أتت التفاصيل المعقدة لاتفاق البريكست الجديد الذي توصل إليه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مع الاتحاد الأوروبي، في 64 صفحة من التنقيحات والمراجعات لاتفاقية الانسحاب القديمة، إضافة إلى خريطة طريق مصاحبة لتنظيم العلاقات مستقبلاً.
بعد أيام من مفاوضات غير واضحة المعالم، كشفت الوثائق عن طبيعة الاختلافات بين صفقة جونسون، عن تلك التي أبرمتها سلفه تيريزا ماي، التي سقطت في سلسلة من الهزائم المهينة في مجلس العموم البريطاني.
بحسب صحيفة The New York Times الأمريكية، فإن هذه هي البنود التي ستحدد ما إذا كانت صفقة جونسون ستلقى المصير نفسه. إذا مُرّرت هذه الصفقة فإنها ستشكل علاقة بريطانيا مع الدول الأوروبية الأخرى لجيلٍ على الأقل.
أبرز عقبة على الطريق: مسألة الحدود الأيرلندية
في بريطانيا، ثبت أن الجزء الأكثر تعقيداً فيما يتعلق بمغادرة الاتحاد الأوروبي هو الحدود الأيرلندية، وهي خط غير مرئي بين أيرلندا الشمالية، التي تعد جزءاً من المملكة المتحدة، وجمهورية أيرلندا، التي تعد دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي.
الحدود، في صيغتها الحالية، لا تتضمن حواجز جمركية أو إجراءات تفتيش مادية، لأن كلتا المنطقتين بوصفهما جزءاً من الاتحاد الأوروبي، تندرجان في الاتحاد الجمركي نفسه والسوق الموحدة ذاتها. لكنَّ هذا سينتهي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يعني المخاطرة بعودة حدودٍ لطالما أسهمت في إثارة نزاع طائفي طويل ومميت في الجزيرة.
كان حلُّ ماي هو إجراءات ما يطلق عليه "الدعم الخلفي الأيرلندي" أو "شبكة الأمان" (backstop). وتضمنت تلك الإجراءات إبقاء بريطانيا كلها في الاتحاد الجمركي الأوروبي، ربما إلى أجل غير مسمى، ما يجبرها على فرض التعريفات الجمركية ذاتها التي تفرضها الدول الأوروبية الأخرى، حتى إنها تتطلب من أيرلندا الشمالية الامتثال بشكل أكبر لبعض قواعد السوق الأوروبية الموحدة.
كانت تلك الشروط "سيئة حدَّ اللعنة" بالنسبة إلى دعاة الخروج المتشددين، وكذلك بالنسبة إلى النواب الوحدويين في أيرلندا الشمالية، الذين يهتمون على وجه الخصوص بالعلاقة بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية، ويبغضون أي اختلافات في قواعد التجارة السارية عليهما.
لذا حاول جونسون إيجاد حل آخر، ألا وهو التخلص من بروتوكول شبكة الأمان، مع تبنّي نسخ مختلفة بعض الشيء من بعض أكثر ميزاتها إثارة للنزاع.
ما البنود التي ستحل محل "شبكة الأمان"؟
خطة جونسون –التي لم يُكشف عنها حتى الآن- ستقضي بانسحاب المملكة المتحدة بأكملها من الاتحاد الجمركي الأوروبي. ويعد هذا انتصاراً كبيراً لدعاة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ يفتح الطريق أمام بريطانيا لعقد اتفاقياتها التجارية الخاصة مع أطراف مختلفة، ومنها الولايات المتحدة.
ومن المفترض أيضاً أن تُرضي الوحدويين في أيرلندا الشمالية، إذ ستظل تلك المنطقة من الناحية القانونية جزءاً من المنطقة الجمركية للملكة المتحدة، وهو ما يسمح لها بالاحتفاظ بعلاقاتها الوثيقة مع بريطانيا والاستفادة من اتفاقيات تجارية أخرى في المستقبل.
