"الملك بيبي"، هذا ما وصفت به قصة غلاف أحد أعداد مجلة Time الأمريكية، بنيامين نتنياهو، في يوليو/تموز 2012. وصفٌ يحب هو ومؤيدوه اقتباسه، وكثيراً ما يفعلون. فاز نتنياهو بالانتخابات بعد ذلك في دورتين حاميتين متعاقبتين، في عامي 2013 و2015، مُعزِّزاً الانطباع السائد عالمياً عنه –ولاسيما في إسرائيل- بأنه سيبقى في منصبه ما دام أراد ذلك، تماماً مثل "ملك".
أما الآن، وبعد جولتي انتخاب متتاليتين أُقيمتا هذا العام، يبدو نتنياهو إلى حد كبير كملكٍ خسر مملكته، ولجأ إلى قصره محتمياً بالمتاريس، بدلاً من الاعتراف بالهزيمة.
يقول ميرون رابوبورت، وهو صحفي إسرائيلي يكتب بموقع Middle East Eye البريطاني، إن "مركزية" نتنياهو في السياسة الإسرائيلية، والتي تضخمت بشكل هائل بعد عقد دون انقطاع من حكمه، جعلت سؤالاً واحداً يطرح الآن: "نتنياهو، نعم أم لا؟"، هو القضية المحورية لدورتي الانتخابات اللتين أقيمتا هذا العام، يجيب رابوبورت على ذلك في هذا التقرير.
الحاكم الذي خسر مملكته
في الانتخابات الأولى التي جرت في أبريل/نيسان الماضي، خطا نتنياهو إلى الانتخابات تحيطه هالة السياسي الذي لا يُقهر، يحظى بدعم معسكر سياسي يميني موحد حوله. صورته وسائل الإعلام الإسرائيلية زعيماً عالمياً نجح في التحالف ليس فقط مع أكثر رئيس أمريكي داعم لإسرائيل على الإطلاق، دونالد ترامب، بل وأيضاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس البرازيلي الذي كان انتخب مؤخراً، جايير بولسونارو، علاوة على قادة دول أوروبا الشرقية مثل المجر وبولندا. باختصارٍ، بدا فوز نتنياهو بالانتخابات مؤكداً.
لكن لم يكن هذا ما حدث. صحيح أن نتنياهو احتفل بالفوز عشية الانتخابات في أبريل/نيسان، لكن الاحتفالات كانت سابقة لأوانها، فالكتلة اليمينية التي يقودها انخفض عدد مقاعدها من 67 في 2015 لتصبح 65 في أبريل/نيسان 2019 من أصل 120 مقعداً، غير أن الأهم من ذلك أن الكتلة خسرت تماسكها ووحدتها.
كلُّ شيءٍ ينهار
طالَبَ أفيغدور ليبرمان، السياسي اليميني المتشدد الذي يرأس حزب "إسرائيل بيتنا" ويشكل مهاجرون علمانيون من الاتحاد السوفييتي السابق معظم كتلته التصويتية، بأن يتخلص نتنياهو من الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة في ائتلافه اليميني.
ومن دون ليبرمان، لم يكن من الممكن لنتنياهو أن يحقق الأغلبية التي يحتاج إليها في الكنيست. ومع ذلك، رفض الاستسلام لليبرمان، جزئياً، لأن أحزاب الحريديم الدينية المتشددة حصلت على 16 مقعداً، أي ربع عدد المقاعد التي تشغلها كتلته اليمينية.
في المقابل، لجأ نتنياهو إلى حلِّ البرلمان، ودعا إلى انتخابات جديدة في غضون خمسة أشهر. وكانت تلك أقصر فترة برلمانية في تاريخ إسرائيل، وعلامة واضحة على حالة عدم استقرار سياسي تشهدها البلاد.
من الواضح أن نتنياهو كان يعتقد أنه في انتخابات سبتمبر/أيلول، ستحصل الكتلة اليمينية التي يتزعمها على أغلبية في الكنيست، حتى من دون ليبرمان. وكان لديه سبب وجيه لافتراض ذلك.
