الأجواء التي تعيشها بعض الدول العربية تتشابه إلى حد التطابق ربما مع أجواء الربيع العربي قبل نحو 9 سنوات، لكن هناك اختلافات تميز الموجة الثانية من ذلك الربيع أو تلك الثورات، فما أسباب الاحتجاجات هذه المرة، ومن يقودها، وما مطالبها وأساليبها في مواجهة سلطة لا تعرف سوى القمع في مواجهة الشعوب؟
ما أسباب الاحتجاجات؟
في العراق ولبنان والجزائر والسودان ومصر اندلعت احتجاجات تتشابه إلى حد التطابق ربما في السبب الرئيسي وهو الفساد المستشري في النظام الذي يحكم البلاد، والفساد والبطالة هما أبرز الأزمات في المنطقة وكلاهما يقود إلى الآخر، وبحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية، "يصنف العراق كواحد من أكثر دول العالم فساداً، وفقاً لعدد من مؤشرات الفساد العالمية. ولا يعد لبنان أفضل حالاً من العراق. الفساد مثل السرطان. إنه يأكل الطموح والأمل لأولئك الذين يقعون ضحايا له".
والاحتجاجات التي شهدتها مصر في سبتمبر/أيلول الماضي وطالبت برحيل الرئيس عبدالفتاح السيسي كانت شرارتها مقاطع الفيديو التي بثها المقاول والفنان محمد علي ووجه فيها اتهامات بالفساد للرئيس وأسرته وقيادات الجيش المسيطر تماماً على مقاليد الاقتصاد.
من هم المحتجون؟
رغم وجود اختلافات كثيرة بين الأوضاع في العراق ولبنان ومصر والجزائر، لكن الوجع مشترك بين المتظاهرين وهو الوجع أو الظلم الذي يعاني منه الملايين، وبصفة خاصة من الشباب، في كافة بلدان منطقة الشرق الأوسط، حيث تقل أعمار نحو 60% من سكان المنطقة عن 30 عاماً.
وعلى الرغم من أن غلبة فئة الشباب تعد ميزة عظيمة لأي بلد، إلا أن الأمر مختلف تماماً في دول الشرق الأوسط بفعل الفساد الذي يحرم هؤلاء الشباب من فرص التعليم الجيد ويزداد الإحباط بفعل البطالة واليأس من أن تتغير أحوالهم مع سيطرة طبقة واحدة على كل الفرص.
هذا الإحباط واليأس سرعان ما تحول إلى غضب عارم، فخرج هؤلاء الشباب إلى الشوارع احتجاجاً على الفساد ومطالبين "بإسقاط النظام".
من يقود التظاهرات؟
وفي هذا السياق لا توجد قيادة أو رمز يأتمر بأمره هؤلاء الشباب، فهم فقدوا ثقتهم في النظام بأكمله ويريدون تغييره بالكلية ولا شيء لديهم يخسروه، حيث إنه ليس لديهم شيء من الأصل وبالتالي يريدون أن ينجحوا في تغيير الواقع سعياً لمستقبل يحمل بعض الأمل بأي ثمن.
عدم وجود قيادة أو رمز لتلك المظاهرات أمر مشترك بين احتجاجات لبنان والعراق، وكان نفس الأمر في الاحتجاجات الأخيرة في مصر، وهو ما يضع النظام في صدام مباشر مع الآلاف في الشوارع ويجعل احتواء تلك الموجة من الربيع العربي أكثر صعوبة من الموجة الأولى في 2011.
أساليب جديدة وتواصل بين الساحات
الشباب يتميزون بالاندفاع والجرأة وأيضاً الإبداع، وهذه السمات منعكسة بشكل عفوي في التظاهرات سواء في لبنان أو العراق والتواصل بين الساحات لافت، حيث يهتف الشباب اللبناني "من العراق لبيروت.. ثورة ثورة لا تموت"، ويرد العراقيون: "من بغداد لبيروت.. ثورة ثورة لا تموت".
يستخدم هؤلاء الشباب وسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق مظاهراتهم بأنفسهم، وبالتالي لم تعد وسائل الإعلام التقليدية التي تسيطر الأنظمة على أغلبها متحكمة في بث أنباء تلك المظاهرات وتطوراتها، وتتنوع الأساليب التي يستخدمها الشباب بين رصد التظاهرات والرد على بيانات وتصريحات الأنظمة وتفنيد الاتهامات التقليدية التي توجه لهؤلاء الشباب.
