حملت النشرة الرسمية للحكومة السعودية، هذا الأسبوع، تهنئة الإمبراطور الياباني الجديد بمنصبه، وإدانة تفجير شاحنة في أفغانستان، وإشارة إلى مباحثات مع البرازيل للتوصل إلى مذكرات تفاهم في مجال الملكية الفكرية. لكن برز غياب أي إشارة إلى لبنان، البلد الذي لطالما كان للسعودية نفوذ كبير فيه على مدى عقود طويلة، وحيث أخذت احتجاجات اندلعت مؤخراً ضد المؤسسة السياسية الحاكمة، في التحول خلال الأيام الأخيرة إلى ثورة أخرى في الشرق الأوسط.
تقول دونا أبوالنصر، رئيسة مكتب Bloomberg في السعودية، إن الصمت الرسمي في العالم العربي بشأن الاضطرابات التي هزت لبنان لأكثر من أسبوع، يبدو كما لو أنه يتبع إرشادات نابليون "بألا تتدخل عندما يكون عدوك في طريقه إلى تدمير نفسه بنفسه". إذ اتحد متظاهرون في بيروت ومناطق لبنانية أخرى للاحتجاج على نظام يهيمن عليه "حزب الله"، وهو أحد وكلاء إيران في المنطقة وتصنّفه السعودية ودول خليجية أخرى تنظيماً إرهابياً، وطالما سعت القضاء عليه.
هل السعودية صامتة بالفعل؟
وقال مسؤول خليجي لبلومبرغ -طلب عدم التصريح باسمه لأن الحديث هنا عن مسائل خارجية حساسة- إن المسؤولين الرسميين تعمدوا الصمت، حتى وإن أخذ معلقون سعوديون وغيرهم في دول خليجية أخرى عبر القنوات التلفزيونية، في تأييد موقف المتظاهرين. والأكثر من ذلك، أن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري حينما أراد الحصول على مساعدة مالية رُفض طلبه، لتجنب ذهاب الأموال إلى حزب الله من خلال الحكومة، وفقاً للمسؤول وشخصين آخرين مطّلعين على الأمر.
ومع أنَّ الغضب من الصعوبات الاقتصادية وادعاءات الفساد كان قد صار سمةً مميزة للبنان منذ سنوات، فإن ما جدّ هذه المرة، هو أن الاحتجاجات طالت كافة السياسيين من جميع الأديان والطوائف، وشملت حزب الله وزعيمه حسن نصر الله، الذي كان يُعد أيقونةً لا يمكن المساس بها.
"كِلُّن يعني كِلُّن"
تنادي هتافات الجماهير "كِلُّن يعني كِلُّن" بإقالة شاملة لسماسرة السلطة في البلاد، ويشمل ذلك الذين خرجوا من معاقل المسلمين السنة في طرابلس وعكار في الشمال أو من نواحي بعلبك الخاضعة لهيمنة حزب الله في الشرق، لا سيما الذين أبرزتهم المناطق المسيحية وسط بيروت.
يقول سامي نادر، مدير مركز المشرق للشؤون الاستراتيجية، إن "ما يحدث هو هدية من السماء للسعودية ودول أخرى في حربها بالوكالة مع إيران". ومع ذلك، يقول نادر إن الابتعاد هو أمر أساسي، إذ "من الواضح أن حزب الله هو الخاسر الأول هنا، ومن ثم فإن أي ملمح يشير إلى وجود قوة إقليمية تحاول اختطاف الحراك، ستؤدي إلى هيمنة الاستقطاب على الاحتجاج وتقسيمه على أسس طائفية".
امتنعت الكويت والإمارات أيضاً، مثلها مثل السعودية، عن إصدار بيانات رسمية أو النداءات المعتادة بالتعقل والتزام الهدوء، وهو ما قيد إجراءاتها لإجلاء مواطنيها عن لبنان.
وكانت الملكيات الثلاث، حتى وقت قريب، ركناً أساسياً في عمليات تقديم الدعم والمساعدات المالية للبنان متى ما تعثر اقتصاده أو أوشك على الانهيار. إذ يعد لبنان أحد أكثر البلدان مديونية في العالم، وقد أخذت محاولاته السابقة قبل اندلاع الاحتجاجات للحصول على مصادر تمويل جديدة، تعاني صعوبات كبيرة.
الحريري حاول الحصول على دعم سعودي وإماراتي وتم رفض طلبه
وقال مسؤول خليجي إن رئيس الوزراء سعد الدين الحريري زار أبوظبي قبل بضعة أسابيع ولم يتلق أي دعم كما فعلت السعودية. على النقيض من ذلك، عندما اندلعت الاضطرابات في السودان، وأطيح برئيسه، تعهدت الإمارات والسعودية بدعم قيمته 3 مليارات دولار لتفادي حدوث أي فوضى في البلاد.
ويقول محللون على دراية باستراتيجية الدول الخليجية، إن الحلفاء الخليجيين وقفوا موقف المتفرج إلى حد كبير لسببين رئيسين: أولهما أن الحريري، وفقاً لهم، لم ينفذ أياً من الإصلاحات التي طلبها المانحون للبدء في منح الأموال التي سبق أن تعهدوا بها في مؤتمر عام 2018، وثانيهما نفوذ حزب الله المستحكم في لبنان.
