بعضهم كان ينتمي لعائلات كبيرة، وآخرون كانوا يحتلون مناصب مرموقة، ولكن اليوم يطلق عليهم مجانين الشوارع التي لا تكاد منطقة في القاهرة تخلو منهم، ولكن ليس أفظع من الأوضاع التي يعيشون بها إلا المآسي التي أفضت بهم لهذا الحال، فما أشد قسوة حكايات مجانين شوارع القاهرة".
"في مصر المحروسة تتعدد أشكال المعاناة التي تقود البعض للجنون، فمن حفظه "الستر" من الوقوع في شرك الفقر في السنوات الأخيرة، بعد جملة الإجراءات الاقتصادية القاسیة التي لجأت إلیها الحكومة المصریة، ستجده أسیراً لـ"خنقة" الثانویة العامة التي توسعت حالیاً لتشمل فكرة التعلیم من بابه بما یتطلبه من مصروفات باهظة، وما تفرضه على الناس من ضغوط هائلة.
إذا كان قانون الفیزیاء یقول بأن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، فإن قانون الحیاة له كلمة أخرى تفید بأن كثرة الضغوط وتراكمها على بعض الأشخاص یمكن أن تخرجهم من عالم "العاقلین" لیدخلوا "آمنین" عالم المجانین الذین ینتشرون في شوارع القاهرة والعدید من المحافظات.
یكتفي بعضهم بالتخبط وفعل سلوكیات شاذة والتفوه بأقوال غیر مفهومة، ویقدم البعض الآخر عروضاً متنوعة ما بین الكومیدي والتراجیدي وكذلك الأكشن عبر حالات القتل والتحرش التي لا یحاسبون علیها بحجة عدم الإدراك.
مجانین الشوارع قال عنهم الممثل الكومیدي الأشهر في تاریخ السینما المصریة، إسماعیل یس عام 1963 إنهم في نعیم، لكن هل هم في نعیم فعلاً في مصر؟!
الواقع یجیب بالنفي، ذلك أن مجانین الشوارع رغم تمتعهم بمیزة عدم إدراك ما یحدث في البلد من تغیرات فرضت ظروفاً معیشیة بالغة القسوة على الناس، وكذلك عدم التأثر بالقیود العنیفة المفروضة على وسائل الإعلام المحلیة، لكنهم یتعرضون بدلاً من ذلك لكل أنواع التحرش والاستغلال طوال ساعات الیوم الأربع والعشرین لمدة 7 أیام أسبوعیاً.
هؤلاء یهیمون في الشوارع لا یبالون بمن حولهم، بوجوههم الشاحبة وشعرهم الأشعث فلا یحمي أجسادهم إلا ثیاب "بليت أنسجتها"، نراهم مستلقین بجانب صنادیق القمامة.
أما الكباري فهي تحمیهم من تقلبات الجو التي تنهش ما تبقى من أجسادهم المتهالكة، یشاركون الكلاب والقطط الضالة نومهم على الأرصفة لتحاصرهم الأوبئة والأمراض ویواجهون مصیراً مجهولاً، فكثیر منهم لا یُعرف له اسم ولا عنوان، كل ما یمكن استنباطه أن وراء كل وجه منهم مأساة.
فتاة هوليودية تهيم في شوارع القاهرة
"منى" فتاة في منتصف الأربعينات من عمرها، یمكن أن تقول عنها أنها كانت تصلح فتاة أحلام العدید من الشباب، فهي طویلة القامة ممشوقة القوام، صاحبة بشرة بیضاء وشعر بني ومنذ أكثر من عشرین عاماً كان یمكن أن تجد في ملامحها أكثر من وجه للشبه مع ممثلات هولیوود ولیس حتى الممثلات المصریات.
عیبها الوحید أن عقلها معطل بسبب زواج قسري عانت فیه الأمرین وهذا ما حولها من امرأة جمیلة إلى فرصة أو بالمصري "لقطة" أمام بعض الرجال منعدمي الضمیر، فهي جسم جذاب بلا عقل وبالتالي لیس لها طلبات أو تكالیف.
