في وسط الحراك السياسي المتصاعد بمصر في الأيام الأخيرة، بداية من فيديوهات الفنان والمقاول المصري الهارب بإسبانيا محمد علي، وصولاً إلى المظاهرات التي اجتاحت عدة محافظات في مصر وبعض العواصم الغربية، للمطالبة برحيل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي- ظل هناك سؤال يتردد في أذهان البعض دون أن يجد إجابة شافية.
السؤال هو: ماذا عن موقف الأقباط في مصر من السيسى؟ وهل لا يزال يحظى بدعمهم الكامل مثلما كان منذ أن تولى السلطة في مصر صيف عام 2014؟ وهل هذا التباين في الموقف القبطي الداعم للرئيس المصري، نتيجة لانشقاق اللُّحمة القبطية أم هو مقدمة لها؟!
بداية، كان من اللافت تعمُّد المقاول المصري محمد علي، الذي بات حديث العالم، تجنُّب الحديث عن الأقباط نهائياً سواء بخير أو بشر، حتى تغيَّر الحال كلياً في 25 سبتمبر/أيلول، حين خصص فيديو كاملاً للحديث عن الأقباط، اتهم فيه السيسي بالوقوف وراء تفجير الكنائس في مصر، من أجل الترويج لمساعيه لمحاربة الإرهاب، ورغبته في الحصول على الدعم المالي لحماية الأقباط بمصر.
سبقت هذا الفيديو وتلته عدة فيديوهات لأقباط مصريين يعلنون من خلالها انضمامهم إلى الاحتجاجات على حكم الرئيس المصري ويطالبونه برحيله، بعدما نكث بوعوده الكثيرة لهم منذ توليه منصبه الرئاسي.
والتقطت الكاميرات صوراً لوقفة احتجاجية بنيويورك ضد الرئيس المصري أمام كنيسة أمريكية مقابِلة لمقر إقامته، ترفع لافتة مكتوباً عليها Jesus (يسوع).
علاقة متباينة
أيُّ محاولة لفهم أهمية الدعم القبطي للرئيس عبدالفتاح السيسي -كما يقول مفكر وكاتب قبطي بارز رفض ذكر اسمه؛ خوفاً على سلامته الشخصية- يجب أن تبدأ أولاً بفهم تأثير الكتلة القبطية في الشارع السياسي المصري، وتقييم أهمية دورها بالانتخابات الرئاسية، والتي تمثل -بحسب تقديره- نحو 10% من إجمالي من لهم حق التصويت في مصر، وثانياً تماسك الكتلة التصويتية المسيحية بدرجة كبيرة، وهو ما يجعل الرهان عليها أمراً حاسماً لأي مرشح.
متى بدأت العلاقة مع السيسي؟
بدأت علاقة السيسي بالأقباط عقب ثورة 30 يونيو/حزيران التي قام خلالها السيسي بعزل الرئيس الراحل ذي التوجه الإسلامي محمد مرسي.
في ذلك الوقت أصبح السيسي بطلاً قومياً في عيون الأقباط، الذين كانوا يواجهون مخاوف عميقة طوال العام الذي استمر فيه حُكم محمد مرسي، من انتكاسة في حقوقهم كمواطنين متساوين مع الأغلبية المسلمة، خصوصاً مع تكثيف ظهور الوجوه المنتمية إلى التيار الاسلامي المتشدد في الفضائيات والحياة السياسية بمصر.
ويوضح المفكر القبطي أنه بعد نجاح السيسي في إزاحة الرئيس مرسي أطلق مجموعة وعود، ليضمن تأييد الأقباط؛ كان أبرزها حماية الأقباط، فضلاً عن إصدار قانون جديد عن "بناء دور العبادة الموحد" يرفع القيود عن حرية بناء الكنائس وترميمها، وكان دائماً ما يكرر ذلك في زياراته المتكررة للكنيسة، والمشاركة الدؤوبة في الأعياد القبطية، وهي أمور منحته تأييداً مطلقاً من الأقباط، سواء بشكل رسمي من خلال البابا تواضروس أو شعبياً.
فمتى اهتزت العلاقة بينهما؟
لكن اهتز هذا التأييد على مستوى شعب الكنيسة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2018، فاستمرار التأييد القبطي الرسمي للسيسي لم يكن حائلاً دون وجود تململ في الأوساط المسيحية، بسبب تلكُّؤ الدولة في معالجة المسألة القبطية وتوفير مناخ الأمن لهم والمسارعة بتنفيذ الوعود الرئاسية.
