من أين يأتي تمويل العاصمة الجديدة والعلمين الجديدة وكل هذه المشروعات القومية؟ أصبح هذا السؤال يطارد حكومة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في ظل أوضاع اقتصادية خانقة جعلت هذه المشروعات سبباً لاستفزاز المصريين، بعدما كان الهدف منها أن تكون مدعاة لفخرهم.
وغالباً ما يُطرح سؤال هام: هل يتم بناء هذه المدن خاصة "العاصمة الإدارية" الجديدة من ميزانية الدولة؟
والإجابة غالباً (لا)، كما يقولها المسؤولون، إذاً فمن أين يتم تمويلها؟
ولكن هناك سؤال آخر لا يتم طرحه غالباً: هل تدخل ميزانية الدولة أي عوائد مالية نتيجة بيع هذه الأراضي والمشروعات الجديدة؟
ولكن المفاجأة أن حصيلة البيع تدخل في خزانة "القوات المسلحة" المصرية، وواجهتها العاملة في مشروع العاصمة الجديدة وهي "شركة العاصمة الإدارية" والهيئة الهندسية الجهة المنفذة لحوالي 80% من مشروعات تلك العاصمة، إما بشكل مباشر أو غير مباشر.
من أين يأتي تمويل العاصمة الجديدة والعلمين الجديدة؟
الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، شرح في كلمته أمام مجلس النواب، الثلاثاء الماضي، الهدف من إنشاء المدن الجديدة، قائلاً إنها "ستغطي الزيادة السكانية".
وقال رئيس الوزراء إن "المدن الجديدة التي تنشئها الدولة حالياً، كانت عبارة عن أراض صحراء ومهجورة تماماً، وكان يتم التعدي عليها وإقامة مشروعات بعيداً عن الدولة، لذلك فإن وجهة نظر الدولة هي أن تدخل وتنفذ مشروعات إنشاء مدن جديدة لتستوعب الزيادة السكانية".
وأشار الدكتور مصطفى مدبولي إلى أن "مدينة العلمين الجديدة مثلاً كانت أرض صحراء، وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة تولت تنفيذ هذه المدينة مع 14 مدينة أخرى"، قائلاً: "النهارده هذه المدينة مساحتها 170 ألف فدان، وتنفذ بعيداً عن الموازنة العامة للدولة، وكذلك العاصمة الإدارية الجديدة، قيمتها السوقية الآن تريليون جنيه مصري، مش هاخدهم النهاردة ولكن كل ذلك للمواطن المصري، ونعمل على تعظيم أصول الدولة".
لا نصيب للمواطن المصري في هذه الصروح العملاقة
وبالنظر إلى خريطة الاستثمار العقاري في هاتين المدينتين تحديداً سنجد أنه مثلاً في مدينة العلمين يصل سعر الوحدة السكنية إلى 50 مليون جنيه، كما قال مصدر عقاري منفذ لأحد المشروعات هناك لـ "عربي بوست".
وأضاف أنه "كذلك بالنسبة للعاصمة الإدارية الجديدة، فمتوسط سعر متر الشقة بها من 10 آلاف جنيه إلى 50 ألف جنيه مصري".
وتساءل المصدر: "أين هو المواطن المصري الذي سيدفع مثل هذه المبالغ الطائلة لشراء وحدة ما في مثل هاتين المدينتين كما يقول رئيس الوزراء؟".
وتابع المصدر: "حتى الموظفين الذين سيعملون في العاصمة الإدارية والذين سيتم نقلهم إلى هناك مع نهاية عام 2020 لن يسكنوا هناك، بل خصصت لهم الدولة إسكاناً اجتماعياً في "مدينة بدر" وهي أقرب المدن الجديدة للعاصمة الإدارية، ولن تعطيهم الدولة هذه المساكن كهبات مثلاً، بل سيدفعون ثمنها بنظام التمويل العقاري".
العاصمة الإدارية مسؤولية القوات المسلحة بعد هروب الإمارات والصين
حكاية العاصمة الجديدة منذ بدايتها مثيرة للقلق بالنسبة لكثير من المصريين.
لأن جهات دولية وعربية معروفة بخبراتها الكبيرة في المشروعات العقارية هربت من المشروع.
إذ يكشف عبدالخالق فاروق، الخبير الاقتصادي في كتابه "هل مصر فقيرة جداً؟": برز على سطح الحياة السياسية والاقتصادية في مصر عام 2014، ما يسمى إنشاء "عاصمة إدارية جديدة"، وظهور رئيس الجمهورية، أمام كاميرات التلفزيون بصحبة المستثمر الإماراتي محمد العبار ولفيف من الوزراء والمسؤولين وبصحبة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رئيس وزراء دولة الإمارات وحاكم إمارة دبي، والحديث لم ينقطع يوماً حول هذا المشروع، ومدى أولوياته في العمل التنموي المصري، خصوصاً بعد أن أعلن على الملأ أن هذه العاصمة الجديدة ستتكلف مبدئياً 45 مليار دولار (أي ما يعادل 810 مليارات جنيه مصري وفقاً لأسعار الصرف الجديدة).