زوجها يطالبها بمجالسة أصدقائها.. ليتها تتكلم لتروي حكايتها
قصة منى التي تعیش في شارع الكابلات بمنطقة السواح إحدى المناطق الشعبیة في القاهرة، لا یعرفها أحد على وجه التحدید، فهي لیست من بنات الشارع نفسه وإنما وفدت علیه بحالتها العقلیة الراهنة، لكن بعض من اقتربوا منها یقولون إنها كانت مدرسة وفقدت عقلها والبعض الآخر یشیر إلى أن زوجها كان یضربها ویطالبها بمجالسة أصدقائه وعندما رفضت طلقها وحرمها من طفلتها الوحیدة واستفاقت أسرتها لكن لیس لاحتضانها والاستماع لها وإنما بطردها من حیاتهم لأنها ستجلب العار للأسرة كونها امرأة مطلقة مما أفقدها اتزانها النفسي.
هكذا وجدت الشابة نفسها بلا مأوى أو أسرة ولا حتى تركوا لها عقلها لیكون شفیعاً لها في إیجاد زوج "ابن حلال" یعوضها عن ما مرت به من مآس في زیجتها الأولى والأخیرة وبالتالي كان السقوط النفسي والاجتماعي هو الحل الوحید المتاح أمامها.
وهكذا عاشت منى لأكثر من عقدین تنتقل من وجار (حجر الذئب أو الضبع) إلى آخر، وفي الوقت الذي یغفل فیه الذئاب عن افتراسها تعود إلى الشارع لتتفوه بعبارات یقول الناس إنها إباحیة، فهي تحكي قصصاً ووقائع تبدو منطقیة مع اختفائها لأیام وظهورها بملابس ممزقة وكدمات كثیرة في مناطق متفرقة من جسدها.
تجلس منى الآن بجوار أحد مساجد المنطقة وتنام في كنفه لتحتمي به ولا تملك غیر "علبة عصیر وطبقاً فارغین وشوالاً مليئاً بكراكیب"، وإذا حاول شخص مساعدتها تعتقد أنه یُرِیدُ استغلالها جنسیاً، فتنتابها حالة هیاج وتلتقط الحجارة من الأرض فتقذفه بِهَا وتزعم أنه یراودها عن نفسها في البلكونة كما تقول.
وتتعرض في المقابل لسخریة الأولاد الذین یجرون وراءها لیقذفوها بالطوب حتى تسبهم بكلماتها الخارجة ویغرقون في الضحك.
ویؤكد كثیر ممن تعاملوا معها أنها لا تعقل شیئاً مما تفعله أو بالأحرى یفعل بها، حتى أنها لا تعي فكرة النقود أو المساعدات، وحینما یحاول بعض المارة من أصحاب القلوب الرحیمة إعطاءها مالاً لتشتري به طعاماً أو ملابس تسترها تمزق الأوراق النقدیة ببساطة كأنها أوراق بیضاء.
مجنون العباسیة.. خطر على الأطفال
وعلى امتداد شارع رمسیس وبالتحدید في منطقة غمرة لا یجب علیك أن تندهش إذا كنت تسیر ووجدت شخصاً یضربك أو آخر یأتي بغتة ویفاجئك بلف یدیه على رقبتك ویهددك بما یحمله في یده لكي یأخذ منك ما تحمله لیلهو به، فهو لیس لصاً بل "مجنون" أو من المجاذیب.
الغریب أن یكون هذا على مسمع ومرأى من رجال الشرطة المنتشرین بالمنطقة لتأمینها حیث یقع بها الكاتدرائیة المرقسیة للأقباط الأرثوذكس والتي سبق أن نالت منها ید الإرهاب في الحادي عشر من دیسمبر/أيلول عام 2016.
فالشرطة في تلك الرقعة توقف الملتحین والمصورین لكن المجنون له عذره یفعل ما یشاء لأنه "فاقد العقل".
فزعت السیدة الأربعینیة عندما رأت رجلاً فى أوائل العقد الخامس من العمر یمر بالشارع وجهه باهت وملابسه مهترئة، جسمه هزیل، نظراته شحیحة التعبیر تخرج من عینیه، ویهذي بعبارات غریبة، انقض على ابنها الذي لم یتعد ثلاثة عشر عاماً بعد.
فقد باغت الرجل الطفل عندما كان یتجه للسیارة حیث تجلس والدته، وبالفعل "كل ذي عاهة جبار" لأنه استطاع السیطرة على الابن وشل حركته تماماً عن طریق تطویقه بإحدى یدیه واستخدام الأخرى في ثني ید الولد وراء ظهره واهماً الطفل والأم أنه یحمل سلاحاً بیدیه.
كاد قلب الأم أن یتوقف من الرعب وتذكرت وقتها الجرائم العدوانیة للمرضى النفسیین في الشارع المصري، والتي تحدثت عنها الصحف والمواقع، فمنذ أسابیع قام مختل عقلياً بإطلاق النار على المواطنین بموقف أحمد حلمي بمنطقة شبرا بالقاهرة.
