لم ترفض الشعوب العربية، ومنها الشعب العراقي، الديمقراطية كشكل من أشكال نظام الحكم، وإنما ترفض "الديمقراطيات الشكلية" وتواصل الاحتجاج على أنظمة الحكم التي تمثلها.
وشهدت دول عربية عدة خلال الأشهر الأخيرة موجات جديدة من الاحتجاجات، شملت كلاً من العراق ولبنان ومصر والسودان والجزائر، احتجاجاً على الفساد في منظومة الحكم والقطاع الاقتصادي، وتردي الحالة المعيشية، وعموم النظام السياسي.
موجات من الاحتجاجات تتلوها موجات
وتزايدت أعداد المصريين المطالبين بثورة "ثالثة"، وخرج اللبنانيون احتجاجاً على المشاكل الاقتصادية. فيما خرج العراقيون في "موجة رابعة" من الاحتجاجات خلال السنوات الأربع الأخيرة، في حالة شبيهة بدوافع ثورات الربيع العربي التي انطلقت في 2011 مع اختلافات جمّة في بُنية الحركة الاحتجاجية، سواء الكتلة البشرية أو المطلبية التي لا يبدو أنها تعبر عن جميع المكونات العرقية والطائفية.
بدأت الاحتجاجات "الشيعية" في العراق يوليو/تموز 2015 لأول مرة، واستمرت طيلة السنوات الماضية في بغداد ومعظم محافظات وسط وجنوب البلاد ذات الكثافة "الشيعية" العالية.
وإذا كانت تراكمات عقود طويلة من المعاناة المعيشية والاقتصادية وغياب حرية التعبير في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا، قد أشعلت الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي، فإن ذات المعاناة – إن لم تكن أشد قسوة – عانى ويعاني منها العراقيون منذ حرب الخليج الأولى في ثمانينات القرن الماضي.
العراق لا يتقدّم بل يتراجع
تراجعت مستويات المعيشة والخدمات الصحية والتعليمية في العراق نتيجة عقود من الصراعات الداخلية والخارجية، الحرب مع إيران طيلة عقد الثمانينات، وما تلاها من غزو الكويت وحرب الخليج الثانية، ثم حصار كامل لمدة 13 عاماً انتهى بغزو العراق واحتلاله أمريكياً عام 2003.
وازدادت الأوضاع في العراق تعقيداً منذ الغزو والحرب الأهلية بين عامي 2006 و2008، ثم سيطرة تنظيم "داعش" على أجزاء واسعة من غرب وشمال غربي البلاد في يونيو/حزيران 2014، وحرب التحالف الدولي طيلة أربع سنوات وما نجم عنها من خراب ودمار في معظم المحافظات السنية.
العراق يمتلك رابع أكبر احتياطي استراتيجي للنفط في العالم، بينما يعيش أكثر من 22.5% من سكانه البالغ عددهم نحو 40 مليون نسمة، على أقل من 60 دولاراً شهرياً، وفق بيانات البنك الدولي، فيما تعاني أسرة واحدة من بين 6 من انعدام الأمن الغذائي.
وفي احتجاجات عام 2018 التي نظمها "التيار الصدري" بمشاركة قوى من الحزب الشيوعي وعموم التيار المدني، ظلت المطالب السياسية بعيدة عن اهتمامات المحتجين الذين ركزوا على مكافحة الفساد والبطالة وسوء الخدمات وتراجع مستوى المعيشة.
ما الجديد في الاحتجاجات الأخيرة؟
لم يقدم خطاب رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي حلولاً جذرية لمعالجة الأسباب التي استدعت خروج المحتجين في بغداد والمحافظات الجنوبية، ولا يبدو أن الحكومة قادرة على تلبية مطالب المحتجين، ليس لافتقارها إلى القدرات أو الإمكانيات، وإنما لأسباب تتعلق بسوء إدارة الأزمة رغم أنه لا خلاف على أن عبدالمهدي ورث مشاكل متراكمة خلفتها الحكومات السابقة.