غير أن الطريقة الوحيدة لتجنب تفتيش البضائع المارة من أيرلندا الشمالية إلى جمهورية أيرلندا، كانت هي أن يطبق الشمال قواعد وإجراءات الاتحاد الأوروبي بشأن التعريفات الجمركية، وهي القواعد ذاتها التي تتبعها جمهورية أيرلندا. يحافظ اتفاق جونسون أيضاً على بقاء أيرلندا الشمالية ممتثلةً لقواعد السوق الموحدة الأوروبية، الخاصة بالمنتجات الصناعية والسلع الزراعية.
هذا يعني، من الناحية العملية، أنه بدلاً من إقامة حدود على جزيرة أيرلندا، سيتعيّن على بريطانيا إقامة تلك الحدود في البحر الأيرلندي، وفرض ضوابط تنظيمية وجمركية على البضائع التي تمر من بريطانيا إلى أيرلندا الشمالية. قال بعض المحللين إن ذلك سيؤدي إلى نوع من الفصل أو المعاملة المختلفة بين أجزاء من المملكة المتحدة، وهو اقتراح قالت ماي إنه لا يمكن لرئيس وزراء بريطاني أن يقبله.
وحاول جونسون التخفيف من آثار حدود البحر الأيرلندي هذه، عن طريق نظام للخصومات والتخفيضات التي من شأنها موازنة تعريفات جمركية أعلى ستُفرض في التجارة مع دول الاتحاد الأوروبي. كما ستُعفى بعض السلع، مثل الأغراض الشخصية التي يحملها شخص يتحرك بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية، من الرسوم الجمركية.
ومع ذلك، فإنه إلى الآن، تبيَّن أن منظومة نقاط التفتيش الجديدة هذه لا تحظى بموافقة النواب الوحدويين من أيرلندا الشمالية، ولذلك أعلنوا رفضهم الاتفاق الذي توصل إليه جونسون، وقد يؤدي رفضهم هذا في النهاية إلى إفشال الاتفاق.
"شبكة الأمان" قد تستمر إلى الأبد.. ماذا عن الخطة الجديدة؟
كان ثمة اعتراض أساسي آخر على خطة ماي بشأن شبكة الدعم الأيرلندي، وهو أن النواب المنتخبين في أيرلندا الشمالية، المنطقة الأكثر تأثراً بالاتفاق، لم يؤخذ رأيهم في قواعد التجارة التي سيخضعون لها ولا في مداها الزمني.
وقد تمكّن جونسون، فيما يخص هذه النقطة، من الحصول على تنازل كبير من القادة الأوروبيين. إذ يمنح الاتفاقُ الجديد الهيئةَ المنتخبة لأيرلندا الشمالية فرصةَ التأثير في الترتيبات، وربما رفض التزاماتها كليةً.
بيد أنَّ أيرلندا الشمالية لا يمكن لها التخلي عن قواعد التبادل التجاري الأوروبية على الفور، إذ ستصبح الإجراءات الجديدة ساريةً في نهاية فترة انتقالية في عام 2020، وستبقى ساريةً لأربع سنوات أخرى، قبل أن يصبح من حق أي شخص الاعتراض عليها في أيرلندا الشمالية.
وحتى حينها، لن يكون بإمكان "الحزب الوحدوي الديمقراطي" الأيرلندي، بمفرده، سحب أيرلندا الشمالية من القواعد الأوروبية. (إجراءات التصويت معقدة، لكن نواب الأحزاب الأخرى في "جمعية أيرلندا الشمالية"، والتي تعد هيئتها التشريعية الرئيسية، يجب أن يوافقوا لكي يمكن تمرير انسحاب). وقال النواب الوحدويون يوم الخميس إن ذلك البند يقضي بفشل الصفقة بالنسبة إليهم.
يمكن أن تستمر الهيئة التشريعية الأيرلندية في التصويت على الاتفاقية كل عدد من السنوات. وفي حال قرَّرت الهيئة الانسحاب من الصفقة، فإن قواعد التبادل التجاري الأوروبية ستبقى ساريةً لعامين بعد ذلك، حتى تتمكن كافة الأطراف من إيجاد طريقة مختلفة لتجنب إجراءات انسحاب صعبة.