وفي مدینة الزقازیق بمحافظة الشرقیة قام مریض نفسي بطعن 6 أشخاص عشوائیاً، أثناء تواجدهم على رصیف محطة السكة الحدید عقب إصابته بحالة هیاج عصبي مفاجئ، وتبین أنه تخرج من كلیة السیاسة والاقتصاد، وكان یحلم بالالتحاق بالسلك الدبلوماسي ولكنه أصیب بحالة اكتئاب بعد فشله في تحقیقه، وتحول إلى مریض عقلي، وأخذ یسیر في الشوارع حتى ارتكب جریمته.
كل تلك الحوادث وغیرها الكثیر مرت بذهن السیدة وهي ترى ابنها الوحید بین یدي "مجنون العباسیة" كما یطلقون علیه فلم تستطع أن تكتم صراخها مما لفت انتباه الجالسین على المقهى المجاور للسیارة فهرعوا إلیها لطمأنتها بأن المجنون لن یؤذي الطفل لأنه فقط یرید أن یأخذ الخبز من یدیه لیضعه في فمه وكأنه صفارة یلهو بها، وهذا بالفعل ما قام به المجنون.
والأم ترى أن الحكومة هي المستفيدة من هذه الظاهرة
تقول الأم لـ"عربي بوست": إن المشردین من المرضى النفسیین والمختلین عقلیاً یتجولون بالشوارع وقد سبق وعانت منهم حیث هاجم أحدهم ابنها منذ سنتین وجرى خلفه وكانت النتیجة أن صدمت إحدى السیارات الطفل وكسرت ساقه وظل في الجبس لمدة ستة أشهر.
وتستكمل حدیثها قائلة "یندر أن یخرج أي منا من منزله دون أن یشاهد أو یصادف أحد المرضى النفسیین، بَعضُنَا اعتاد على هذه المشاهد ولو على مضض.
تشك الأم في أن الحكومة مستفیدة ولها مصلحة في ترك هؤلاء المجانین بالشوارع لترسیخ فكرة المرض العقلي في أذهان المواطنین، وبالتالي عندما تعلن أن مرتكب حادث ما هو مریض عقلي سیقتنع الفرد ولن یشكك وقتها في تصریحات "الحكومة الرشیدة" اللا منطقیة لأنه رآهم بنفسه وعانى منهم، وبذلك تكون الحكومة في مأمن لأنها وجدت "مخرجاً" لفشلها في القبض على المجرم الحقیقي وفي ذات الوقت ستتمكن من "الطرمخة" (طمسها) حسب تعبيرها على قضیة ما وتلفیقها وغلقها تحت غطاء أن مرتكب الحادث "مختل عقلیاً".
وتساءلت السیدة باستنكار هل هناك مبرر آخر لترك الحكومة للمجانین بالشوارع والطرقات رغم ما في ذلك من مخاطر، قد تطالهم، وقد تلحق الأذى بالآخرین؟!.
وأنهت حدیثها قائلة "ألا تكفي معاناتنا الیومیة، هي ناقصة كمان مجانین، هنلاقیها منین واللا منین إحنا طبیعي بنمشي نتلفت حوالینا".
أما رامي وهو عامل بمحطة الوقود الموجودة بالمكان فیشیر إلى أنهم لا یعرفون اسم المریض النفسي ولكنهم یطلقون علیه اسم "مجنون العباسیة" بعدما تردد أنه سبق احتجازه بمستشفى الأمراض العقلیة بالعباسیة لكنهم تركوه یخرج ومنذ ذلك الوقت وهو یتردد على المنطقة ویتخذ من أسفل كوبري العباسیة مأوى له.
عدو المرأة.. ظالم أم مظلوم
في شارع ٢٦ یولیو بوسط العاصمة المصریة یجلس رجل في العقد الخامس من عمره لا یعرف أحد ما اسمه یرتدي ملابس مقطعة، تحیط به القمامة وتتسابق نحوه الحشرات، كل ما یمتلكه ملابس مرقعة ولحاف أعطاه إياه أحد المارة، اتخذ الرصیف بیتاً له، لیقضي عليه یومه یتحدث مع نفسه تارة ومع أصحاب المحلات في الشارع تارة أخرى.
