خرج اللبنانيون من كافة الانتماءات الطائفية والسياسية والإقليمية إلى الشوارع في الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول، احتجاجاً على الفساد المُتفشِّي وانهيار الخدمات، بشكل جعل حياة اللبنانيين جحيماً مثيراً للأسى والسخرية في الوقت ذاته، فلماذا يعد تغيير النظام في لبنان أصعب من أي دولة عربية.
بعكس الاحتجاجات السابقة؛ انتشر هذا الاحتجاج بطول البلاد، ويبدو وكأنَّه مدفوعٌ بغضبٍ شعبيٍ حقيقي ضد الطبقة السياسية بأكملها، وليس نتاج مصالح سياسية ضيقة. إذ يقولون في إحدى الهتافات الشهيرة: "كلكن يعني كلكن -حكومة حرامية". ولا نزال في انتظار أن نرى ما إذا كان هذا الحراك سيظل مُتَّحداً وعلى طريق الإصلاح الحقيقي، أم لا، حسبما ورد في تقرير لموقع Lobe Log الأمريكي.
ما الذي أوصل اللبنانيين إلى هذه الدرجة من الغضب؟
هناك أبعادٌ شعبية وسياسية لموجة الاحتجاجات الجديدة. إذ زاد الفساد بين الساسة في مؤسسات الدولة من مُعاناة الشعب اللبناني في الدخل المحدود وغيره من الأمور. وزاد من إحباط الشعب رفع الضرائب والرسوم على السلع والخدمات، التي تُدار بشكلٍ سيئ أو لا تتوافر من الأساس.
تُذكِّرنا احتجاجات الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول باحتجاجاتٍ شبيهة أطلقها المُجتمع المدني عام 2015، والتي اندلعت شرارتها آنذاك بسبب فشل الحكومة في التوافق حول من سيجمع ويُعيد تدوير قمامة البلاد -مما ترك كميات ضخمة من القمامة في الشوارع بعد أن امتلأت الصناديق عن بكرة أبيها.
لكن الشرارة هذه المرة تزامنت مع إعلان الحكومة عن ضريبةٍ على الإنترنت، تُؤثِّر بشكلٍ رئيسي على مُستخدمي واتساب وفيسبوك.
ومن المسلَّم به أنَّ اللبنانيين، على غرار الكثيرين ممن يعيشون في عالم التكنولوجيا الفائقة، أدمنوا تطبيقات الدردشة والمراسلة وإرسال مقاطع الفيديو عبر الشبكات الاجتماعية أثناء الطهي في المنزل أو السير في الشوارع المزدحمة أو القيادة على الطرق شديدة الخطورة.
وسيلة الحكومة الوحيدة لحل مشكلة العجز.. جيوب المواطنين
ولكن هذه الضريبة كانت واحدةً من أعراض نمط السلوك المألوف عن الحكومة، التي فشلت في توفير الخدمات الأساسية مثل: المياه والكهرباء وجمع إعادة تدوير القمامة، وهي في الوقت ذاته تُحاول موازنة الميزانية عن طريق خفض معاشات التقاعد وزيادة الضرائب. وتحوَّل غرق لبنان في قمامته إلى نكتةٍ سخيفة، حرفياً، نظراً لتلوُّث المياه والهواء وتدني مستوى الإمدادات الغذائية لشعبٍ فاض به الكيل.
وشهد هذا الصيف فقط تظاهراتٍ للمتقاعدين العسكريين اعتراضاً على خفض معاشات تقاعدهم بحجة موازنة الميزانية. وأعقبتها أزمة الوقود، حين قال أصحاب محطات الوقود إنَّهم لم يعودوا قادرين على تحمُّل تكلفة شراء الوقود بالدولارات الأمريكية وبيعه بالليرات اللبنانية.
أمَّا أزمة الدولار، والتي اشتبه الناس بدرجةٍ كبيرة أنَّها مصطنعةٌ من قبل المصرفيين الاستغلاليين، فقد شهدت اصطفاف طوابير من العملاء الغاضبين أمام البنوك لسحب أموالٍ من حساباتهم؛ ليُخبرهم موظفو البنوك أنَّهم لن يحصلوا سوى على الليرات اللبنانية فقط.
والأكثر إحباطاً كانت الحرائق الفتَّاكة واسعة النطاق التي اندلعت وانتشرت على مساحاتٍ واسعة من الأراضي خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول، لتأكل غابات الصنوبر وتُهدِّد المنازل والمصانع. وفي نهاية المطاف، تدخَّلت العناية الإلهية في صورة أمطارٍ غزيرة غير متوقَّعة لإخمادها، بعد أن أثبتت المعدات والموارد الحكومية عدم قدرتها على إتمام المهمة.
وكما حدث مع مشكلة القمامة، لم يكُن فشل الحكومات المُتعاقبة في حل أزمةٍ تلو الأخرى نتاجاً لقلة الخبرات الفنية.