فقد شهدت انتخابات أبريل/نيسان، حصول حزبين ينتميان إلى أقصى اليمين، هما حزب "اليمين الجديد" بقيادة نفتالي بينيت وآيليت شاكيد وحزب "زيهوت" بقيادة موشيه فيجلين، معاً على نحو 250 ألف صوت، غير أنهم فشلوا في تجاوز عتبة الدخول إلى الكنيست البالغة 3.25% من مجموع الأصوات المدلى بها. ولما كان الحزبان قد قرّرا عدم الترشح بشكل مستقل في انتخابات سبتمبر/أيلول، ظنَّ نتنياهو على ما يبدو أن معظم أصوات الحزبين ستذهب إلى الأحزاب اليمينية الأخرى، وهو ما يضمن لنتنياهو تشكيل حكومة جديدة.
لكن لا، ما حدث كان عكس ذلك تماماً. فعلى الرغم من أن حزب الليكود بزعامة نتنياهو ابتلع الحزبين الصغيرين (حزب زيهوت، وحزب "كولانو" (كلنا) بقيادة موشيه كحلون)، فإن الناخبين لم يمنحوا الحزب سوى 32 مقعداً هذه المرة، وليس 35. وانخفض دعم الأحزاب اليمينية التي تدعم نتنياهو عموماً من 60 إلى 55 مقعداً.
وبعد حملةٍ تضمَّنَت هجوماً مباشراً على نتنياهو، وخاصة على شركائه من أحزاب الحريديم وحتى على شركائه الأكثر اعتدالاً، تمكَّن ليبرمان من مضاعفة عدد مقاعده في هذه الدورة.
لا احتفالات هذه المرة بمعسكر نتنياهو
تحالف "أزرق أبيض"، وهو ليس حزباً كبيراً، بل ائتلافاً فضفاضاً لأحزاب موجودة ومجموعات مؤقتة، يتقاسم قادتها (معظمهم جنرالات) أساساً الرغبة في رؤية نتنياهو مخلوعاً من منصبه، غير أنه تمكن من مواجهة كل الآراء التي تنبأت بفشله، وتمكَّن من الحفاظ على قوته.
أما المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل/عرب 48، الذين ارتفعت نسبة المشاركين منهم في الانتخاب هذه المرة، فصوّتوا على وجه الحصر تقريباً لصالح تحالف "القائمة المشتركة" (أحزاب عربية في معظمها)، مانحين التحالف 13 مقعداً، وهي زيادة بمقدار الثلث على عدد المقاعد الذي حققته الأحزاب المشاركة في ذلك التحالف، في انتخابات أبريل/نيسان الماضي.
ولذلك لم تكن ثمة احتفالات هذه المرة في معسكر نتنياهو، حتى إن أنصاره الأخلص رأوا بوضوح أنه خسر.
في ظروف عادية، وبما أنه لا نتنياهو ولا خصمه غانتس حصلا على الأغلبية الكافية في الكنيست، كان المفترض أن يكون لدى إسرائيل حكومة ائتلافية بقيادة غانتس.
إذ حصل ائتلاف أزرق أبيض بقيادة غانتس على عدد أكبر من مقاعد الكنيست، بلغ 33 مقعداً، مقابل 32 مقعداً لحزب الليكود. علاوة على أن الكتلة التي يتزعمها تحالف أزرق أبيض، التي تضم "حزب العمل" و "الاتحاد الديمقراطي" و "القائمة المشتركة"، تأبى العمل تحت قيادة نتنياهو، وهي في الوقت ذاته أكبر من الكتلة التي تدعم نتنياهو، فلديها 57 مقعداً مقابل 55 مقعداً لكتلة نتنياهو.
لكن هذه ليست ظروفاً طبيعية، لسبب واحد في الأساس: هو الوضع القانوني لنتنياهو.
فوضى قانونية تحيط بنتنياهو
كان المدَّعي العام الإسرائيلي قد أعلن قراره بتوجيه الاتهام إلى نتنياهو، حتى قبل انتخابات أبريل/نيسان الماضي، متيحاً له جلسات استماع لتقديم دفوع قانونية، في ثلاث قضايا مختلفة تتعلق بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. وفي حين أن جلسات الاستماع تجري حالياً فإن هناك شبه إجماع بين معلّقين قانونيين على أن لوائح الاتهام في تلك القضايا ستُقدّم في نهاية المطاف، حتى وإن كان ذلك بتهمٍ مخفضة وفي عدد أقل من ثلاث قضايا.
