جاء فوز قيس سعيد بفوزه برئاسة تونس على منافسه المثير للجدل نبيل القروي ليعيد الأمل في ترسيخ التجربة الديمقراطية التونسية، ولكن الواقع أن طريق قيس سعيد مليء بتحديات كبيرة.
فرغم الفوز الكبير الذي حققه سعيد على منافسه، يجب ملاحظة أن الفارق الهائل في النسبة بين الرجلين جاء بسبب شخصية نبيل القروي المسجون على ذمة قضايا فساد وغسيل أموال.
وبالتالي فإن فوز سعيد جاء في جزء منه نتيجة موقف ناخبين رفضوا أن يعطوا أصواتهم لشخصية مريبة كنبيل القروي، ولكنهم ليسوا بالضرورة مؤيدين لقيس سعيد إن لم يكن الكثير منهم متحفظين عليه.
بادئ ذي بدء فإنه رغم الاهتمام البالغ الذي أحيط بالانتخابات التونسية يجب ملاحظة أن النظام السياسي التونسي أقرب للنظام البرلماني، وبالتالي فإن سلطات رئيس الجمهورية محدودة وتتعلق بالفصل بين السلطات وقضايا الأمن القومي.
ومن هنا قد تأتي أكبر مشاكل قيس سعيد فأستاذ القانون الدستوري يجاهر برغبته في تغيير النظام السياسي التونسي لتقوية صلاحيات الرئيس وزيادة سلطات الحكم المحلي.
وبصرف النظر عن مدى صحة هذا التوجه، فإنه لا يستطيع ممارسته دون الاتفاق مع الأحزاب التي تسيطر على البرلمان والتي في الأغلب لن توافق.
وقد تسنح له الفرصة إذا أخفقت هذه الأحزاب في تشكيل الحكومة وتخطت المهلة الدستورية الممنوحة لها وبالتالي يصبح من حقه الدعوة لعقد انتخابات برلمانية أخرى قد تأتي ببرلمان يوافق على أفكاره وهو أمر صعب أيضاً في ظل أن التعديلات الدستورية عادة تحتاج إلى موافقة نسب أكبر من الأغلبية البسيطة.
الأهم أن اعتماد الرجل على نفسه وعلى الشباب الذي أيده بشكل عفوي قد يكون أمراً رومانسياً جلب له تأييد وإعجاب الملايين من التونسيين وعشرات الملايين من العرب.
ولكن يظل غياب ظهير حزبي يؤيد الرجل من نقاط ضعفه.
فرغم أن هناك حالة من كراهية الأحزاب في تونس والعديد من الدول العربية، إلا أنه تظل الأحزاب والعمل المؤسسي هي الوسيلة الأكثر فعالية في العمل السياسي وليس الفرد.
خطاب الثورة قد ينقلب عليه
واحدة من أكبر المعضلات التي سيواجهها قيس سعيد هي المواجهة بين الثورة والدولة، بين مكافحة الفساد والاقتصاد.
إذ تعاني البلاد من أزمة اقتصادية زادت جراء الخلافات السياسية وكثرة الاضطرابات وشبح الإرهاب الذي يطل كل فترة.
ومعالجة هذه الأزمة مسألة شديدة التعقيد.
فرغم أن مكافحة الفساد على المدى البعيد مفيدة اقتصادياً، إلا أنها على المدى القريب تؤدي إلى إخافة الرأسمال المحلي الموجود في الأغلب لدى رجال مقربين أو محسوبين على النظام السابق.
وبالتالي فإن إجراءات مكافحة الفساد تؤدي إلى سحب رجال الأعمال لأموالهم من السوق وتؤثر على الوضع الاقتصادي، ناهيك عن احتمال قيامهم بمحاولة التآمر على الدولة من أجل عرقلة محاسبتهم.
وفي المقابل، فإن الاحتجاجات والإضرابات والتي من يقوم بها غالباً هم ممن أعطوا أصواتهم لقيس سعيد، تؤدي إلى تخويف رأسمال لاسيما الأجنبي وتمنعه من الاستثمار في تونس.
وتونس في أشد الحاجة إلى مثل هذه الاستثمارات، التي لن تأتي بدون استقرار سياسي واقتصادي وتوازن مالي يطمئن أصحاب رأس المال.
