عندما اجتاح تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) مدينة الموصل العراقية عام 2014، لم تكن حياة الناس هي الشيء الوحيد المعرض للخطر، بل كانت المعرفة أيضاً في خطر.
أدرك أمين الجليلي هذا لحُسن الحظ، وقد استخدم شبكة الواي فاي الخاصة بأحد أصدقائه لنقل مجموعة ضخمة من ملفات ويكيبيديا للاستخدام في وضع عدم الاتصال بالإنترنت. وعندما قطعت ميليشيات التنظيم خطوط الإنترنت في يوليو/تموز 2016، كان الجليلي مستعداً.
يقول الجليلي لصحيفة The Guardian البريطانية: "القراءة تمنحني الشعور بأنني لا أزال إنساناً، خاصة في ظل العيش تحت حكم داعش، لأن المعرفة لا حدود لها"، ويضيف: "حتى تحت القصف الجوي، اعتدتُ أن أرتدي سماعات الأذن، وأستمع إلى الموسيقى وأنا أقرأ".
حرب المعرفة
حمَّل الجليلي الملفات باللغة الإنجليزية؛ لأن العربية غير مُمثلة بالقدر الكافي على الإنترنت. والآن، وقد تحررت المدينة من داعش، ينوي هو وفريق من طلبة الترجمة في جامعة الموصل، أن يصححوا هذا الاختلال.
إذ يكتبون معاً صفحات على ويكيبيديا ومقالاتٍ أكاديمية وأعمالاً أصلية تغطي العلوم والأدب والفلسفة، متاحة لمتحدثي اللغة العربية، وذلك في محاولةٍ منهم لمواجهة الأكاذيب بالمنطق وتحدي الدعاية والأخبار الزائفة ومقاومتها عن طريق التفكير النقدي.
يبلغ المحتوى العربي على شبكة الإنترنت 0.6% فقط من الإجمالي، وذلك على الرغم من كونها اللغة الرابعة الأكثر شيوعاً بين مستخدمي الإنترنت. وتخطط منظمة أفكار بلا حدود (Ideas Beyond Borders) IBB، التي تقف خلف مشروع House of Wisdom 2.0، لتضييق هذه الفجوة وإضفاء الديمقراطية على إمكانية الوصول إلى المعلومات في العالم العربي.
ترعرع مؤسس هذه المنظمة، فيصل سعيد المطر، في ظل نظام صدام حسين. يقول المطر البالغ ثمانية وعشرين عاماً: "كان هناك كمّ هائل من التضليل". ويرغب الآن في تسليح الشباب العراقيين والعرب ضد الأنظمة السلطوية والجماعات المتطرفة التي تُخرس الآراء المختلفة وتسمح بازدهار العنف.
"أفكار بلا حدود"
أضافت المنظمة حتى هذه اللحظة أكثر من مليونين و100 ألف كلمة في موقع ويكيبيديا العربي، بما في ذلك مُدخلات عن عالماتٍ إناث، وعن الحقوق المدنية، والتنوع الديني، ونظريات التطور ونظريات المؤامرة.
وكانت الاستجابة لافتة، فمنذ إطلاقها عام 2017، جذبت منظمة أفكار بلا حدود أكثر من مليون متابع على صفحتها على فيسبوك، وتسجل قنواتها على شبكة الإنترنت أكثر من 40 ألف مشاهدة يومياً. وقد ترجمت كتباً أيضاً، منها كتاب Enlightenment Now لستيفن بينكر، وكتاب Waking Up لسام هاريس.
تتدفق الطلبات على المنظمة، وهي تُضاعف عدد فريقها المكون من 60 مترجماً للعمل مع 6 جامعات أخرى في أنحاء العراق، إلى جانب التفرع إلى الكردية والفارسية. وفي كل أسبوع، ينشر الفريق مقالاً عن عالمة أنثى مختلفة على وسائل التواصل الإجتماعي.
تقول شهد شاهين، 25 سنة، التي تخرجت مؤخراً بعد تأجيل دراستها عدة سنوات عندما أغلق تنظيم داعش المدارس والجامعات في الموصل: "من المهم أن نزيد من وعي الناس هنا بأن النساء يمكنهن فعل أي شيء".
في ذلك الوقت، كانت شاهين مذعورة للغاية حتى من مغادرة منزلها، لذا بقيت داخله تقرأ مقالاتٍ وكتباً عن العلوم والفضاء حملتها على هاتفها، تقول: "كانت لديّ كتبي. عندما كنت أقرأ، كنت أرتحل إلى عالم آخر".
أما مؤمن محمد، الطالب في السنة الثالثة، فيقضي ساعتين يومياً في ترجمة مقال للمشروع. وسوف يتقاضى عن ذلك أجراً صغيراً، لكن المال ليس ما يحفزه.
إذ يقول: "أريد أن أفعل شيئاً نافعاً بوصفي شخصاً من الموصل، وأن أظهر للعالم أن بإمكاننا تحقيق الإنجازات". ويضيف: "ساعدنا المرور بتلك الأوقات العصيبة على إدراك العالم بشكل أفضل، والبحث عن طرق لتحسين معرفتنا".
"بإمكاننا تحقيق الإنجازات"
تُتيح أفكار بلا حدود موادها في صيغة ملفات PDF، ويُمكن تحميلها مجاناً، لكن القراء في الشارع يعثرون على طرقهم الخاصة لنشر الكلمة.
قال المطر: "بدأ الناس يطبعون كتبنا بشكل غير رسمي أو يشاركونها من خلال تطبيق تيليغرام والمنصات الأخرى لتجنب الرقابة".
وأضاف أن ما بدأ مشروعاً للترجمة، يتحول الآن بسرعة إلى حركة شبابية. وأردف المطر قائلاً: "هؤلاء أناس لهم كل الحق في الشعور باليأس -فكل ما عرفوه هو الحرب والدمار- غير أنهم يستيقظون كل صباح ويترجمون مقالاتٍ عن الثقافات والتنوع، لأنهم يريدون أن يكونوا جزءاً من الحل الذي سيجعل بلدهم مكاناً أفضل".