كان من المفترض أن تمول هذه العاصمة الشركات العالمية، مثل "العبار" وشركات عقارية وهندسية صينية، ولكن الجميع انسحب وهرب من المشروع لعدم الاتفاق بين رؤية الجيش ويمثله السيسي ورؤية هذه الشركات فوقع المشروع في النهاية على عاتق شركات مقاولات مصرية، ستحصل على مستحقاتها أولاً بأول من الخزينة العامة بأي صورة من الصور، كما يرى عبدالخالق فاروق.
تجدر الإشارة إلى أن عبدالخالق فاروق قد تم توقيفه بعد نشره هذا الكتاب بتهمة "نشر أخبار كاذبة" ثم أطلق سراحه، لاحقاً.
السيسي يبيع الأرض للجيش
وبحسب د. عبدالخالق فاروق فقد أصدر السيسي القرار رقم 57 لسنة 2016 بتخصيص الأراضي الواقعة جنوب طريق القاهرة السويس واللازمة لإنشاء العاصمة الإدارية للقوات المسلحة.
ونص القرار على إنشاء شركة مساهمة مصرية تتولى تنمية وإنشاء وتخطيط العاصمة الإدارية الجديدة، وتكون قيمة الأراضي التي تبلغ مساحتها 16 ألفاً و645 فداناً من حصة القوات المسلحة في رأسمالها (أي ما يعادل 68.2 مليون متر مربع)، هذا القرار يعنى أن عائد بيع أو استثمارات العاصمة الإدارية الجديدة يعود إلى خزانة القوات المسلحة وليس إلى خزانة العامة للدولة.
وإذ افترضنا أن سعر المتر في هذه المساحة يبلغ ألف جنيه، فإن إجمالي قيمة هذه الأراضي 68.3 مليار جنيه انتقلت ملكيتها للقوات المسلحة.
ويتحدث مدير مالي في إحدى الشركات العقارية الكبرى لها أعمال في المدن الجديدة ، خاصة "العلمين" لـ "عربي بوست" عن آلية تمويل مثل هذه المشروعات قائلاً: "وفق القانون والدستور فأراضي العاصمة الإدارية الجديدة وغيرها من المدن، هي أراضي دولة من المفترض أن تخضع لميزانية الدولة، وبالنسبة للعاصمة الإدارية مثلاً فقد تم تأسيس شركة مساهمة مصرية تحمل هذا الاسم وفقاً لقانون إنشاء الشركات، وتم إسناد إدارتها إلى لواء سابق بالجيش، وقد اشترت هذه الشركة أراضي العاصمة الإدارية بكامل مساحتها كأرض صحراوية غير مرفقة.
وفي هذه الحالة يكون سعر المتر أقل من 1000 جنيه، ثم بدأ طرحها لكبار المطورين وتم تخصيص مساحات كبيرة لهم ، وهيئات الشرطة والجيش والقضاء".
تضارب وغموض التصريحات حول التمويل.. من ثمن الأراضي أم هيئة المجتمعات؟
وفق تصريحات رئيس الوزراء، الثلاثاء الماضي وتصريحات للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، فإن تمويل هذه المدن يأتي من حصيلة بيع الأراضي.
لكن نجد تصريحاً آخر منذ عامين للمهندس علاء عبدالعزيز، نائب وزير الإسكان السابق، في لقاء مع الإعلامي محمد علي خير، على قناة "القاهرة والناس" بتاريخ 22/10 /2017 قال فيه إن "تمويل العاصمة الإدارية الجديدة ليس من الموازنة العامة للدولة، وإنما من أموال هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة"، والسؤال: إذا كان الأمر كذلك فمن أين تأتي هذه الهيئة بالأموال اللازمة لتمويل هكذا مشروعات، خاصة أنها جهة حكومية تخضع لكافة قوانين الدولة؟
ولشرح هذا الغموض يقول د. عبدالخالق فاروق، الخبير الاقتصادي المعروف، إن "المجتمعات العمرانية" هي هيئة اقتصادية تتبع وزارة الإسكان وفقاً للقانون رقم (59) لسنة 1979، ومصادر إيراداتها ثلاثة هي:
– ما يخصص لها من الموازنة العامة للدولة (وهي عدة مليارات سنوية عادة).
– مصادرها الذاتية وأهمها على الإطلاق مبيعات الأراضي، بعد أن أصبحت مهيمنة على معظم الأراضي الصحراوية في البلاد عدا تلك الموضوعة تحت سيطرة القوات المسلحة والشرطة. (وهي أيضاً مبالغ تقدر بالمليارات سنوياً)، وهذه المبالغ الضخمة لا تدخل إلى الخزانة العامة، وإنما توضع في صناديق وحسابات خاصة يديرها الوزير المختص -وزير الإسكان- ومجلس إدارة يعيّنه هو وفقاً لما يتراءى له.
– التبرعات والمنح التي تحصل عليها الهيئة.