لم ترحم الشائعات الرجل فهناك من یقول إن سبب ما حدث له هو عشقه لزوجته وخیانتها له، وآخرون یقولون إنه كان ابناً عاقاً ضرب أمه المسنة فحدث له ما حدث وهناك من یؤكد أنه من عائلة كبیرة ولكن لا أحد یسأل عنه بسبب ما حدث له، وكل من حوله من رجال المنطقة یعطفون علیه إلا أن السیدات والفتیات یخفن منه بسبب مطاردته لهن.
یقول عید محمد لـ" عربي بوست" ویعمل بمقلة المسلیات التي یجلس أمامها "المجنون": "كنت باشوف وجهه هنا من زمان والناس سابوه ومن ساعتها وهو معانا، هو كان نجار وبیقولوا أنه اعتدى على أمه وضربها ووقع علیه غضب ربنا وعشان كده اتجنن".
أثار هذا "المجنون" الرعب في نفوس الفتیات والسیدات، فهو یسیر بالشارع وعندما یرى امرأة یجري وراءها لیصفعها بیده وعندما یكون مرهقاً یجلس ویتحین قدوم الفتاة وفجأة یقوم بضربها، وعندما تطلق صرخة مدویة یقابلها المجنون بضحكة هیستیریة ثم یهرول ویبتعد عنها.
لم یحاول یوماً ما ضرب أو جلد أحد الشباب أو الرجال، ولعله لم یفكر في هذا مطلقاً لذلك یطلقون علیه "عدو المرأة".
حبيب الشرطة.. لو صدق ما يقال عنه لحق له أن يجن
أما عم "سلامة" الذِي ینتقل من إشارة مرور إلى أخرى فیتقمص دور عسكري مرور، وإذا اقتربت منه صرخ فیك قائلاً "أنا بأحب الداخلیة یاعم محدش عملي منهم حاجة أنا كل عيلتي بتحب الداخلیة والعساكر طیبین أوي وأنا مقدرش أقول غیر كدا"، ویواصل هذیانه صارخاً "إنت متعرفنیش أنا من العبور وعیلتي أكبر تجار خضار في مصر".
من یتعرف علیه یقول إنه تاجر كبیر لكن هناك من تسبب في مشكلة كبیرة له غیرت مجرى حیاته، وخسر "الجلد والسقط" ومن وقتها وهو یتنقل من منطقة لأخرى".
وهناك من تطوع برواية قصة مختلفة عنه بأنه كان شریكاً لرجل شرطة ذي رتبة كَبِیرَة وضحك علیه وأخد كل إللي "حیلته" وعندما كان یسب الشرطة ویحكي ما فعله شریكه به "جعلوع كعب دایر" على أقسام الشرطة (يجول بكل أقسام الشرطة للتحري عنه) لینفرد به العساكر ویضربوه ویغتصبوه إلى أن صار على تلك الهیئة مردداً أنه داخلیة وأنهم غلابة وكویسین.
المجنون المثقف.. له عالمه الخاص
مجنون آخر، له عالمه الخاص، دائماً متجهم وساخط على نفسه، وعلى الآخرین، وعلى كل شيء. لا یحب اقتراب أحد منه، أو اقترابه منهم، وهو كثیر التأمل، صامت أغلب فترات یومه، یتجول في معظم شوارع مناطق شبرا الخیمة.
وأثناء حركته یحدث نفسه والآخرین بصوت عال، كلماته جارحة، فیها سباب، ونقد للآخرین، وغالباً ما یكون حدیثه غامضاً على الأقل لسامعیه، ونادراً ما یكون مفهوماً ووقتها یخیل للمارة أنه إنسان عاقل ومثقف لا یعاني من علة ما.
ولا أحد یعرف ما هو اسمه الحقیقي، كل ما یعرفه الناس عنه هو أنه "ابن ناس" و"متعلم" ویروي أصحاب المحال التي یجلس بجوارها أنه أصیب بلوثة عقلیة بعدما استولى إخوته على میراثه وتلى ذلك خسائر متكررة في عمله ولم یستطع أحد من أقربائه التعامل مع حالته، وعندما استضافه بعضهم حبسوه في المنزل خوفاً من أن یكتشف أحد الجیران حالته، إلى أن أصبح یأتي بأفعال مخجلة من شباك غرفته تؤذي المارة وعندما ضاق الحال به تركوه هائماً على وجهه بالشوارع ورفضوا استضافته.
لستم وحدكم.. 8 ملايين مصري يعانون مشكلة نفسية
العزاء الوحید لمنى ومجنون العباسیة وعدو المرأة وعم أحمد ومن لا اسم له في مأساتهم الحیاتیة أنهم لیسوا وحیدین، فلم یعد شارع ولا میدان ولا ناصیة من شوارع المحروسة يكاد يخلو من شبیه لـهم، سواء كان رجلاً أو امرأة، لا فرق بینهما.