واصطبغت الاحتجاجات بطابع العنف المتبادل بين محتجين يشتبكون مع القوات الأمنية ويحرقون بعض الممتلكات العامة ومقرات الحزبية، وقوات أمنية تطلق نيرانها الحيّة على المحتجين والقنابل الصوتية والدخانية، وتقارير متداولة عن عمليات قنص ينفذها عناصر من فصائل الحشد الشعبي وسط بغداد.
المعالجة الأمنية للاحتجاجات باستخدام القوة المفرطة أدت إلى تفاقم الأزمة وبلوغها طريقاً مسدوداً في التوفيق بين إرادة الحكومة على الإصلاح الحقيقي، ومطالب المحتجين الذين ارتفع سقف مطالبهم.
غضب ضد أدوات إيران في العراق
تصاعدت مطالب المحتجين إلى إسقاط الحكومة وإلغاء الدستور والذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة، ورغم الشعارات التي رفعها المحتجون والهتافات التي أطلقوها طيلة الأيام الماضية بإخراج إيران من العراق، فإن اليقين بمناهضة هؤلاء لطهران لا يزال في طور التكوين ولم يتبلور بعد.
ولذلك، فإن غضب المحتجين على إيران قد يكون ناجماً عن غضبهم الحقيقي على القوى الحليفة لطهران في الحكومة المركزية ومجلس النواب والحشد الشعبي والمنظومة الدينية.
وإضافة إلى المطالبة بإسقاط الحكومة، برزت في الاحتجاجات الراهنة مطالب بإجراء تغيير في كامل نظام الحكم، والانتقال عبر استفتاء شعبي من النظام البرلماني المعمول به إلى النظام الرئاسي بانتخابات عامة تشرف عليها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ذات الصلة.
العراق بلد مركزي من بلدان الشرق الأوسط بالنسبة لسياسات الولايات المتحدة والدول الإقليمية، مثل السعودية وإيران وإسرائيل وغيرها.
ومنذ تصاعد التوتر قبل أشهر بين الولايات المتحدة وإيران، وجد العراق نفسه في دائرة الصراع بين البلدين، وعرضةً لأن تتحول أراضيه إلى ساحة صراع مفتوح بين الدولتين.
فحاول العراق موازنة موقفه مع الولايات المتحدة التي يستضيف الآلاف من جنودها ويرتبط معها باتفاقية أمنية، وإيران الدولة الحليفة التي تساند حكومة بغداد التي تهيمن عليها قوى سياسية ومسلحة حليفة لطهران.
هل توصيف "ربيع عربي" ينطبق على احتجاجات العراق؟
قد تثير احتجاجات العراق قلق الكثير من الدول العربية التي تخشى انتقال ثورات الربيع العربي إليها، رغم أن ما يجري في العراق لا يزال بعيد جداً عن توصيف "الربيع العربي".
وفي معظم دول "الربيع العربي" لجأت تلك الأنظمة إلى إجراءات قمعية باستخدام القوة "المفرطة" من قبل الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية ضد المحتجين، والتضييق عليهم بإغلاق الطرق الرئيسية المؤدية إلى مناطق الاحتشاد المألوفة، وقطع الاتصالات أو حجب وسائل التواصل الاجتماعي.
بالإضافة إلى إعلان حالة التأهب القصوى في صفوف القوات الأمنية أو إعلان حالة الطوارئ، وفرض حظر التجوال في المدن الكبرى، وهو ما حدث في العراق أيضاً مع المحتجين حالياً.
وكما في أي حركة احتجاجية شهدتها المنطقة العربية بعد عام 2011، كانت الدول والمنظمات الدولية تكتفي بإدانة القمع الحكومي للمحتجين والتعبير عن القلق دون اتخاذ إجراءات ضد المسؤولين عن تلك الحملات، سواء في مصر أو سوريا أو العراق.
قد تجد دول عربية؛ السعودية والإمارات، وأطراف إقليمية؛ إسرائيل، في الاحتجاجات الراهنة فرصة لدعم التيار الشيعي المناهض لإيران، في سياق استراتيجيات بعيدة تهدف إلى كبح جماح النفوذ الإيراني والقوات الحليفة لها في العراق، ودول أخرى مثل لبنان وسوريا واليمن.