وقد أعلن المهندس علاء عبدالعزيز، نائب وزير الإسكان، في اللقاء المشار إليه أن المرحلة الأولى من العاصمة الإدارية تضم 485 فيلا فاخرة، (تتكلف في المتوسط 1500 مليون جنيه)، علاوة على مد المدينة بكافة المرافق من المياه والكهرباء والطرق وغيرها، فمن أين يأتون بالأموال المطلوبة؟
هل يتم تمويل العاصمة الإدارية الجديدة من ميزانية الدولة؟
تغيير لافت حدث في ميزانية الدولة المصرية يؤشر إلى أن الأموال التي تضخ في العاصمة الجديدة تأتي من ميزانية الدولة، حسبما يرى خبراء.
فإذا توقفنا عند الاعتمادات المالية الواردة في الباب السادس بالموازنة العامة للدولة (الاستثمارات)، نجدها قد تزايدت خلال السنتين الأخيرتين بصورة ملحوظة على النحو التالي:
السنة – اعتمادات الباب السادس (الاستثمارات) بالمليار جنيه
2012/2013 – 39.5
2013/2014 – 52.9
2014/2015 – 61.8
2015/2016 – 69.3
2016/ 2017 – 146.7
2017/2018 – 135.4
وتتوزع هذه الاستثمارات بين الأصول الثابتة التي تشكل في المتوسط ما بين 72% و94% من إجمالي الاستثمارات، وأهمها المباني السكنية، والمباني غير السكنية، والتشييدات، والعدد والأدوات.
وكذلك الأصول غير المنتجة ومنها شراء الأراضي واستصلاحها، وتشكل في المتوسط بين 1.2% و4.7% من إجمالي الاستثمارات في الموازنة، وهى أيضاً تُستخدم في شراء الأراضي، كما أشرنا.
أما النوع الثالث من الاستثمارات فهي الأصول غير المالية، وتتمثل في الدفعات المقدمة والبعثات، والأبحاث والدراسات للمشروعات الاستثمارية، وقد انخفض نصيبها في الاستثمارات من 25% عام 2013/2014، إلى أقل من 5% عام 2017/2018.
بناء على هذه الزيادة الكبيرة، يرى د. عبدالخالق فاروق أن "معظم الاستثمارات الواردة في الموازنة العامة للدولة ستذهب مباشرة إلى مشروعات العاصمة الإدارية وغيرها، هذا بالإضافة إلى الأموال التي ستأتي للعاصمة من موازنة هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة".
ومن ثَم، فإن الحديث حول أن هذا المشروع لا يموَّل من أموال الموازنة العامة للدولة يفتقر إلى الصدق والدقة، حسب فاروق.
ومن جانب آخر، فإن قرار رئيس الجمهورية رقم (57) لسنة 2016، يعنى نقل أصول من أراضي الدولة إلى القوات المسلحة قدرها 68.3 مليار جنيه، كحصة في رأسمال الشركة المساهمة التي أُنشئت، وتظل مبيعات العقارات في هذه العاصمة الإدارية مكسباً صافياً للقوات المسلحة، وللشركات العقارية العاملة في المشروعات، والتي لا تقل عن تريليون جنيه، لن تدخل منها للخزانة العامة جنيه واحد.
والسؤال الآن: بِكَم اشترت هذه الشركة تلك الأراضي؟
وفق مصدر عقاري على صلة بالعمل مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة قال لـ "عربي بوست": "هناك خدعة كبيرة تقوم بها الحكومة ممثلة في "شركة العاصمة الادارية"، فهي قد اشترت هذه الأراضي من الدولة بأسعار زهيدة جداً، وبقيمة تختلف كلياً عن سعرها بعد توصيل المرافق إليها".
وكما قال المصدر: "يتم بناء هذه المدن من مصدرين: الأول، ناتج بيع الأراضي الجديدة (الصحراوية) للمستثمرين، وهذا لا يدخل في ميزانية الدولة؛ لأن قيمة تلك الأراضي قبل ترفيقها لا تدخل في ميزانية الدولة من الأساس.
أما المصدر الثاني فهو أرباح صناديق الاستثمار الخاصة بالنقابات والبنوك؛ لأنها تعتبر استثمارات خاصة بتلك المنشآت وليست داخل ميزانية الدولة؛ لأن كل صندوق ينشأ بقانون خاص".
في المقابل، فإن العميد خالد الحسينى، المتحدث باسم العاصمة الإدارية الجديدة، أكد في تصريحات له أن "الدولة لم تدفع مليماً واحداً للعاصمة الإدارية الجديدة"، لافتاً إلى أن العاصمة تمويلها ذاتي، وطبقاً للقانون فإن شركة العاصمة الإدارية تولت شراء المشروع من الدولة، وبدأت أعمال المرافق وقسمت وخططت من خلال أكبر الاستشاريين في العالم.
وأضاف الحسيني أن "حصيلة بيع الأراضي بالعاصمة الإدارية يتم استخدامها في الصرف على المرافق المختلفة بالعاصمة".
وهذا يعني أنه لا يدخل شيء من حصيلة البيع لهذه الأراضي إلى خزانة الدولة.
وتابع: "شركة العاصمة الإدارية تتولى بيع الأراضي التي تختلف أسعارها طبقاً للنشاط؛ فالسكني يختلف عن الإداري والتعليمي والطبي".