطة، ألغت الحكومة اليمنية الجديدة دعم الوقود، مما أثار أعمال شغب في الشمال اليمني الذي يسيطر عليه الحوثيون، وأدَّى إلى غزو الجماعة للجنوب في عام 2014. فوجئ الإيرانيون مثل غيرهم بخطوة سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء في عام 2015 –لاسيما أنَّ إيران، كما أفادت تقارير، قد نصحت بعدم اتّخاذ هذه الخطوة. في ذلك الوقت، كانت إيران في مفاوضات نووية حرجة مع القوى الغربية (مجموعة الدول الخمس زائد واحد) واعتبرت موقف الحوثيين العسكري الهجومي على نحوٍ متزايد بمثابة تهديد لأي اتفاق قد تسفر عنه تلك المحادثات. أثبت الحوثيون استقلالية أكبر إلى حدٍّ كبير، على عكس حزب الله، الذي يعتمد على إيران في نواحٍ عديدة وتربطه بها علاقات ثقافية ودينية عميقة.
من معاون إلى شريك متواطئ
صرَّح العديد من مسؤولي إدراة ترامب بأنَّ أولويتهم الرئيسية فيما يتعلّق بإيران هي كبح سلوكها الإقليمي ليصبح أكثر اعتدالاً. من المنظور الإيراني، تعيد مثل هذه الأهداف للأذهان ثورة 1979، التي اندلعت جزئياً استجابة للعلاقة الدافئة المستكينة لشاه إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية. منذ ذلك الحين، تحرَّك المسؤولون الإيرانيون وفقاً لمفهوم مفاده أنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها يعملون جاهدين على تقويض الجمهورية الإسلامية. لذا، لم تؤد حملة "الضغط الأقصى"، التي شنّها ترامب، إلا إلى مفاقمة تلك المشاعر ودفع إيران نحو تشديد التزامها بسياساتها الإقليمية.
وفي حين التقى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي بممثلي جماعة الحوثي في منتصف شهر أغسطس/آب 2019 وأعرب علناً عن دعمه للحركة، انتقد بشدة التحالف السعودي لمحاولته "تقسيم" اليمن. وعلى الرغم من أنَّ ظهور ممثلي الحوثيين في إيران لا يُعتبر أمراً غريباً، كانت هذه أول مرة يلتقي فيها المرشد الأعلى الإيراني مع مسؤولين حوثيين ويُصرّح بمثل هذا التأييد العلني. تسببت مجموعة العقوبات الجديدة، التي فرضها ترامب، بشكل أساسي في تحويل سنوات من المساعدات الإيرانية السرية للحوثيين إلى عروض دعم علنية مُقدّمة من أعلى مسؤول في الجمهورية الإسلامية.
وصلت علاقة إيران المتنامية مع الحوثيين إلى ذروتها في أعقاب هجمات 14 سبتمبر/أيلول الصاروخية على البنية التحتية النفطية السعودية. يمكن افتراض عدد من السيناريوهات حول هوية الجهات الفاعلة المشاركة ودرجة تورّط كل واحدة منهم. ويُبيّن كل سيناريو مستوى أكبر من الترابط بين إيران وحلفائها اليمنيين. يشير أحد السيناريوهات إلى أنَّ إيران نفّذت الهجوم إما من الأراضي الإيرانية أو من أي مكان آخر، ولم يشارك الحوثيون إلا بقبول إسناد الفضل إليهم في شن تلك الهجمات. يفترض سيناريو آخر أنَّ الحوثيين نفّذوا الهجوم بأنفسهم بدعم مالي وتقني أكبر من إيران. ويشير السيناريو المحتمل الأخير إلى وجود عملية مشتركة مُنسّقة بين الطرفين، مع شن هجمات من اليمن ومناطق أخرى باتجاه المملكة.
في جميع السيناريوهات السالفة الذكر، كان يتعيَّن على الحوثيين الموافقة على قبول إلقاء اللوم عليهم في الهجوم وتحمُّل التداعيات المتوقعة. ووفقاً للتحليلات المتاحة علناً، كان هذا الهجوم متطوراً على نحوٍ غير مسبوق، مما يشير إلى حجم تبادل معلومات وعمليات نقل أسلحة تتجاوز المساعدة الإيرانية في السابق. علاوة على ذلك، فإنَّ وجود عملية مشتركة من شأنها تصعيد التنسيق العسكري بينهما إلى مستوى غير مسبوق، إذ يتطلب الأمر تكاملاً بين نظم الأسلحة والتكتيكات والتخطيط لم تشهده العلاقات الإيرانية-الحوثية من قبل.
بغض النظر عن درجة اللوم المُستحقّة لكل طرف عن ذلك الهجوم، يعرض كل سيناريو مستوى جديداً من التعاون. تاريخياً، استخدمت إيران هذه العلاقات لمواجهة ما تعتبره استراتيجية عدوانية تقودها الولايات المتحدة لتطويق إيران وعزلها. اليوم، تستفيد إيران من تحالفها القوي مع الحوثيين لفرض تكاليف على المجتمع الدولي رداً على سياسة الضغط الأقصى، التي ينتهجها ترامب.
فرضت الإدارة الأمريكية مجموعة جديدة من العقوبات ضد البنك المركزي الإيراني في أعقاب فشل المفاوضات في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك في محاولة لوقف تدفق الأموال إلى حلفاء إيران في المنطقة. يبدو أنَّ إدارة ترامب بمواصلتها هذه السياسات تغفل الآثار الفعلية لاستراتيجيتها. فقد ضاعفت التزامها بسياسة الضغط، التي تتعارض مع أهداف ترامب وتقوّض أي محاولات بنّاءة لتحقيق الاستقرار في المنطقة.