صحيح أن مقتل أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، خبر سارٌّ إلا أن اعتقاد أن موته يعني نهاية داعش اعتقاد خاطئ.
فحتى لو أصبح داعش تنظيماً مفككاً، فإنه سيعيد ترتيب صفوفه تحت اسم مختلف وقيادة مختلفة، حسبما ورد في مقال لشيرين هَنتر، أستاذة مشارِكة بجامعة جورج تاون، نُشر بموقع LobeLog الأمريكي.
خليفة البغدادي تولى القيادة حتى قبل موته.. نهاية داعش تبدو بعيدة
فوفقاً لبعض التقارير، عيَّن البغدادي في أغسطس/آب عام 2019، عبدالله قرداش -وهو ضابط بعثي سابق وتركماني معروف بقسوته البالغة- خليفة له.
يقول الكاتب: "خبرتنا مع الجماعات المتطرفة الأخرى، التي من بينها تنظيم القاعدة وفروعه المحلية المختلفة، تشير أيضاً إلى أن وفاة زعيم تنظيم لا تؤدي بالضرورة إلى نهاية التنظيم نفسه. وأفضل طريقة لتقييم احتمالات عودة ظهور داعش أو ظهور جماعات إرهابية جديدة على غراره، هي تحليل أسباب ظهور هذه الأنواع من التنظيمات في العقود الأربعة الماضية".
صعود الأيديولوجيات السُّنية والشيعية المتطرفة
بدءاً من منتصف الستينيات، بدأت المملكة العربية السعودية، بشكل منهجي، نشر مذهبها الوهابي في العالم السُّني، الذي يضم جنوب آسيا، باعتباره أداة لسياستها الخارجية ولتوسيع نفوذها الإقليمي والدولي.
ويُعتبر المذهب السعودي، عكس المذاهب السُّنية الأخرى، خاصةً مذهب الحنفية، متعصِّباً إلى حد كبير وينظر إلى مذاهب المسلمين المختلفة، خاصةً الشيعة، الذين لا يتبعون تعاليمه على أنهم زنادقة؛ ومن ثم قد يترتب على ذلك اعتبار أنهم يستحقون الموت.
لا يمكن إنكار أن انتشار هذا المذهب الإسلامي أسهم إلى حد كبير في ظهور جماعات مثل طالبان والقاعدة وفروعها المحلية المختلفة، مثل بوكو حرام، والشباب، وداعش.
وفي الوقت نفسه، بعد الثورة الإسلامية التي اندلعت بإيران عام 1979، ظهرت نسخة مسيَّسة وثورية من المذهب الشيعي، تتسم بنظرة شديدة السلبية عن الأنظمة العربية المحافظة، وعلى الأخص السعودية.
وتحدَّت هذه النسخة الثورية الشيعية شرعية هذه الدول وزادت مخاوفها. وأضافت أيضاً بُعداً طائفياً إلى العداوات والتنافسات التقليدية. وتسبب ظهور هذه الاتجاهات بوقت واحد في خلاف أيديولوجي عميق داخل الإسلام، ارتبط لاحقاً بصراعات القوة الدنيوية والتنافس على النفوذ.
سياسات الحرب الباردة والحرب السوفييتية-الأفغانية (1979-1989)
قدَّمت الحرب السوفييتية-الأفغانية والمساعدة الأمريكية والعربية للمجاهدين الأفغان، إلى جانب تسريع وتيرة الدعوة إلى الوهابية في أفغانستان وباكستان، أرضاً خصبة لصعود الجماعات السُّنية المتطرفة من القاعدة إلى فروعها المختلفة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وشمال القوقاز. على سبيل المثال، كان ما يسمى الأفغان العرب، الذين ترعرعوا في ظل الحرب الأفغانية-السوفييتية، لاعباً رئيسياً في حرب الشيشان التي استمرت أكثر من عقد. ورغم أن الحرب السوفييتية-الأفغانية انتهت عام 1989، استمرت المنافسة الإقليمية والدولية حول تقرير مصير أفغانستان، وأسهمت بشكل كبير في اندلاع الحرب الأهلية التي بدأت عام 1989، واستمرت حتى بعد الغزو الأمريكي عام 2001.
تلاعب الدول بالجماعات الإرهابية واستخدامها أداة للسياسة الخارجية
تزعم جميع الدول أنها ضد الإرهاب وأنها تحارب الجماعات الإرهابية، إلا أن الحقيقة المحزنة هي أن هذا لا يحدث. فجميع الدول، وليس فقط ما يسمى الدول المارقة أو الخارجة عن القانون، تستخدم هذه الجماعات لتحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية. ولا تنقلب الدول على هذه الجماعات إلا حين تخرج عن سيطرتها وتهدد أجنداتها.
