ناقشت مجلة Foreign Affairs الأمريكية سؤالاً هاماً يخص دول الخليج وهو كيف تحافظ هذه الممالك على الاستقرار رغم حالة التوترات الراهنة في المنطقة العربية، وكانت الاجابة تتمحور حول دور القبائل في تهدئة الأمور في تلك البلدان.
وبحسب المجلة الأمريكية فإنك حينما تجول في أي مدينة قديمة على الخليج العربي، قد ترى متاجر ومسجداً وبرج الساعة وقصراً. وقد ترى البوابات الأمامية للمنازل الخاصة. وعلى مسافة أبعد، قد تلمح منصات النفط والناقلات الراسية في عرض البحر. ولكن حتى الوافد المحنك ربما يفوته ما قد يُعتبر أهم مكان في المدينة على الإطلاق: هناك في الطابق العلوي في عدد كبير من المنازل وحتى في الفلل العصرية الموجودة في الأحياء الحديثة، توجد غرفة طويلة، مُزينة عادةً بالنوافذ المُقوسة والزخارف المتشابكة والوسائد والمساند الوثيرة. هذه هي غرفة "المجلس"، أو غرفة للاجتماعات القبلية. وهي تسع جميع الرجال والنساء -ويتقابلون منفصلين- في العائلة الممتدة أو القبيلة. وتقريباً هناك واحدة من هذه لدى كل قبيلة في الخليج، سواء كانت غنية أو فقيرة.
السر في المجلس
ويساعد وجود غرفة المجلس في تفسير واحدة من أكثر الخصائص المحيرة للحياة السياسية في الخليج: وهي حقيقة أن أغلب هذه المنطقة لا تزال خاضعة لحكم الملوك والأمراء. من الناحية النظرية، ينبغي أن يخشى حكام الخليج على مناصبهم. إذ يعاني اقتصادهم من الفساد والاعتماد على النفط. وتقسِّم حالات عدم المساواة الهائلة بين المواطنين والمهاجرين. ومن جانبها، تستطيع التيارات السياسية الإسلامية، جنباً إلى جنب مع التحديث الثقافي وتدفق المعلومات الذي يخرج عن سيطرة الدولة بشكل متزايد، أن تشعل اضطراباتٍ سياسية. وبالإضافة إلى ذلك، فحكام الخليج لا يتمتَّعون نفس القدر من الشرعية الدينية التي يمكنهم اللجوء إليها في الأزمات مثلما يفعل حكام الأردن والمغرب، لأنهم لا يدعون وجود صلة دم بينهم وبين الرسول محمد. وهكذا يتنبأ الباحثون في المنطقة باقتراب نهاية هذه الحكومات. إلا أن مثل هذا الانهيار لم يحدث بعد، بداية من الكويت وحتى الإمارات، مروراً بعمان والسعودية. وحتى اضطرابات الربيع العربي لم يكن لها أثر كبير في زعزعة الهياكل السياسية في الخليج.
لكن السبب في طول عمر الحكومات الخليجية لا يقتصر على النفط أو نفوذ وكاريزما حكام بعينهم. بل يُعزَى قدرٌ كبير منها إلى "المجلس"، الذي يلعب دوراً غير مدروس بدرجة كبيرة في الوساطة بين القبائل والدولة. ومع هذا، فقد تعرَّضَت العلاقة بينهم الطرفين لضغوطٍ في السنوات الأخيرة، وربما تهدِّد بدورها العقد الاجتماعي الضمني الذي مكّن لهذه الحكومات البقاء بل وحتى الازدهار.
الحياة النيابية من المنظور الغربي
من المنظور السياسي الغربي، يتكون المجتمع المدني -أساس الديمقراطية النيابية الصحيحة- من مجموعة من المنظمات غير الحكومية، والتي يُنظم المدنيون أنفسهم من خلالها ويُحددون مصالحهم العامة. وهذه المنظمات يمكن أن تشمل الجامعات، والنقابات المهنية، والاتحادات، والمنظمات الدينية، والإعلام وغير ذلك. ربما يندمج المجتمع المدني الغربي، في ميادين المدن أو في المقاهي الثورية في ساحة هابرماس العامة. في الخليج، فإن الانتماءات القبلية، وليس المواطنة، هي التي تكون بمثابة القناة التي تجري عبرها المشاركة السياسية، وغالباً ما تتركز السياسات في "المجلس". وفي هذه الغرف الكبيرة الفاخرة (أو في حال تعذر ذلك، في خيم بدائية متنقلة)، يتم التعبير عن الشكاوى وتنتقل السلطة بين الحاكم والمحكوم، بحسب المجلة الأمريكية.
يمتد تاريخ المجلس إلى ما قبل العصر الإسلامي. فكان زعيم القبيلة، أو الشيخ، يدعو أفراد عائلته الممتدة للاجتماع بشكل منتظم، وكان الأمير، أو شيخ الشيوخ، يحضر تلك الاجتماعات بين الحين والآخر. وقد عقد النبي محمد، بصفته حاكماً في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع، اجتماعاتٍ مماثلة لحلِّ النزاعات بين القبائل المختلفة في "المدينة". وأقام شبكةً من المجالس التي ارتبطت من خلال التبادل الدبلوماسي الدوري.