زعماء الطوائف متفقون على النهب، ولكن المسؤولية ضاعت بينهم
لكن المشكلة الأساسية، بدلاً من ذلك، هي مشكلة الفساد. وبكل بساطة، رغم أنَّ النخب السياسية اللبنانية (أو زعماء الجماعات الطائفية والسياسية وشبه العسكرية) توافقت على نهب الخزائن العامة والسماح لغيرهم بفعل الأمر نفسه؛ لكنهم لم يتوافقوا على تفاصيل ذلك النهب -أي تحديد المسؤول الفاسد المنوط بكل ملفٍ فاسد.
وأسفرت الإخفاقات المُتتالية في حل مشكلة الاقتصاد المُتدهور والبيئة المنهارة عن تقلُّص الناتج المحلي الإجمالي، وتزايد الدين العام، وضغطٍ دوليٍ متواصل من أجل مزيدٍ من الشفافية في القطاع المصرفي اللبناني وإجراء إصلاحاتٍ هيكلية لموازنة الميزانية.
وصارت مُساعدة صندوق النقد الدولي الآن متوقِّفةً على تلك الإصلاحات المالية. وركَّز صندوق النقد الدولي تاريخياً على الإصلاحات الهيكلية التي تُحدِّد زيادة الدخل عن طريق فرض الضرائب، وتخفض النفقات عن طريق رفع أو خفض الدعم. وذكر رئيس الوزراء الحريري مرةً أنَّ الفصائل اللبنانية الأخرى وافقت خلال مُحادثاتٍ خاصة على خطةٍ لفعل ذلك تحديداً، لكن تلك الفصائل نفت ذلك على الفور بمجرد اندلاع الاضطرابات.
ووجَّه الحريري حديثه إلى مُنافسيه السياسيين أكثر من حشود المُحتجين، مقترحاً منحهم مهلةً لمدة 72 ساعة من أجل قبول خططه الإصلاحية أو العثور على شخصٍ آخر لقيادة الحكومة بموجب استراتيجيةٍ بديلة. وفي نهاية تلك المهلة، توافق مع زملائه في الحكومة على خطةٍ جديدة يأملون أن تنجح في تهدئة الاحتجاجات.
أحزاب تشارك في الحكومة تحاول استغلال الحراك
موقف القوى السياسية داخل البلاد هو أمرٌ حيويٌ بالنسبة لمستقبل الاحتجاجات وحكومة رئيس الوزراء سعد الحريري. إذ أرسلت بعض الأحزاب والشخصيات مؤيِّديها للمشاركة في الاحتجاجات وزيادة الضغط على الحريري من أجل الاستقالة، بسبب ما يعتبرونه خيانة لهم حين دخل تحالفاً مع الرئيس ميشال عون، إلى جانب إحجامه عن منحهم الرعاية الكافية (حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط).
لكن مشاركتهم في الاحتجاجات ستنتهي على الأرجح بمجرد سقوطه. ولكن في حال كان الحريري مستعداً لعقد صفقةٍ تمنحهم ما يُريدون؛ فسيدعمون التسوية السياسية مقابل بعض التغييرات في الحقائب الوزارية وخطة إصلاحٍ توفيقيةٍ يستطيعون التعايش معها جميعاً، وبعدها سيشتركون في وضع حدٍ للحركة الاحتجاجية.
حجم الفساد مذهل.. والنتيجة اللبناني يدفع كل شيء مرتين
في عام 2018، احتل لبنان المركز الـ138 من 189 دولة على مؤشِّر مدركات الفساد. ووضع البنك الدولي تقييم لبنان بين أقل الدول على تقرير الحوكمة العالمي، إذ منحها 12 درجة على مقياسٍ من صفر إلى 100 في ما يتعلَّق بالسيطرة على الفساد. ويمس الفساد كل جوانب الحياة في لبنان تقريباً، بدايةً من الرشاوى البسيطة التي يُضطَّر المواطنون لدفعها من أجل استخراج الأوراق في البيروقراطيات العامة، ووصولاً إلى السرقات الكبرى المُتوطِّنة في كافة العقود الحكومية. وتلوَّثت كافة الخدمات العامة بهذا الفساد.
وعلى سبيل المثال، كانت الكهرباء متوافرةً طوال الوقت كل يوم قبل تفجير وتدمير مرافق الكهرباء عدة مرات إبان وبعد الحرب الأهلية. ولتعويض ذلك، ظهرت مُولِّدات الكهرباء أولاً في صورة وحدات صغيرة يستطيع المرء وضعها في شرفته، ثم تطوَّرت على نطاقٍ أوسع حين قام رُوَّاد الأعمال بتزويد أحياءٍ وقرى كاملة بمولدات أكبر تعمل بالديزل وتنفث دخاناً أسود إلى هواء البلاد المُلوَّث بالفعل.