وحركة طالبان تعد مثالاً جيداً على ذلك. فمن المسلَّم به عموماً أنه بداية من عام 1994، كانت الولايات المتحدة والسعودية، وانضمت إليهما لاحقاً الإمارات العربية المتحدة وباكستان، تدعمان حركة طالبان لتصبح أداة لمنع الوجود الإيراني في أفغانستان وآسيا الوسطى، وكذلك الحد من النفوذ الروسي. ولفترة طويلة، غضَّت الولايات المتحدة الطرف عن فظائع طالبان، التي منها أساليبها في إقامة العدل ومعاملة النساء.
وفي الوقت نفسه، أصبحت أفغانستان ملاذاً للقاعدة. ولم يتغير الموقف الأمريكي إلا بعد تفجيرات السفارات الأمريكية لدى كل من كينيا ودار السلام عام 1998. وفي الوقت نفسه، استمرت السعودية وباكستان في استخدام طالبان لتحقيق أهدافهما الإقليمية حتى بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001. وكانت سياساتهما أحد الأسباب التي أطالت عُمْر طالبان.
وكان ظهور داعش مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً أيضاً بالمنافسات حول تشكيل الهيكل السياسي للعراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، والجهود المبذولة لمواجهة نفوذ طهران. وعلى المنوال نفسه، استخدمت إيران جماعات مثل حزب الله وبعض الميليشيات الشيعية العراقية، التي تعتبرها جهات فاعلة أخرى إرهابية، للنهوض بطموحاتها الإقليمية.
التدخلات العسكرية وانهيار النُّظُم الداخلية والإقليمية
وصعود الجماعات الإرهابية مرتبط مباشرة أيضاً بالتدخلات الأجنبية والحروب الإقليمية.
إذ أدت هذه التدخلات إلى تفكك هياكل الدولة في عديد من دول الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وإيقاظ توترات عرقية وطائفية نائمة، وأدى تغيير الموازين الإقليمية للسلطات إلى تصاعد حدة المنافسات الإقليمية.
ووفرت هذه التطورات أرضاً خصبة لظهور جماعات إرهابية جديدة تدعمها في الغالب جهات خارجية.
كل غزوة خارجية تولّد تنظيماً جديداً
أفضى الغزو السوفييتي لأفغانستان إلى اشتعال الحرب الأهلية التي اجتاحت البلاد بعد الانسحاب السوفييتي في عام 1989. وأدَّت الحرب الأهلية التي أعقبت انتهاء الحرب السوفييتية-الأفغانية إلى ظهور مجموعات راديكالية جديدة مثل طالبان، بمساعدة من فاعلين إقليميين ودوليين، كان هدفهم في الأساس احتواء نتائج الحرب. ومثّل الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، مدفوعاً برغبة إسرائيل في التخلص من منظمة التحرير الفلسطينية، شهادةَ ميلاد حزب الله وظهوره على الساحة. كذلك قاد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 إلى تفكيك نظام الدولة العراقية، وتسبب في تنافس إقليمي مكثف لتحديد مصير الدولة العراقية ما بعد الحرب وطبيعة علاقاتها الخارجية. وكان ظهور جماعات مثل تنظيم القاعدة في العراق، وداعش في وقت لاحق، نتيجةً مباشرة لهذه المنافسات المحلية والإقليمية. إذ شهدت بداية داعش تدعيم دول المنطقة مثل السعودية له. وأسهمت جهات فاعلة خارجية في دعم وتأجيج الحرب الأهلية السورية، وخلال ذلك توسّع ميدان عمليات القاعدة وداعش إلى بلاد الشام. والشيء نفسه ينطبق على ليبيا.
فمحاربة الإرهاب تولّد الإرهاب
جرى تبرير هذه التدخلات العسكرية جزئياً بأنها جهود لفاعليها في مكافحة الإرهاب؛ وهو ما أدّى بنا إلى مفارقة، مفادها أن "الحرب على الإرهاب" أصبحت العامل المحفّز لظهور مجموعات إرهابية جديدة. الواقع أن الجماعات الإرهابية هي نتاج مظالم اقتصادية وسياسية عميقة الجذور، كما هي نتاج أيديولوجيات جذرية متنوعة المشارب العلمانية والدينية، علاوة بالطبع على سياسات تلاعب الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الرئيسة وتدخلاتها. طالما لم تُعالَج هذه الأسباب، ولم تتوقف مساعي الجهات الفاعلة الأساسية عن تحقيق أهدافها القصوى، وظل التعامل مع الإرهابيين يعتمد حصرياً على استخدام القوة العسكرية والرغبة في الإزالة التامة للعدو الظاهر في اللحظة الحالية، فإننا سنشهد بروز مزيد من الجماعات الإرهابية على الساحة ومزيداً من المحاولات لاستنساخ البغدادي.