ألقت إيران بثقلها في العراق لقمع الاحتجاجات الشعبية العارمة وبعد أن كان إعلان استقالة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي مسألة ساعات تبدلت الأمور بعد تدخل إيراني مباشر، فلماذا تصر طهران على بقاء عبدالمهدي في منصبه رغم تصاعد موجة الاحتجاجات الشعبية وتخلي الكتلة النيابية الأبرز عنه وكيف ستكون الخطوة التالية حال إصرار الشارع الثائر على رحيل الحكومة؟
توصيف خامنئي وزيارة سليماني
يوم الأربعاء 30 أكتوبر/تشرين الأول وصف المرشد الأعلى للثورة في إيران على خامنئي ما يحدث من احتجاجات شعبية في العراق ولبنان بأنها "شغب" حرضت عليه أمريكا وإسرائيل والدول الرجعية في المنطقة (في إشارة للسعودية)، وجاءت عبارة كاشفة وخطيرة على لسانه، حين قال: "نصيحة للحريصين على مصلحة العراق ولبنان أن يجعلوا معالجة اضطراب الأمن أولوية لهم".
وتزامن خطاب خامنئي مع اجتماع لقيادات الأجهزة الأمنية والحشد الشعبي في العراق حضره قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، بحسب تقرير لرويترز، مما أحدث انقلاباً في الموقف السياسي في العراق بشكل كامل.
حتى يوم الثلاثاء 29 أكتوبر/تشرين الأول، أي قبل اجتماع سليماني "السري" وتصريحات خامنئي العلنية، كان العنوان الرئيسي في العراق هو أن "حكومة عبدالمهدي في ساعاتها الأخيرة، بعد أن طالب رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بأن يدعو عبدالمهدي لانتخابات مبكرة لتهدئة أكبر احتجاجات شعبية يشهدها العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003 الذي أطاح بحكم صدام حسين.
وصدرت تصريحات عن الصدر زعيم أكبر كتلة نيابية في البرلمان العراقي ومنافسه السياسي الرئيسي هادي العامري الذي يقود تحالف الفتح، وهو تحالف مدعوم من إيران يمثل أبرز قيادات الحشد الشعبي ويمتلك ثاني أكبر عدد من مقاعد البرلمان، تؤكد اتفاقهما على الإطاحة بعبدالمهدي.
تبدلت المواقف بشكل جذري
العامري وهو أحد حلفاء إيران الرئيسيين في العراق والأمين العام لمنظمة بدر، كان قد أصدر مساء الثلاثاء بياناً عبّر فيه عن استعداده لدعم رحيل عبدالمهدي، حيث أعلن الموافقة على العمل مع الصدر الذي كان قد دعاه للمساعدة في الإطاحة برئيس الوزراء.
وقد قال سياسي قريب من الصدر لرويترز إن موجة حديث العامري مع الصدر تغيرت بعد الاجتماع مع سليماني، إذ قال: "نحن نعتقد أن التوقيت الحالي غير ملائم لسحب الثقة من حكومة السيد عادل عبدالمهدي كون ذلك الأمر سيساعد في تفاقم الأمور وتهديد استقرار البلد".
اجتماع الأربعاء غيّر مسار الأحداث، لكن لماذا؟
وقال قائد جماعة شيعية موالٍ للعامري، وهو واحد من المصادر الخمسة الذين تحدثت معهم رويترز عن الاجتماع "السري" الذي حضره سليماني بديلاً عن عبدالمهدي، إن الاتجاه السائد كان "هو العمل على إعطاء مهلة نهائية لحكومة عبدالمهدي لإجراء إصلاحات تهدئ الشارع".
وصرح مصدر آخر على دراية بمجريات الأمور في الاجتماع بأن كثيراً من قادة الحشد الشعبي عبروا "عن مخاوفهم من أن الإطاحة بعبدالمهدي ستكون مقدمة للسعي وراء إضعاف الحشد الشعبي".
وقوات الحشد الشعبي مظلة تضم في معظمها جماعات شيعية شبه عسكرية تدعمها إيران، ولها دور مؤثر في البرلمان العراقي، كما أن لها حلفاء بالحكومة. وهي ترفع تقاريرها رسمياً لرئيس الوزراء، لكن لها هيكلها القيادي المستقل عن الجيش.