ماذا عن قواعد التنافس على أساسٍ متكافئ؟ فلندع الحديث عنها لوقتٍ لاحق
كان أحد مصادر القلق الأساسية في هذه المفاوضات يأتي من ثلاث كلمات بسيطة، لكنها حاسمة فيما يخص العمل في أحد أغنى أسواق التجارة في العالم: وهي قواعد المنافسة على أساسٍ متكافئ أو قواعد تكافؤ الفرص. ويعني هذا للبلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي اتباع المعايير السائدة للأغذية والبضائع بين كافة الأطراف.
إذ بمجرد خروجها من الكتلة الأوروبية، يمكن أن تميل بريطانيا إلى إلغاء تلك القواعد أو تخفيفها. لأنه في حين أن تلك القواعد يُنظر إليها على أنها من بين أفضل القواعد في العالم فيما يتعلق بحماية المستهلكين، وبشكل متزايد البيئة، فإنها تعد أيضاً شديدة الصرامة وعالية التكلفة بالنسبة إلى الشركات.
سيتيح الاتفاق على قواعد متكافئة للتنافس، كتلك التي كانت ماي مستعدةً للموافقة عليها، لبريطانيا والاتحاد الأوروبي بالتفاوض بسرعة على اتفاقية للتجارة الحرة وتجاوز الكثير من الإجراءات البيروقراطية التي يُتوقع أن تصاحب عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
غير أن جونسون قال صراحةً إنه غير مهتم بالالتزام بالقواعد الأوروبية فيما يتعلق بالسلع والبضائع، وهو موقف أشعل غضباً كبيراً.
وتثير تلك المسألة خلافات كبيرة دفعت الطرفين إلى التغافل عنها تماماً في الاتفاقية الجديدة. ليختارا، بدلاً من ذلك، تنحية النقاش حول قواعد التنافس المتكافئة إلى الإعلان السياسي غير الملزم بين الطرفين، وهو ما يعني أنه يمكن تغييرها في المستقبل.
وسارع نقاد الاتفاقية إلى الإشارة إلى الثغرات فيما يتعلق بقواعد حماية البيئة وغيرها في هذه التفاصيل، والتي يمكنها أن تخفِّض جودة (وربما، يقول البعض، تكاليف) بعض السلع في بريطانيا.
ماذا يحمل المستقبل للمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي؟
قد تكون هذه نهاية المفاوضات (قد تكون!)، غير أنها أيضاً بداية المحادثات لفصل جديد في علاقات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي. إذ ستكون العلاقات المستقبلية مسألةَ نقاش ومفاوضات ستستغرق سنواتٍ على الأرجح لبلورتها.
وفي بيان غير ملزم، المعروف باسم الإعلان السياسي، أعلن الطرفان اتفاقهما على "العمل معاً لحماية النظام الدولي القائم على قواعد مشتركة، وسيادة القانون وتعزيز الديمقراطية، والمعايير العالية لحماية معايير التجارة الحرة وحقوق العمال والمستهلكين، والحفاظ على البيئة، والتعاون ضد أي تهديد داخلي أو خارجي للقيم والمصالح المشتركة".
سيعتمد أحد أركان هذه العلاقة الأساسية على كيفية تعامل بريطانيا مع الكتلة الأوروبية، والتي ستظل شريكها التجاري الأول.
لم يُخفِ مسؤولو الاتحاد الأوروبي حقيقة أنهم يريدون اتفاقية تجارة حرة مع بريطانيا، والإعلان السياسي الذي نُشر يوم الخميس ينصُّ على ذلك. "ستكون هذه الشراكة شاملة، وتتضمن اتفاقية للتجارة الحرة، وكذلك التعاون على قطاع واسع، متى ما كان ذلك يحقق مصلحة الطرفين".
لكن تاريخياً، قد يستغرق اتفاق مثل هذا سنوات من التفاوض. تفاوضٌ سيصبح معقداً إذا بدأت بريطانيا في الانحراف عن المعايير الأوروبية بشأن إنتاج سلع حساسة متعددة.
وسيعاني التفاوض أيضاً من نكسات، إذا أصبحت البيئة العالمية محفوفة بالمخاطر لدرجة أن يجد الاتحاد الأوروبي وبريطانيا نفسيهما طرفي نزاع، وهو ما قد يحوّل تلك المحادثات إلى عداءات بين الطرفين.