يوضح ناشط وباحث قبطي معنيٌّ بحقوق الإنسان، لـ "عربي بوست"، أن الدعم القبطي لا يزال حاضراً في المشهد السياسي للبلاد، لكنه فقد بعض زخمه القديم، بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تطول الجميع، فأحوال الأقباط ليست على ما يرام، كما لا يزال العنف الطائفي مستمراً وبلغ درجات عالية من الخطورة وامتزج بالإرهاب الذي يضرب البلاد منذ عدة سنوات.
ويشير المصدر ذاته إلى أن الأقباط يسترجعون بين الحين والآخر، المشاهد الدامية التي اعتبروها عقاباً لهم لتأييدهم حُكم السيسي، ووصول الإرهاب إلى داخل الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة في 11 ديسمبر/كانون الأول عَام 2016، في هجوم انتحاري أدى إلى مقتل 29 شخصاً بينهم أطفال، وتوالت بعد ذلك موجات التهجير القسري لهم، وتصاعدت وتيرة العنف والهجمات المسلحة على حافلات يستقلونها، والتي راح ضحيتها ما يقارب 90 قبطياً.
قانون بناء الكنائس خلق بيئة خصبة للفتن الطائفية
ويضيف أن الأمل كان يراود الأقباط بعد قيام ثورتين هدفهما تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، لتحقيق آمالهم ومنها إصدار قانون عادل لبناء الكنائس، إعمالاً لنص الدستور الحالي في مادته 235، ورفع القيود عن بناء كنائس جديدة، لكن صدمهم القانون الحالي "قانون بناء الكنائس"، الذي أقره البرلمان المصري في أغسطس/آب 2016، بما يحمله من قنابل موقوتة تسببت في تفجير كثير من الفتن الطائفية خلال الفترة الأخيرة خاصة في صعيد مصر، فضلاً عن استمرار تعامل الدولة مع قضية بناء الكنائس وتقنين أوضاع غير المرخصة منها، على أنها "ملف أمني".
وقد رصد تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، تحت عنوان "مع إيقاف التنفيذ! عام على لجنة توفيق (تقنين) أوضاع الكنائس"، أن الوضع العام لحق ممارسة الشعائر الدينية للأقباط يتجه إلى مزيد من التدهور، وأن قانون بناء الكنائس فقد الهدف المعلن لصدوره من توفيق أوضاع الكنائس القائمة أو تسهيل عملية بناء أخرى جديدة.
متى بدأ تفتُّت الدعم المسيحي للسيسي؟
اعتبر الباحث أن التوقيت الزمني لإعلان توفيق أوضاع بعض الكنائس بمثابة "الرشوة السياسية"، ويعزز ذلك الاستنتاج بالفترات التي تمت فيها الموافقة على توفيق أوضاع بعض دور العبادة.
فالدفعة الأولى كانت في فبراير/شباط قبل انتخابات الرئاسة 2018، وتم توفيق أوضاع 53 كنيسة ومبنى غير مرخص، لحثّ الأقباط على المشاركة في الانتخابات، والدفعة الثانية في مايو/أيار كانت الأكبر بإجمالي 167 كنيسة ومبنى، واعتبرها البعض مكافأة ما بعد الانتخابات، وبالمثل جاءت قرارات رئيس مجلس الوزراء على خلفية دعم وتأييد زيارة الرئيس المصري قبل الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية.
تلك الأسباب وغيرها كانت سبباً للتفتت المسيحي في دعم السيسي وظهور أصوات قبطية تعارض الرئيس المصري علناً، لأول مرة منذ توليه مهام منصبه قبل 5 سنوات، ولم يشفع للسيسي بناء أكبر كاتدرائية بالشرق الأوسط في العاصمة الإدارية الجديدة أمام عدم تقديم حكومته أي إحصائيات رسمية حول عدد الكنائس في مصر، باعتبارها بيانات تقوم على أبعاد طائفية؛ ينظر مسيحيو مصر إلى الإعلان عن عدد كنائسهم باعتباره مؤشراً لمدى تسامُح أو تعسُّف الدولة في التعامل مع قضية بناء كنائس جديدة.