عبدالمهدي في موقف قوي
لكن عبدالمهدي الآن يتلقى الدعم من الكتل السياسية الفاعلة في المشهد السياسي العراقي والمتحكمة إلى حد ما في الملف الأمني للعاصمة والمحافظات الأخرى، وهم كتلة الصادقون التي يقودها أمين عام عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، وكتلة الفتح بقيادة هادي العامري، وكذلك ائتلاف دولة القانون بقيادة نوري المالكي، والأهم أن هذه القيادات الثلاث هي في حقيقتها صاحبة النفوذ الأكبر في الحشد الشعبي، ما يعني أن أهم فصائل الحشد الشعبي تقدم دعمها لعبدالمهدي للحفاظ على المكتسبات التي تحققت في ظل رئاسته للحكومة إلى جانب موقف النكاية ضد زعيم التيار الصدري، بحسب تحليل لوكالة الأناضول التركية نشر اليوم الجمعة 1 نوفمبر/تشرين الثاني.
يحظى عبدالمهدي أيضاً بدعم الأحزاب الكردية الرئيسية التي على الرغم من اعترافها بالحق في التجمع السلمي والتعبير عن الرأي، فإنها "قد" لا تجد بديلاً أفضل من عبدالمهدي كشريك في الحكومة المركزية يتفهم ما يتعلق بحلحلة الملفات العالقة بين بغداد وأربيل بشكل مغاير لسياسات سلفيه، نوري المالكي وحيدر العبادي، في ملفات كركوك وحصة أربيل من الميزانية الاتحادية وعائدات النفط.
ماذا عن الشارع الثائر؟
إيران إذن ألقت بثقلها ونفوذها في العراق بشكل علني وسري، وقررت منع الإطاحة بعبدالمهدي؛ لأنها ترى في الاحتجاجات "مؤامرة أمريكية-سعودية-إسرائيلية" تستهدف طهران ووكلاءها في العراق، وبالتالي فإن استقالة أو إطاحة عبدالمهدي ستكون البداية لمزيد من التراجع أمام "تلك المؤامرة".
لكن المظاهرات في العراق اندلعت لأسباب لا علاقة لها بالحسابات السياسية أو بالنفوذ الإيراني، بل العكس هو الصحيح، حيث إن معركة القوى السياسية أججت غضب رجل الشارع العراقي الذي ينتقد النخبة السياسية التي يراها خانعة لهذا الحليف أو ذاك، وتعير تلك التحالفات أهمية أكبر مما توليه لاحتياجات العراقيين الاقتصادية الأساسية.
فرغم ثروة العراق النفطية الهائلة، يعيش كثيرون في فقر أو يفتقرون للإمدادات الكافية من المياه النظيفة والكهرباء والرعاية الصحية الأساسية والتعليم، ومعظم المحتجين من فئة الشباب الذين يريدون قبل أي شيء فرص عمل تقيهم البطالة، وليست لهم مطالب سياسية على الأرجح إلا الإطاحة بالطبقة السياسية التي فقدوا الثقة فيها.
الخيار الذي اتخذته إيران في العراق هو أسوأ ما يمكن القيام به، لأن القمع والرصاص والقنابل المسيلة للدموع والمحرمة دولياً وسقوط أكثر من 250 قتيلاً وأكثر من 6 آلاف جريح في نحو أسبوعين من الاحتجاجات لم يؤدّ إلى كسر إرادة المتظاهرين، بل العكس هو الأقرب للواقع.
وبالتالي يمكن القول إنه رغم المناورات الجارية من وراء الأبواب المغلقة، يظل مصير عبدالمهدي غير واضح، وكذلك قدرة إيران على مواصلة دعمه وبقائه، فقد تولى منصبه قبل عام كمرشح يمثل حلاً وسطاً بين العامري والصدر، والآن مع فقدانه لدعم الصدر وتياره من المتوقع أن تزداد الاحتجاجات ضخامة في الأيام القادمة.
وبالتالي، فإن رهان إيران متمثلة في حكومة عادل عبد المهدي هو على عامل الوقت مع هامش من المعالجة الأمنية لإنهاء الاحتجاجات دون استقالة عبدالمهدي أو إقالته من قِبل مجلس النواب، حتى يضطر المحتجين للعودة إلى ممارسة أعمالهم تحت ضغط الحاجة للعمل اليومي من أجل توفير لقمة العيش لهم ولعوائلهم، ويظل الموقف مفتوحاً على كل الاحتمالات.