ويقول شفيق الغبرة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، إن الأمر يتعلق بأنك "إلى حد ما، إذا أنقذت لبنان، فإنك تنقذ حزب الله معه في الوقت ذاته".
وتعد الجماعة المسلحة أكبر نجاح لإيران في تصدير الثورة الإسلامية عام 1979. لقد أخذت تحشد آلاف الرجال لمحاربة إسرائيل، وفي السنوات الأخيرة، قتال فصائل المعارضة في سوريا.
القوة الأكبر والمسيطرة في لبنان
تفوق قوة حزب الله في الداخل اللبناني قوةَ الجيش الأمريكي هناك. ولدى المنظمة أيضاً شبكة من الجمعيات الخيرية التي تقدم مساعدات اجتماعية ورعاية صحية بأسعار معقولة، يستفيد منها مؤيدوها الشيعة. وفاز الحزب بأول مقعد تشريعي له في بيروت التي يهيمن عليها السنة في عام 2018، بعدما فشل الحريري، رئيس الوزراء السني الموالي للسعودية، في كبح نفوذها. واستُدعي الحريري إلى الرياض لمواجهة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في وقت لاحق من ذلك العام.
حثَّ نصر الله المتظاهرين في 19 أكتوبر/تشرين الأول على التعبير عن آرائهم بأدب، مضيفاً بابتسامة: "اشتموني، ما في مشكلة". وقال نصر الله، في تهديد مستتر للحريري وحلفائه، إن أولئك الذين يحاولون التهرب من المسؤولية عن الوضع القائم بعد سنوات في السلطة يجب أن يُحاكموا.
ومع ذلك، فإن الحزب أيضاً عانى من ضغوط مالية مع تشديد العقوبات الأمريكية على إيران. وفيما يمثل كسراً لأحد المحظورات الكبرى، خرج أفراد من القاعدة الشعبية للحزب واتهموا نصر الله والنواب الموالين له في البرلمان بالتستر على الفساد المستشري، وإهدار الموارد على القتال في سوريا، وتجاهل مصالح الناس واحتياجاتهم.
وفي حين أن حكومات الخليج رفضت التعليق علانية، فإن أصواتاً خارجة عنها لم تفوّت فرصة التعليق على ما يجري في لبنان.
"انكسار (جدار الخوف): الشارع اللبناني يفتح النار على نصر الله"، هذا ما حمله أحد العناوين الرئيسية في الصفحة الأولى في جريدة عكاظ السعودية المقربة من الحكومة، هذا الأسبوع. وقال عنوان آخر في صحيفة Saudi Gazette: "تشهد حركة حزب الله مظاهرات نادرة تنتقد الحزب وزعيمه نصر الله".
كذلك أبدى مواطنو الخليج سروراً كبيراً في تأييدهم للمظاهرات، خلال تعليقاتهم المشيدة بلقطات خفيفة ومبهرة: متظاهرة لبنانية تركل حارس أمن مسلح بين فخذيه، و"دي جيه" يمتع الجماهير في مدينة محافظة، ومصففو الشعر يقدمون حلاقة مجانية للمتظاهرين، ولقطات مؤثرة لجنودٍ يعانقون المتظاهرين ويغالبون دموعهم.
وقال جعفر محمد، أحد المذيعين الكويتيين خلال برنامج حواري أذيع على قناة الشاهد: "في الثورات كلها، تكون وجوه المتظاهرين حزينة ومتجهمة، في الوقت الذي تسخر حكوماتهم منهم، باستثناء الاحتجاجات في لبنان".
هل تخلى الخليج عن لبنان؟
تمزّق لبنان خلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً، وانتهت عام 1990 بسلام هش. ولم تكن التوترات الطائفية بين مجتمعات السنة والشيعة والمسيحيين بعيدة في أي وقت.
أعلن الحريري حزمة إصلاحات مالية جديدة في البلاد، تشمل خفض رواتب الوزراء وأعضاء البرلمان الحاليين والسابقين بمقدار النصف. وقال الرئيس ميشال عون يوم الخميس إن التغييرات في النظام السياسي يجب أن تأتي من خلال المؤسسات الدستورية، وليس من ساحات التظاهرات.
على المستوى الرسمي، لم تتخل دول الخليج عن لبنان، وفق ما قاله أحد الأشخاص المطلعين. وقال المصدر ذاته إن أنظمة الخليج ستساعد أي حكومة بإمكانها أن تكون شريكاً موثوقاً به وتبدي جديةً في إصلاحاتها ولديها الشجاعة لكبح نفوذ حزب الله في البلاد. وسبق أن أوقفت السعودية في عام 2016 دعماً بقيمة 3 مليارات دولار من المساعدات العسكرية ومليار دولار لقوات الشرطة، وألقت باللوم في ذلك على الدور المتزايد لحزب الله في البلاد.
يقول أستاذ العلوم السياسية الإماراتي عبدالخالق عبدالله، تعليقاً على الموقف الخليجي: "إنهم يريدون معرفة إلى أين تسير الأمور، ولا يريدون استباق أي تطور قد تشهده الأحداث. ليس هذا هو الوقت المناسب لاتخاذ أي موقف رسمي سوى التواجد ومراقبة وتقييم الأمور من كثب، حتى تصبح الأمور أوضح".