فهناك ما یقرب من 8 ملایین مصري یعانون من مشاكل نفسیة متباینة في الوقت الحالي حسب ما كشفت عنه مؤخراً الأمانة العامة للصحة النفسیة، بالتعاون مع منظمات دولیة.
النسب التي أعلنتها الأمانة تشیر إلى انتشار الأمراض النفسیة بین البالغین من سن 18 حتى 64 سنة بنسبة تتراوح بین 10 إلى 12% من متوسط تعداد السكان، أي ما یقرب من 8 ملایین شخص یعاني من مرض نفسي، بینما الأسرة المتوفرة في مستشفیات الصحة النفسیة المختلفة التي تبلغ 18 مستشفى ومركزاً لا تزید عن 6650 سریر.
إیناس عبدالحلیم، وكیل لجنة الصحة بمجلس النواب المصري تزید من قتامة الصورة، من خلال المعلومات التي وردت في طلب الإحاطة الذي قدمته بشأن انتشار الجرائم بالشارع المصري.
إذ أشارت إلى ارتفاع أعداد المرضى حسب إحصائیة المركز القومي للبحوث الجنائیة والاجتماعیة، لتصل إلى 17% من تعداد المصریین بسبب الضغوط الحیاتیة والظروف الاجتماعیة.
وبما أن المجتمع المصري یمر بمرحلة مخاض وتحوُّل كبیر، زادت الضغوط الحیاتیة على الفرد سواء كانت اقتصادیة أو دراسیة أو ضغوطاً في العمل، وهو ما ینعكس على المواطن وحالته النفسیة.
لكن الخطیر هو ما صرح به الدكتور سامح حجاج، نائب مدير مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية، وهو أن مشكلة المرضى النفسيين قنبلة موقوتة ستنفجر حتماً، ملمحاً إلى"أن هناك من لا یرید إيجاد حل لمشكلة المرضى النفسيين في مصر".
وأشار إلى الجمعية المصرية للطب النفسي، متسائلاً عن دور المجلس القومي للصحة النفسیة، ولماذا لا یخرج قانون الصحة النفسیة؟
وبعد مرور شهر على دور الانعقاد الخامس والأخير من الفصل التشريعي الأول لمجلس النواب المصري لمناقشة عدد من القوانين والملفات المهمة التي تخدم المواطن البسيط من الدرجة الأولى، ومنها قانون لإنشاء نقابة المهن النفسية والذي ظل حبيس الأدراج لسنوات- قررت لجنة القوى العاملة بمجلس النواب، منذ أيام، إعادة مشروع "إنشاء نقابة المهن النفسية" إلى الأمانة العامة للبرلمان مرة أخرى، بحجة صعوبة مناقشته.
وكانت النائبة هبة هجرس و60 نائباً تبنوا مشروع قانون "إنشاء نقابة المهن النفسية"، وذلك بهدف الدفاع عن حقوق هذه الشريحة المهمة من المجتمع المصري، ومساعدتهم في القيام بالدور المنوط بهم، وبما يعني تحسُّناً في الخدمة المقدمة للمواطنين.
ويخدم مشروع القانون جميع المشتغلين بالمهن النفسية، من خريجي أقسام علم النفس بكليات الآداب وما يعادلها من الكليات المصرية أو الأجنبية، كما أنها تتمتع بالشخصية الاعتبارية، وتباشر نشاطها في إطار الدستور والقانون، على أن يكون مقرها بالقاهرة، ويجوز بقرار من مجلس إدارة النقابة، إنشاء فروع بالمحافظات.
المنبوذون في الأرض.. هل كان سكان الريف أكثر رحمة بهم؟
لماذا تتسع ظاهرة مجانین الشوارع وتزداد أعدادهم؟! سؤال جوهري یجب أن تبدأ به أي خطوة للتعامل مع الظاهرة أو العمل على علاجها.
علیاء أبو العینین (باحثة اجتماعیة)، لها رؤیة توضحها لـ "عربي بوست"، فهي تربَّت في بیئة ریفیة وفتحت عینيها على ما اتُّفق على تسمیته "عبیط القریة"، وهو ناقص النمو عقلیاً بدرجة تسمح له بدخول أي بیت في القریة، فلا یتوقع أحد منه الشر ولا یمثل خطراً على أحد، بل هو من یكون معرَّضاً لخطر أن یستغله المجرمون فیفعل أخطاء أو جرائم وهو غیر مدرك لما یفعل.