ومن الغريب أن القانون الإسرائيلي يشترط أن يستقيل أي وزير متهم في الحكومة، من منصبه، لكنه لا يتطلب الأمر نفسه من رئيس الوزراء.
ويمكن نظرياً تقديم رئيس وزراء إسرائيلي للمحاكمة، وإدانته، وحتى إرساله إلى السجن، مع بقائه رئيساً للوزراء. وفقط بعد أن يخسر استئنافاً لاحقاً على الحكم، يتعين إقالته من منصبه.
كان نتنياهو قبل انتخابات أبريل/نيسان، وحتى قبل تصويت سبتمبر/أيلول، يعتقد أنه في حال فازت الكتلة اليمينية التي يتزعمها بأغلبية في الكنيست، فلن يحتاج إلى الاستقالة، وحينها يمكنه التعامل مع مشاكله القانونية مع بقائه رئيس الوزراء.
لكن إخفاقاته في انتخابات أبريل/نيسان وانتخابات سبتمبر/أيلول، جعلت هذا السيناريو مستبعداً للغاية. والآن، لكي يبقى نتنياهو رئيساً للوزراء ويتجنب إقصاءه عن منصبه وربما الدعاوى القضائية أيضاً، هناك احتمالان.
الأول، أن يحاول تأمين أن يشغل منصب رئيس الوزراء في البداية في صفقة تناوب مع تحالف أزرق أبيض. أو الاحتمال الآخر، أن يعلن عن جولة ثالثة من الانتخابات على أمل أن يكون الحظ هذه المرة إلى جانبه، ويفوز بالانتخابات.
غير أن كلا الاحتمالين يبدو ضعيفاً إلى حد ما، إذ بنى تحالف أزرق أبيض حملته الانتخابية على تعهد منه بعدم الانضمام إلى حكومة يرأسها نتنياهو، إذا وجهت له تهمة. لذلك من الصعب تخيل أن يوافقوا على أن يكون نتنياهو أول رئيس وزراء في حكومة ائتلافية تضمهم.
وفيما يتعلق بجولة انتخابات ثالثة، تبرز مشاكل نتنياهو القانونية عائقاً هنا. فجولة الانتخابات الثالثة، في حال إجرائها، ستكون في فبراير/شباط أو مارس/آذار من عام 2020، وفي غضون تلك الفترة، من المحتمل أن يتأكد توجيه الاتهام إلى نتنياهو.
ويخشى كثير من الشخصيات البارزة في الليكود من أن يسار الوسط في مثل هذه الحالة، سيتمكن من جمع الأغلبية، ليجد الليكود نفسه في المعارضة. وتقول آخر استطلاعات الرأي العام الشيء نفسه، إذ يلقي معظم الناس باللوم على نتنياهو شخصياً في الأزمة السياسية الحالية، ويطالبونه بالاستقالة إذا تأكّد توجيه الاتهام إليه.
وكلما اقتربنا من موعد إجراء انتخابات ثالثة، زاد احتمال تخلي حزب الليكود، وربما أحزاب الحريديم، عن نتنياهو، وإبرام اتفاق مع تحالف أزرق أبيض، من خلف ظهره. وتبدو صورة ملكٍ يخسر مملكته أنسب ما تكون هاهنا بشكل خاص.
نقطة اللاعودة
لكن المشكلة أكثر من أن تكون مشكلة شخصية؛ فما حدث في انتخابات عام 2019 يبين لنا أن اليمين، الذي كان يبدو ملتفاً للغاية حول نتنياهو، آخذٌ في التمزق.
لن يقبل ليبرمان، الذي كما يُلاحظ، يمثل المهاجرين العلمانيين من الاتحاد السوفياتي السابق، احتكاراً دينياً مستمراً، تمنحه الحكومات اليمينية للأرثوذكس المتطرفين والأرثوذكس إزاء قانون الزواج والطلاق، والنقل العام في يوم السبت، وحقوق مجتمع الميم وما إلى ذلك. بدون المهاجرين الروس، ليس لليمين أغلبية.
وفيما يتعلق بالفلسطينيين، فإن الخط السياسي لنتنياهو منذ عقد هو الحفاظ على الوضع الراهن؛ الحفاظ على الاحتلال وتوسيع المستوطنات، ولكن دون اللجوء إلى خطوات كبيرة مثل الضم الرسمي لأجزاء من الضفة الغربية، حتى لا يخلق لإسرائيل مشاكل دولياً أو حتى محلياً.