لا يزال ذلك النظام قائماً إلى اليوم. كانت حكومات الخليج في السابق تقوم على السلطة الدستورية للأمير الحاكم، والتي كادت تكون مطلقة في أحيان كثيرة (تمتلك الكويت برلماناً له قدر من السلطة الفعلية، لكن أغلب السلطة لا تزال في يدي أميرها). وكانت القوانين والمؤسسات الحكومية السابقة، بدرجة كبيرة، موضوعة من جانب ضباط الاستعمار أو المستشارين الغربيين للحكام المحليين؛ أي أجانب لم يُقدروا بالضرورة العلاقات التقليدية غير الرسمية التي أقامت المجتمع الخليجي.
ماذا يفعل المجلس في الخليجيين؟
يعتبر المجلس هو الغراء الذي يربط المجتمع بالدولة. وفي داخل اجتماعات المجلس، قد يناقش الحاضرون طلبات الزواج أو الحاجة إلى إصلاح خطوط المياه. وتسعى العائلات والأعيان إلى حل النزاعات القضائية المحتملة. والأهم من كل ذلك، أنهم يتعهدون بولائهم للحاكم، مقابل زياراته المنتظمة أو زيارات ممثله. وتعمل المشاورات على جعل المجلس صمام أمان نوعاً؛ مكاناً لتبادل المعلومات وإيصال الشكاوى. وما يُناقش في المجلس، يجد طريقه بسرعة إلى "الديوان"، أو مجلس مستشاريي وأمناء الأمير، والذين يعتلي هذه الشبكة من الاجتماعات غير الرسمية.
يُقدر المواطنون المجلس باعتباره وسيلةً لإيصال أصواتهم مع الحفاظ على تجنب الإحراج الذي قد يأتي من مناقشة قضايا حساسة يمكن أن تورط قبائلهم بشكل علني. أما الحكام، فيقدرون من جانبهم قيمة المجلس باعتباره وسيلةً لاحترام الهيكل التقليدي للسلطة. وأغلب التجمعات والروابط العامة محظورة في الخليج، غير أن اجتماعات المجلس تُعقَد بدعمٍ نشط من جانب الحكومة. ومؤخراً، رعى حاكم الشارقة، وهي جزء من الإمارات العربية المتحدة، لفترة طويلة، غرفاً جديدة للمجلس، بُنيت لكي تسع التعداد السكاني المحلي المتزايد.
واختارت دولٌ أخرى، مثل الكويت، وسيلة انتخابية أكثر رسمية، لاختيار مجموعة من ممثلي الشعب. لكن بدلاً من تقويض المجالس القبلية، عزَّزَت الانتخابات في الكويت نفوذ تلك المجالس. ولأن المجالس القبلية كانت معفاةً من الحظر القانوني على التجمعات التي تزيد عن 20 فرداً، فقد صارت مكاناً طبيعياً للحملات السياسية، وحضور السياسيين اجتماعات القبائل المختلفة للحصول على دعمهم.
لكن المجلس، على الرغم من ذلك، ليس مؤسسةً ديمقراطية رسمية، ولا هو منيع ضد التغيرات التي تحدث في السياسة والمجتمع. وفي حين اتسمت دول المنطقة بالطابع الرسمي أكثر في العقود الأخيرة، فَقَدَ الطراز الشخصي للسنوات الماضية بعضاً من فعاليته. تتواجد الآن علاقات الأهل والأقارب إلى جانب وزارات الدولة غربية الطابع، ودافعي الضرائب وسلطة القطاع الخاص. وفي وجه تلك التغيرات، تتعرض المجالس غير الرسمية المُنظمة على أسس الانتماء القبلي، لخطر أن تصبح عتيقة وعفا عليها الزمن.
تغيير شكل المجلس
لا يزال هناك المزيد من التغييرات القادمة. ومثل غالبية العالم العربي، لا تزال دول الخليج تعمل إلى حد ما وكأنها "قبائل لها أعلام"، ومجتمعات عشائرية تتنكر في هيئة دول قومية. لكن يبدو أن زعماء المنطقة يعتزمون خلق ما يمكن وصفه بأنه "أعلام لها قبائل"؛ مجتمعات متضامنة حيث المواطنة لها الأولوية على الانتماء القبلي. وتركز المؤسسات العامة الجديدة التي تدعمها الدولة، مثل متحف قطر الوطني ومتحف اللوفر أبوظبي، المفتتحين مؤخراً، على الإرث القبلي، لكن تبدو مُصممة لتغرس في المواطنين هوية وطنية واحدة موحِدة.
لكن في الإمارات غير الديمقراطية، عادة ما يترادف الإحساس بالهوية الوطنية مع الولاء للشيخ و-للمفارقة- قبيلته التي حكمت وسيطرة على هذه المناطق.
سمح النموذج الاجتماعي القديم، الذي قام بوضوح على هويات قبلية متعددة، بدرجة ما على الأقل من تشارك السلطة من خلال المجلس. لكن الآن، تتضاءل أسس ذلك النظام دون ترتيب بديل شامل قريب. وحتى الجامعات والأندية والمحافل العامة الجديدة التي تنتشر في أنحاء المنطقة، تتم رعايتها جميعاً تقريباً من قبل العائلات الحاكمة، وأحياناً ما يكون الوصول إليها للقبائل غير الملكية أكثر صعوبة من المجلس.
يعتمد مستقبل حكام الخليج على قدرتهم على الحفاظ على شرعيتهم من خلال وسائل المشاورات التقليدية، في كل الأحوال. أما هؤلاء الذين يحاولون كسر ذلك النموذج دون تقديم بديل معقول، كالإصلاحات الديمقراطية الحقيقية، فهم يلحقون الضرر بأنفسهم، كما تقول المجلة الأمريكية.