وتشیر الباحثة إلى أن تعامل الكثیرین معه كان دلیلاً على قدرة المجتمع المصري "التراحمیة" و "الاحتوائیة" في الماضي.
هذا المجتمع التراحمي لم یحتج وقتها إلى مؤسسات تستوعب المرضى النفسیین، لأنه كان یستوعبهم ویعطف علیهم ویحتویهم، وعندما دارت العقود واستورد المجتمع نظاماً أو "شبه" نظام للرعایة الصحیة، ومن بینها النفسیة، أنشئت مؤسسات للمرضى النفسیین.
وكانت النتیجة أن الفرد أصبح مستعداً لوضع ابنه أو أبیه المجنون والمنبوذ مجتمعیاً في المصحة النفسیة، وتصارعت أسر كثیرة على الفوز بمكان تتخلى فیه عن مریضها؛ وزاد الطین بلَّة أن الظروف الاقتصادیة الطاحنة التي یمر بها المواطنون خربت طاقة واستعداد الأسر والعائلات لاستیعاب مرضاهم.
وفي المقابل لم تتمكن الدولة من تقدیم بدیل بعدما أصبحت مؤسساتها -أو شبه المؤسسات- التي ینتظر منها استیعاب "المجانین" عاجزة، خاصة أنها تتقلص كجزءٍ من تقلص أجهزة الدولة.
الدكتور هاشم بحري، أستاذ الطب النفسي، یشرح الظاهرة قائلاً إنه من حیث المبدأ، فإن فكرة المرض النفسي من الأفكار المرفوضة بالمجتمع المصري، وتعادل في مدى استنكار المجتمع لها، حالات الإدمان واحتراف تقدیم الخدمات الجنسیة وغیرها من الأشیاء التي تجعل من الشخص وكل من یرتبط به منبوذاً من المجتمع.
لهذا تتجنب كثیر من الأسر الاعتراف بإصابة أحد أفرادها بالمرض النفسي، وحین تتفاقم الحالة إلى درجة تلفت انتباه الجیران والأصدقاء ویكون فیها العلاج إجباریاً، تلجأ بعض الأسر -خصوصاً غیر المیسورة مادیاً منها- إلى طرد المریض النفسي وإخراجه من دائرة حیاتها نهائیاً بدلاً من محاولة علاجه.
ومن ثم یجد المریض نفسه وحیداً بلا مأوى أو دعم نفسي وعاطفي، وهو ما یزید حالته سوءاً، خاصة إذا تعرَّض للاستغلال في الشارع سواء كان استغلالاً جنسیاً مثلما حدث مع منى، أو اتخذ شكلاً آخر مثل التعامل مع المریض على أنه مسخ، أو التلذذ بإیذائه وضربه كوسیلة للإضحاك.
یؤكد بحري أنه في ذلك الوقت یجب التدخل الفوري لعلاج المریض، لكن توجد هناك مشكلتان مهمتان: الأولى أن المریض النفسي یكون منبوذاً من أهله و "عاراً" على العائلة، ولا یرى فیه أهل الشارع سوى مسخ؛ ومن ثم لن یجد أحداً یبلّغ الجهات المختصة عن حالته وحاجته الجادة للعلاج؛ وهو ما یؤدي إلى تفاقم سوء الحالة.
أما المشكلة الثانیة فیلخصها محمد إبراهیم، الذي یعمل كبیر ممرضین بمستشفى الأمراض العقلیة في العباسیة (الخانكة)، بقوله لـ "عربي بوست" إن أعداد المرضى في الأقسام الداخلیة تتراوح بین 1100 و1500، ورصد في أثناء وجوده بالعیادات الخارجیة أن المترددین علیها یصلون إلى 35 ألفاً في بعض الشهور، في حين لا یزید عدد الأطباء بالمستشفى على 120 طبیباً، وهذا العدد غیر كافٍ للاهتمام الشامل بالمرضى النفسیین.
مجانين أولاد الذوات
ازدیاد الشعور بالاكتئاب والإحباط بمصر في السنوات الأخیرة، أسبابه معروفة وتتمثل أساساً في تزاید الضغوط المعیشیة بعد ارتفاع الأسعار بشكل جنوني مقابل ثبات الأجور، وهو ما أضاف أعباء غیر محتملة على كثیر من أرباب الأسر، بجانب الضغوط الثابتة التي یعانونها طول الوقت مثل مشاكل التعلیم والصحة، والمشاكل الاقتصادیة في مجتمع استهلاكي مظهري.