في الشهرين الأخيرين من ولايته الحالية، إذ أصبح يعتمد بشكل متزايد على الدعم من اليمين المتطرف، تبنى نتنياهو فجأة المحادثات بشأن الضم ووعد بضم مساحات شاسعة من الضفة الغربية.
رغم أنه من الصعب إثبات أن هذا هو ما دفع مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى عدم التصويت لصالح نتنياهو في سبتمبر/أيلول، إلا أن من الواضح أن ذلك لم يساعده. من الواضح أن الجمهور اليهودي الإسرائيلي يفضل الوضع الراهن على الضم.
وضع نتنياهو ليست مشرقاً على المستوى الدولي أيضاً
المشاكل الداخلية لترامب من ناحية والطريقة التي تخلى بها عن الأكراد في سوريا، واستعداده الواضح للتوصل إلى اتفاق متجدد مع إيران من ناحية أخرى، سحبت، إلى حدٍّ ما، البساط من تحت قدميّ نتنياهو فيما يتعلق بالعديد من سياساته الرئيسية.
ليس الأمر صدفة، فبعد أن وصف وضع إسرائيل خلال الحملة الانتخابية بأنه أفضل ما كان عليه، حذر نتنياهو، لأن الكنيست الجديد كان يؤدي اليمين الدستورية في الأسبوع الماضي آنذاك، من أن إسرائيل تواجه "تحدياً أمنياً هائلاً" من إيران وحلفائها في الشرق الأوسط.
بمعنى آخر، حتى لو تمكن نتنياهو بطريقة ما من البقاء في السلطة خلال عام 2020 أو حتى لفترة أطول، من الصعب أن نرى كيف سيمكنه الحفاظ على الاستقرار السياسي والدبلوماسي الذي تمتعت به إدارته خلال العقد الماضي.
"بارقة أمل"
الشيء الوحيد الذي حققه نتنياهو الآن هو ضَعف المعسكر السياسي المعارض. ربما يكون حزب الأزرق والأبيض قد أظهر قوة احتمال أكثر مما توقعه معظم الخبراء السياسيين، لكن حتى الآن لا يمتلك سياسة واضحة بشأن أي شيء، بدءاً من القضية الفلسطينية إلى الاقتصاد. والأحزاب اليسارية "التقليدية" -حزب العمل والتحالف الديمقراطي- ضعيفة وتمر بتغييرات داخلية.
الحزب السياسي الوحيد الذي يقدم ظهوراً مثمراً اليوم هو القائمة المشتركة. كان المعنى المبطن لقرارها بتفويض جانتز كمرشح لها لتشكيل الحكومة، وهي خطوة جرى تبنيها فقط بعد جدال كبير والمعارضة المستمرة لإحدى قوائم الأحزاب المكونة لها (بالاد)، هو أن الجمهور العربي الفلسطيني في إسرائيل قد قرر أن يصبح لاعباً في الساحة السياسية الإسرائيلية بوجه عام.
أضاع أزرق وأبيض فرصته لاستغلال كرم القائمة المشتركة، ولم يعرب عن أي استعداد رسمي لمتابعتها بأي اتصالات رسمية، لكن الرأي العام الإسرائيلي بدأ يتغير بالفعل.
لأول مرة منذ سنوات عديدة، وربما حتى لأول مرة منذ عام 1948، تقترب بعض شرائح الرأي العام اليهودي في إسرائيل من فهم أن الشراكة السياسية مع الممثلين المنتخبين للدوائر العربية الفلسطينية في إسرائيل لها ما يبررها وضرورية.
أظهر استطلاع حديث للرأي أن المعارضة بين الناخبين اليهود لدخول "الأحزاب العربية" في الحكومة انخفضت من 66% إلى 50%. لم نر حتى الآن ما هو تأثير الثقة بالنفس الذي أبدته القائمة المشتركة والمواطنون العرب في إسرائيل بشكل عام على يسار الوسط برمته.
لكن العراقيل المتزايدة بين نتنياهو واليمين الإسرائيلي، إلى جانب الاتجاهات المتغيرة دولياً وإقليمياً، بالإضافة إلى التحول التدريجي في الوعي بين يسار وسط البلاد، تفسح المجال لبارقة أمل. بعد عقد من حكم "الملك بيبي".