هذا الفتور دفع وسائل الإعلام المؤيدة للرئيس، أو بالأحرى التي تتلقى تعليماتها من الأجهزة الأمنية التابعة إلى إعادة السيناريو القديم، عبر تخويف الأقباط مما يمكن أن يحدث لهم في حالة رحيل السيسي، وظهرت مساعٍ مكثفة لتذكير الأقباط بما وصفته بـ "جرائم الإخوان" في حقهم قبل ظهور السيسي.
وكان من اللافت تداول الفضائيات والمواقع والصحف مؤخراً صورة قسيس وشيخ في أثناء استقبالهما الرئيس المصري بمطار القاهرة بعد عودته من الولايات المتحدة، لإظهار تأييد المؤسستين الدينيتين ودعمهما للسيسي.
وعددت صحيفة "البوابة نيوز"، التي يرأس تحريرها عبدالرحيم عليّ المقرب من الأجهزة الأمنية في مصر، الكنائس التي قالت إنها تعرضت للحرق على أيدي جماعة الإخوان، والتي بلغت -بحسب ما ذكرته الصحيفة- 65 كنيسة في مختلف المحافظات بالفترة التي تلت انقلاب السيسي على مرسي في 30 يونيو/حزيران 2013.
كما ركزت وسائل إعلامية أخرى على إبراز الإنجازات التي قام بها الرئيس المصري للأقباط مثل قيامه بالإغارة على مقرات تنظيم داعش في ليبيا، بعد انتشار فيديو لأعضائه وهم يذبحون 21 عاملاً قبطياً قبضوا عليهم خلال وجودهم في ليبيا للعمل.
ومنذ أيام، أعلنت الحكومة المصرية عن تقنين دفعة جديدة من الكنائس ودُور العبادة المسيحية، لضمان ولاء كتلة الأقباط، أو على الأقل تحييدها إزاء المشهد الراهن.
رهان الشباب
ومع اختبار مواجهة جديدة يتعرض له الرئيس المصري، ربما لم يتعرض لقوّته من قبلُ، وهو ظهور الفنان ومقاول الجيش محمد علي بفيديوهات تتحدث عن فساد الرئيس المصري وأسرته وكبار قادة الجيش- يُطرح السؤال المهم: هل يلعب الأقباط من جديد، دور مُمتص الضربات والمُدافِع عن الرئيس في أزماته؟
يقول مفكر قبطي محسوب على التيار العلماني، طلب عدم ذكر اسمه، لـ "عربي بوست"، إنه لا يجب الرهان على المؤسسة الكنسية؛ البابا والأكليروس (رجال الدين) على حد سواء، لحشد شباب الكنيسة للتضامن مع النظام الحالي ضد محمد علي؛ حيث إنها فقدت تأثيرها القديم في نفوس المتلقّين، ولا يمكن التعويل على دعم البابا تواضروس في الوقت الحالي لتهدئة الأقباط وفصلهم عن الحراك المعارض له، لسبب بسيط وهو أن الرجل نفسه يحتاج من يدعمه أمام التحركات المناوئة له داخل الكنيسة وخارجها.
ويدلل على ذلك بأن هناك أقباطاً تداولوا مقطع فيديو، الأيام الماضية، من عام 2016، لقسّ يطالب السيسي بالرحيل ويصفه بأنه أسوأ رئيس مصري، رغم رفضهم الفيديو نفسه من قبل، وهذا مؤشر على الحالة التي تنتاب البعض.
كذلك أسهمت عودة التيارات الشبابية المعارضة إلى الحياة مجدداً بعد فترة من البيات الإجباري، في تعزيز حالة التمرد على الثقافة الأبوية للكنيسة، وفي هذا السياق يقول بيشوي تمرى، عضو اتحاد شباب ماسبيرو، لقناة فرانس 24، وهو منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق المواطنة للأقباط نشأت عقب مقتل عشرات من المتظاهرين الأقباط أمام مبنى التليفزيون المصري في منطقة ماسبيرو عقب ثورة 2011، إن "الكنيسة لا تمثل كل المسيحيين".
ويضيف تمرى: "نرفض استغلال الكنيسة لأغراض سياسية". ويأسف لأن منظمته مثل "كثير من منظمات المجتمع المدني"، لم تعد تستطيع أن تعمل بنشاط، بسبب التضييق الأمني في ظل نظام السيسي.