لكنَّ تفاقم الأمر وتحوّل الشعور إلى مرض نفسي یحتاج علاجاً، سببه الأساسي كما أكد طبیب نفسي شهیر بمصر -اعتذر عن ذكر اسمه- لـ "عربي بوست" أن فكرة العلاج النفسي بجانب أنها فكرة منبوذة اجتماعیاً، فهي مكلِّفة وتعد من الرفاهیات في نظر عدید من الأسر، وتأتي في ترتیب الأولویات بعد السیارة والمصیف.
كذلك فإن العلاج النفسي في مصر ینقسم إلى قسمین: الأول خاص یلجأ إلیه ما یصطلح على تسمیتهم "أولاد الذوات"، وهو التردد على العیادات الخاصة للأطباء النفسیین المشاهیر، وهؤلاء عددهم قلیل، وغالباً لا یستمرون في جلسات العلاج، لارتفاع التكلفة المالیة لتلك الزیارات من جهة، ولعدم قناعة الأهالي بفكرة العلاج النفسي أو إیمانهم بالطب النفسي من الأساس من جهة أخرى.
یضیف الطبیب: "لا یمكن في هذا السیاق تجاهل قلة عدد الأطباء المتخصصین في الطب النفسي باعتباره من (التخصصات الطاردة) في كلیات الطب، فعدد الأطباء النفسیین في مصر یقترب من 700 طبیب فقط، لأسباب كثیرةٍ أبرزها عدم استساغة فكرة الطب النفسي في المجتمع، وخوف الأهالي على أولادهم طلاب الطب من التعامل مع المرضى النفسیین إذا درسوا هذا التخصص".
القسم الثاني هو العلاج المجاني في المستشفیات العامة للصحة النفسیة وأشهرها مستشفى العباسیة، وهذه لا یتم اللجوء إليها إلا بعد "خراب مالطة" كما یقولون، بسبب السمعة السیئة التي أعطاها الإعلام والدراما لمستشفى العباسیة وربطها بالمجانین، دون إدراك أن هناك فروقاً مهمة وأساسیة بین الجنون والمرض النفسي.
لماذا يهرب الأهل من تكلفة العلاج رغم ضآلتها؟
لكن حتى هذا الحل الذي يراه البعض كارثياً، وهو اللجوء إلى مستشفى العباسیة، لیس متاحاً لكثیرین، باعتبار أن الطاقة الاستیعابیة الكلیة للمستشفى لا تزید عاى 1100 مریض مقیم، یخدمهم 120 طبیباً نفسیاً، في حين أن الأعداد التقریبیة لمن یعانون الأمراض النفسیة بمصر تزید قلیلاً على 8 ملایین فرد بالغ، وهو ما یعني أن هناك حاجة لما یزید على 7000 مستشفى مماثل لاستیعاب كل المرضى.
كذلك فإن من المشاكل التي باتت تُبعد المرضى الفقراء عن طلب العلاج بمستشفى العباسیة، ارتفاع تكلفة العلاج في السنوات الأخیرة، حیث تتولى وزارة الصحة المصریة علاج جزء فقط من المرضى بأسعار رمزیة، كما یقول د. مصطفى شحاتة.
إذ تبلغ تكلفة علاج المریض النفسى للیوم الواحد 500 جنیه (نحو 31 دولاراً)، لا یدفع منها المواطن سوى جنیه واحد ثمناً لتذكرة الكشف، وإجراءات الدخول لـ60% من المرضى مجانیة.
كل هذا جمیل، لكن مشكلته الوحیدة أنه لا یشمل سوى البعض، في حين يُطلب من الباقين دفع تكلفة تراها الدولة رمزیة، حیث تبلغ 40 جنیهاً یومیاً (دولاران ونصف دولار) في حین تتكفل الدولة ببقية التكلفة، وهو أمر جید نظریاً لكنه بشكل عملي صعب جداً، لأن مبلغ 1200 جنیه شهریاً (40 جنیهاً في 30 یوماً) كبیر على أغلب المرضى، الذین یخاطرون بسمعتهم وسمعة عوائلهم بالتردد على مستشفى العباسیة طلباً للعلاج المجاني ولیس الرمزي.
المفارقة أنه في الوقت الذي تتخلى فیه الدولة عن مسؤولیتها عن علاج المرضى النفسیین، هناك مسؤولون لا یزالون یلقون باللوم على الأجهزة المعنیة، للتقصیر في التعامل مع هذا الملف.