كما أن بعض الإجراءات اقتصادية الملحة التي يجب اتخاذها مثل تقليل العجز في الموازنة ورفع أسعار الوقود تخالف الخطاب الاجتماعي الذي جذب الفقراء لأستاذ القانون الدستوري التونسي.
وبالتالي فإن الفقراء والنشطاء الذين انتخبوا قيس سعيد قد يكونون أول من ينقلبون عليه.
فهو إذا رفض الاحتجاجات سيبدو وكأنه يتخلى عنهم، وإن تركها فإن هذا يضعف الاقتصاد، الأمر الذي سيدفع ثمنه الفقراء.
قيس سعيد والدولة العميقة، من يقضي على الآخر؟
ولكن تظل المشكلة الأكثر أهمية هي نظرة الدولة العميقة لقيس سعيد
تعاملت الدولة العميقة التونسية مكرهة مع حركة النهضة، نتيجة براغماتية الأخيرة وعدم ميلها للمواجهة.
ولكن قيس سعيد يبدو مختلفاً.
وحتى لو لم يدخل في مواجهة مع هذه الدولة العميقة فإنه سيظل يشعرها بالقلق.
ولا يؤمن جانب الدولة العميقة التي قد تفضل المبادرة بالقيام بهجمة مضادة على قيس سعيد.
قد يدفع ثمن ولائه للربيع العربي
وأكثر ما أثار الإعجاب الشعبي العربي في خطاب قيس سعيد قد يكون أكبر مشاكله.
فخطاب قيس سعيد المؤكد على استقلالية تونس والحفاظ على روح الثورة وموقفه المؤيد لفلسطين ورغم أنه أثار إعجاب خصومه قبل مؤيديه إلا أنه أيضاً من المتوقع أن يستنفر الدول العربية الثلاث التي تقود التحالف المناهض للربيع العربي، كما أنه سيقلق الدول الغربية المعنية بالشأن التونسي، وفي مقدمتها فرنسا.
ويبدو موقف قيس سعيد من الأزمة في ليبيا التي عبر عن رغبته في زيارتها مثيراً لقلق الثلاثي العربي.
فحفتر هو أحد أهم مشروعات الثلاثي العربي وقد تم ضخ استثمارات كبيرة فيه لكي يقضي على التجربة الثورية ويكون رأس حربة للثورة المضادة في المغرب العربي.
وقد يفتح موقف قيس سعيد ذلك الباب للإمارات والسعودية لمزيد من التدخل في الشأن التونسي لخلق مشاكل للرئيس الجديد.
وهناك اتهامات وجهها وزير الخارجية التونسية الأسبق، القيادي في حركة "النهضة" رفيق عبدالسلام لدولة الإمارات بأنها هي من تكفلت بدفع مليون دولار لشركة علاقات عامة أمريكية لتحسين صورة المرشح للرئاسيات التونسية نبيل القروي.
خطة السعودية والإمارات المتوقعة.. الاستفادة من ثغرات الديمقراطية
وقد أثبتت الإمارات والسعودية قدرة فائقة في الحالة المصرية على الاستفادة من الديمقراطية بل والفوضى التي صاحبت ثورة يناير للتسلل لطعنها من الخلف.
وقد يكون هذا أكبر مشكلات تونس في الفترة القادمة، إذ إنه ستتم محاولة تكرار السيناريو المصري عبر اختراق الإعلام والأحزاب ورجال الأعمال لتحريضهم ضد الثورة.
في المقابل، فإنه في ظل جو الديمقراطية فإن اتخاذ مواقف ضد هذه التدخلات ليس سهلاً.
وهناك حاجة للفصل بين تحركات السلطة لحماية أمن البلاد القومي وبين التحركات الرامية لتقوية موقفها السياسي في مواجهة خصومهم.
إن أستاذ القانون الدستوري الذي ينظر له على أنه رمز للنزاهة قد يكون لديه ما يقدمه في هذا الشأن.
إن الطابع الحازم لقيس سعيد في مواجهة خصومه الداخليين والخارجيين نتائجه حمالة أوجه.
فالخطاب الصارم سيستنفر هؤلاء الخصوم عاجلاً أما آجلاً.
أما نتيجة المواجهة مع هؤلاء الخصوم، فلن يحددها الخطاب، بل العمل على الأرض، وقدرة قيس سعيد على ترجمة وعوده والتصدي للمؤامرات التي تنسج وستنسج ضد تونس قبل وبعد توليه الحكم.