وتحمي الشخصيات السياسية الحزبية النافذة، وبعضهم زعماء برلمانيون معروفون، مُلَّاك تلك المُولِّدات من تجريم أعمالهم أو تقنينها بواسطة الدولة.
ويشعر المنتفعون من ذلك الترتيب بتهديدٍ واضح نتيجة محاولات إصلاح شبكة الكهرباء في البلاد، لأنَّ ذلك من شأنَّه أن يحرمهم من أرباحٍ هائلة. وبالتالي، فإنَّ المواطن الذي يُريد الكهرباء الآن يدفع للدولة الرسوم الرسمية مُقابل عدد ساعات الطاقة المُقدَّمة، والتي تتراوح بين ثلاث ساعات و12 ساعة بحسب المنطقة.
وفي الوقت ذاته، يدفع نفس المواطن لمالك مُولِّد الكهرباء المحلي رسوماً أكبر مُقابل توفير الكهرباء بعد انتهاء الساعات المُخصَّصة من قِبَل الدولة. وهذا مثالٌ واحد فقط -وإن كان كبيراً- على الابتزاز والاستغلال الذي يدعمه و/أو يرعاه أعضاء النخب السياسية.
يحدث الأمر مع المياه بشكل أقل، إذ يدفع كثير من اللبنانيين أموالاً للدولة مقابل المياه التي تأتي من الحكومة والتي لا تكفي الاستهلاك خاصة في فصل الصيف فيضطرون إلى شراء المياه من الموردين غير الحكوميين أي أنهم يدفعون للكهرباء والمياه مرتين.
وكما قال أحد اللبنانيين لـ"عربي بوست": "اللبناني يدفع كل شيء مرتين"
تغيير النظام في لبنان أصعب من أي دولة عربية
في عالمٍ هوبيسي حيث يُحكَمُ المجتمع بواسطة دكتاتورٍ فاسد؛ ينهض الناس في نهاية المطاف ويُطيحون بالدكتاتور، لاستبداله بدكتاتورٍ آخر أو الانتقال إلى حكومة مساءلةٍ ديمقراطية.
في ثورات الربيع العربي التي اندلعت عام 2011، وبصرف النظر عن مُختلف النتائج التي أسفرت عنها حتى الآن، فقد سقط النظام أو رأسه على الأقل في عدة دول عربية، ولم تتمكن أغلب الدول من إيجاد بديل للاستبداد باستثناء تونس
ولكن في لبنان، لا يوجد رأس للنظام بل رؤوس.
فهذا البلد الذي كان يُتباهى به في الماضي على أنَّه الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي، لم يسبق أن وُجد مركزٌ وحيد للسلطة يُمكن مُعارضته.
كل هؤلاء سيدافعون عن رؤوس النظام
إذ تتمتَّع الـ18 طائفةٍ دينية وعشرات الأحزاب السياسية، التي تتقاسم السلطة، بأنصارٍ مُخلصين يستفيدون من نظام المحسوبية وينهضون للدفاع عنها حين يشعرون بالتهديد.
ومعضلة إصلاحيي المُجتمع المدني الموجودين خارج النظام هي أنَّهم يُواجهون العديد من الحكَّام الدكتاتوريين الفاسدين والمُحصَّنين جيداً.
وانتهت الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عاماً بتوقيع اتفاق الطائف عام 1989، وهو الاتفاق الذي أدخل ترتيباً سياسياً جديداً. لكن الاتفاق ترك البلاد من حيث بدأت هيكلياً وانتخابياً، مع نخبةٍ سياسية فاسدة لم يمسسها أحد.
يقول كاتب تقرير الموقع الأمريكي: لا شكَّ أنَّنا لا نُبالغ بالقول إنَّ لبنان اليوم يقف على مفترق طرق. إذ تُشير التطوُّرات اليومية إلى حراك شارعٍ ينبض برفض التسويات القديمة، لكنَّه لا يُقدِّم في الوقت ذاته طريقاً واضحاً نحو المستقبل.
واقترحت محاولة الحريري الثانية لتقديم خطة إصلاح أن تُخفَض أجور ومنافع الوزراء وأعضاء البرلمان. وهذا لن يُغيِّر شيئاً على الأرجح، تماماً كما لن يُغيِّر تعديل الحقائب الوزارية شيئاً أيضاً. ويجب أن تتحمَّل النخبة السياسية اللبنانية المسؤولية عن المستنقع الذي غرقت فيه البلاد، وأن تسعى لحلولٍ جذرية من جانب زعماء المجتمع المدني الذين يقودون الاحتجاجات.
وربما يُشكَّل مجلسٌ استشاري لهذا الغرض، ويُكلَّف بمسؤولية وضع خطةٍ تُطبَّق على عدة سنوات. ومن الواضح أنَّ الإصلاح الجذري هو ما يقف في الطريق بين الانتقال الآمن والتدريجي إلى حكومةٍ مسؤولة من ناحية، وبين الفوضى الشاملة من ناحيةٍ أخرى.