النائبة إیناس عبدالحلیم، مجدداً، تلوم وزارة الصحة، لتقصیرها في علاج المجانین؛ وهو ما یدفعهم للعودة إلى الشوارع والتحول إلى قنابل موقوتة.
إذ قالت: "بعض المجرمین الذین یتم التأكد من إصابتهم بمرض نفسي ویخضعون للعلاج، یتم إطلاقهم في الشارع أو يهربون من المستشفیات المعنیة، بما یمثل قنبلة موقوتة في الشارع، حیث امتلأت شوارع مصر بالمرضى النفسیین سواء من كان خاضعاً للعلاج وأفلت من المستشفى، أو من لم یتم ضبطه وإخضاعه للعلاج".
وقالت النائبة إن "دور الدولة یجب ألا یكون معالجة هؤلاء المرضى النفسیین فقط ولكن المتابعة الدوریة لهم، بعد خروجهم من المستشفى وتلقیهم العلاج؛ حرصاً على استكمال الشفاء والتعافي من الأمراض وحمایة المواطنین من أي انتكاسة قد تصیبهم".
الشرطة ليست مسؤولة عن هروبهم
الشرطة لها وجهة نظر مخالفة في هذه المسألة، یعبر عنها اللواء مجدي البسیوني، مساعد وزیر الداخلیة الأسبق والخبیر الأمني، بقوله إن الشرطة غیر مسؤولة عن هروب المرضى النفسیین من المصحات أو حتى مسؤولة عن تركهم في الشوارع.
لماذا؟! یجیب الخبیر الأمني بقوله إن تأمین المستشفیات لیس مسؤولیة الشرطة وحدها، والشرطة تؤمّن المنشآت، لكن كل منشأة لها أمن خاص إداري، مشدداً على ضرورة أن یكون للمستشفیات أمن خاص، وشركات الأمن الخاصة أصبحت منتشرة.
لكن الخبیر الأمني لا یعلق على أن ما یقترحه یزید من تكلفة العلاج النفسي سواء على الدولة أو على المریض، والاثنان لیس بمقدروهما تحمُّل التكلفة الحالیة، حیث ترید الدولة إشراك المریض في تحمُّل تكلفة العلاج، كما بینا في السطور السابقة. بینما یفضل أهالي المرضى عودتهم للشوارع على دفع المشاركة "الرمزیة" التي تریدها الدولة، فكیف سیكون الحال إذا تضاعفت التكالیف لتنفیذ مقترح الشرطة باللجوء إلى شركات الأمن الخاصة التي یملكها ویدیرها رجال شرطة سابقون.
في بیتنا مرشد للشرطة، وقد يكون هو الحل الوحيد
المرشد في الثقافة الأمنیة هو الواشي كما تقدمه الأفلام السینمائیة، وهو شخص یُزرع داخل مكان ما أو یكون من داخل المكان، ویتم استقطابه لیتعاون مع الجهة التي استقطبته عبر إمدادها بكل أخبار المكان أو العصابة التي ینتمي إليها.
مع بعض الفروق غیر الجوهریة یرى خبراء الأمن أن المرشد هو العلاج الأمثل لظاهرة مجانین الشوارع، حیث یطالب اللواء مجدي البسیوني وسائل الإعلام بتوجیه كل أسرة للإبلاغ عن المرضى لدیها؛ خوفاً على بقیة أفراد الأسرة وعلى الآخرین من ارتكاب جرائم بواسطة هؤلاء.
أما إذا تقاعس الأهل عن الإبلاغ، فلن تعدم الشرطة وسیلة لتجنید المرشدین، حیث یؤكد دور الجیران والأصدقاء في ممارسة الإرشاد الأمني (ولیس السیاحي) فور علمهم بوجود حالة مَرَضیة وإبلاغ الشرطة، التي تتخذ إجراءاتها بإحضاره والتأكد من "أهلیته"، واستدعاء أهله وسؤالهم عن سبب تركه وعدم السیطرة علیه، وبعد ذلك إیداعه مصحة نفسیة.
وأكد البسیوني أنه إذا تضافرت الجهود فسیقلُّ انتشارهم والجرائم الناجمة عنهم، لكن الغریب فعلاً أن السید البسیوني یعطي مثلاً یتناقض مع كل نصائحه السابقة عن شخص مریض نفسیاً في مدینة نصر، تركه إخوته لیعیش في الشارع، وعندما أبلغ الجیران عن حالته ذهب إخوته للقسم وتعهدوا بعلاجه، لكنهم تركوه ولم یعالجوه!