يشير كاتب قبطي وعضو بالمجمع المقدس إلى أنه في العامين الأخيرين تزامن تدهور الوضع بالنسبة للسيسي ونظامه السياسي مع تزايد الشروخ في المجتمع القبطي، وسادت حالة من التباعد بين المواطنين الأقباط، والكنيسة القبطية ورأسها البابا تواضروس، الذي دخل في صراعات جانبية مع التيار المحافظ أو المتشدد الذي يمثل البابا الراحل شنودة الثالث.
وتوالت في الشهور الماضية تحركات ضد تواضروس الثاني بابا الأقباط الأرثوذكس، لتأليب الرعايا عليه، وطرح المعارضون له استمارات لجمع توقيعات لعزله من كرسي البابوية الذي يشغله منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2012.
وقامت بعض الفضائيات بالاصطياد في المياه العكرة مثل قناة "كلمة منفعة"، التي تبث من الولايات المتحدة الأمريكية، وتتبنى خطّاً هجوميّاً على البابا تواضروس بالتحديد، بتقديم شكوى للمجمع المقدس (الجهة العليا بالكنيسة المصرية)، أعلنت فيها عن موقف عدائي منه، ووجهت إليه اتهامات من منطلق مواقف إيمانية، دفاعية، عقائدية، وطقسية (كما تقول).
كذلك أعلن راهب مطرود يُدعى يعقوب المقاري، في بادرة غريبة عن التقاليد المسيحية، انفصاله عن الكنيسة الأرثوذكسية، وطالب المجمع المقدس بعزل البابا من منصبه.
جنود ظلام
وإذا كانت النتائج السياسية للتحركات المعارضة الحالية لنظام السيسي يصعب التنبؤ بها، خاصة في جانب قدرتها على إزاحة الرئيس المنتمي إلى المؤسسة العسكرية المصرية عن الحكم بعد عام واحد من إعادة انتخابه، فإن التأثير الذي يمكن توقعه هو خروج حالة التفكك القبطي من داخل الكنائس وخلف أبواب البيوت القبطية إلى العلن، ربما لأول مرة في تاريخ الأقباط.
فمثلاً لفت الانتباه ضعفُ استجابة أقباط المهجر لدعوات الكنيسة المصرية والكنائس التابعة لها لاستقبال الرئيس السيسي خلال زيارته لنيويورك والترحيب به، مثلما جرت العادة في السنوات الخمس الماضية، رغم أن البابا تواضروس الثاني أوفد الأنبا إرميا، الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي الأرثوذكسي، إلى نيويورك، لحث الأقباط على الخروج للترحيب بالسيسي.
بداية المحنة
أياً ما آلت إليه التحركات المعارضة الحالية للرئيس السيسي، فإن بعض المحللين يتوقعون أن تسفر عن حدوث شرخ في العهد غير المكتوب بين النظام السياسي والكنيسة القبطية، ذلك العهد الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي مع بداية ترسيم البابا الراحل شنودة الثالث.
فالرجل الذي سعى منذ يومه الأول، إلى ترسيخ أقدامه وبسط سيطرته ونفوذه على الكنيسة، فعمل على ترسيم أكبر عدد ممكن من الأساقفة والرهبان ممن يدينون له بالولاء ويحملون أفكاره- لم يفوّت فرصة اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر/تشرين الأول عام 1981، الذي كان قد عزله قبل أسابيع من اغتياله.
وبعد عودته عقب تولي مبارك الحُكم، أفسح الرئيس الجديد وقتها للبابا شنودة المجال ليكون هو المتحكم بشكل شبه كامل في المجتمع القبطي، وتحولت الكنيسة على أثر ذلك، إلى دولة مصغرة تتولى شؤون رعاياها.
لكن البند الأخطر في تلك المساحة، أن الكنيسة باتت مقصداً للطبقات الفقيرة من الأقباط، للحصول على إعانات منتظمة عينية ومادية، كما استطاعت بضغوط من البابا ورهبانه الموالين له، التنسيق مع كثير من رجال الأعمال الأقباط في المجتمع، لتخصيص نسبة من الوظائف بمشروعاتهم للأقباط من خلال الكنيسة، وهو أمر ضاعف من هيبة الكهنة، الذين بات بمقدورهم منح وظائف مرموقة للأتباع المطيعين، لكنه في الوقت نفسه كان بمثابة أول مسمار في نعش قداسة رجل الدين التي تمثل معنى كبيراً في المجتمع القبطي.