في العراق، أصبح "التوكتوك" رمزاً من رموز قدرة الشباب على استخدام أساليبهم الخاصة لمواجهة السلطة، حيث يستخدموه في إنقاذ الجرحى ونقل المواد الغذائية والمياه لأماكن الاحتجاجات، وفي لبنان نفذ الشباب سلسلة بشرية ربما تكون الأطول في العالم؛ حيث امتدت من شمال لبنان إلى جنوبه بطول 170 كيلومتراً من الأيادي المتشابكة، إضافة لاستخدام رياضة اليوغا في الطرقات كوسيلة لإغلاقها.
كيف استفاد الشباب من فشل الموجة الأولى؟
أحد أبرز ظواهر الموجة الثانية من الاحتجاجات هي إظهار الشباب استفادتهم من النتائج التي آلت إليها ثورات الربيع العربي في موجته الأولى، فقد كان الهتاف الأبرز في الثورة السودانية، على سبيل المثال، "إما النصر وإما مصر"، في إشارة إلى ما حدث في مصر من ارتداد كامل على مطالب ثورة يناير/كانون الثاني 2011 "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، قادته الدولة العميقة بقيادة السيسي.
في الجزائر أيضاً لا تزال الاحتجاجات مستمرة ورافضة لكل محاولات السلطة التمسك بمواقعها على الرغم من مرور ما يقرب من الأشهر التسعة، وفي لبنان لا يبدو أن استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري ستكون نهاية الاحتجاجات، وفي العراق تتجه الأمور نحو التصعيد أكثر بعد رفض السلطة الاستجابة لمطالب الشباب.
كيف ترد السلطة على مطالب الشباب؟
لم تنجح ثورات الربيع العربي في تحقيق ما سعى إليه المحتجون من مكافحة الفساد ونيل حرية التعبير، بل حدث العكس كما في مصر مثلاً التي تحولت لدولة بوليسية بامتياز وتدهورت الظروف المعيشية وارتفعت نسبة الفقر، وفي سوريا واليمن وليبيا أدى تمسك الحكام المستبدين بمناصبهم إلى اقتتال وتدمير وحرب أهلية وتدخلات خارجية.
في لبنان، جاء رد السلطة على المظاهرات مختلفاً في البداية نتيجة لاختلاف الظروف السياسية، لكن سرعان ما وصلت الأمور لنفس النقطة من اعتداء على المعتصمين وحرق خيمهم من جانب ميليشيات السلطة، واتهم زعيم حزب الله حسن نصرالله المتظاهرين بأنهم "ممولين من سفارات أجنبية"، وقال رئيس الجمهورية ميشال عون إن "التغيير لا يأتي من الساحات".
الاتهامات التي توجهها السلطة للشباب المحتج واحدة وهي أنهم ممولون من جهات خارجية تسعى لتخريب البلاد، نفس لائحة الاتهامات في مصر ولبنان والعراق والجزائر والسودان وغيرها، إضافة لأساليب القمع من اعتقالات وتفريق المظاهرات بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والرصاص الحي، مع توجيه أصابع الاتهام "للطرف الثالث" الذي يقتل المتظاهرين.
ما السيناريو المتوقع لتلك الموجة؟
تختلف الأمور من بلد لآخر بالطبع، ففي السودان نجح الشباب بصورة كبيرة في بدء مشوار تغيير النظام على الرغم من تعقد الموقف بفعل الصراعات المسلحة، إلا أن ما تحقق حتى الآن من مشاركة القوى المدنية العسكريين في صنع القرار يعد إنجازاً كبيراً للحراك الشعبي.
وفي مصر لا يعني نجاح النظام حتى الآن في قمع أي بادرة للاحتجاج بالحديد والنار كما يقال، وتوظيف وسائل الإعلام في تكريس رسالة التخويف من الفوضى، لا يعني ذلك أن الأمور هادئة ومستقرة، فالإحباط واليأس اللذان يعاني منهما الشباب تزداد حدتهما، خصوصاً مع تزايد الحالات التي تشير إلى فساد النظام وفشله سواء مع "غرق مصر في شبر ميه" الأسبوع الماضي أو مع حالة مصرع شاب وفقدان آخر لساقه بعد عجزهما عن دفع ثمن تذكرة القطار وفتح رئيس القطار الباب لهما للقفز منه، وهي حالات كاشفة عن مدى تدهور الأمور.
فشل الأنظمة الفاسدة والقمعية في تلبية احتياجات عدد كبير من السكان والشباب يؤكد أن الغضب والإحباط اللذين تسببا في هذه الموجة من الثورات لن يختفيا، حتى وإن نجحت الأنظمة في إخمادهما هذه المرة أيضاً وهو أمر غير محسوم.