لا ينكر مصدر قبطي محسوب على التيار المتشدد بالكنيسة تفتُّت الجبهة الداخلية للمجتمع القبطي وانعكاس ذلك على شعبية الرئيس المصري داخل الوسط المسيحي، متوقعاً أن الحراك ضد البابا تواضروس سيمتد حتماً إلى مهاجمة السيسي، لأنه مصدر القوة التي يستمد منها بابا الأقباط المصري قراراته الإصلاحية.
يشرح المصدر لـ "عربي بوست"، أن هناك أزمة بسبب "كرسي البابوية" الذي جلس عليه تواضروس دون أن يكون في دائرة المتصارعين على نيله في نهاية زمن البابا شنودة الثالث، ومن يسعون للكرسي يريدون اقتناصه سريعاً، بسبب تضارب مصالحهم مع ما يتخذه تواضروس من إجراءات إصلاحية تمسّ مكتسباتهم على مدار عقود طويلة، وبذلك أصبح كرسي مارمرقس بالنسبة لهم مُقابِله التضحية بالجالس على كرسي الرئاسة، وهو الرئيس السيسي الذي يدعم بقاء تواضروس.
ويضيف أن المعارضين وجدوا ضالتهم في حالة الصدمة التي يمر بها الشارع القبطي إثر تكرار حالات عنف وقتل داخل دور العبادة المسيحية، التي حافظت على درجة عالية جداً من السرية منحتها القداسة والهيبة قروناً طويلة، وهو ما سيجعله في حالة أقرب إلى الاستجابة لدعوات الجبهة المعارضة لحكم السيسي، بسبب تكرار الحوادث التي يتورط فيها رجال الدين المسيحي.
يصرح المصدر بأن صدمة شعب الكنيسة سببها اعتقاد أن مشاركتهم في 30 يونيو/حزيران ستوقف أي تحركات من الدولة لفرض رقابة على بيزنس الكنيسة الضخم وتلك الإمبراطورية الاقتصادية الهائلة التي تُعفى من الضرائب والرسوم ولا تمارس الدولة عليها أي رقابة مالية؛ في إطار صفقة أو تسوية بين الكنيسة والنظام المصري تقتضي الدعم المتبادل، على أن تكون الكنيسة خادمة لتوجهات النظام على طول الخط، وبدوره يضمن حمايتها من جهة والتغاضي عن إمبراطوريتها الاقتصادية الضخمة من جهة ثانية.
كان من المرجح أن الكنيسة ستصرف ببذخ على رعاياها وهي مطمئنة، لكن شهدت الفترة الأخيرة حالات انتحار لأقباط نتيجة لمرورهم بأزمات مالية وعجزهم عن تلبية طلبات أُسرهم، وهناك من سرق أموالاً من كنيسته، وأخيراً حوادث قتل وانتحار وتسمم.
فهناك حادثة اغتيال القس مقار سعد، كاهن كنيسة مارمرقس، في منطقة شبرا الخيمة ذات الطابع الشعبي، بقلب العاصمة المصرية القاهرة، وقبلها مقتل الأنبا إبيفانيوس رئيس دير أبو مقار، بمحافظة البحيرة شمال مصر، على يد راهبين بالدير في نهاية شهر يوليو/تموز الماضي.
وإذا كان الطابع السياسي الذي كسا حادثة اغتيال إبيفانيوس فرض على كثير من الأقباط عدم الإفراط في تحليل دلالات الحادث واستقراء تداعياته على المجتمع القبطي بشكل خاص، والمصري بشكل عام، فإن الطبيعة الاقتصادية لحادث مقتل الراهب مقار سعد أسهمت في تفجير النقاشات باتجاهات متعددة، تصبُّ كلها في اتجاه تقليل -إن لم يكن إزالة- القداسة عن رجال الدين المسيحي، وتقليص الدور المتعاظم للكنيسة في حياة رعاياها.
فالصدام لم يقف عند الإشكاليات اللاهوتية بين التيارات المختلفة كما هو معتاد بين أفراد الطائفة الواحدة، وإنما بات الصراع على نفوذ وثروات دافعاً رئيسياً للقتل، فالحادثان حاصرتهما خلافات مالية وطمع في تكديس الثروة أو الحصول عليها عنوة ممن يكدسها.
وتداول النشطاء الأقباط فكرة سيطرة "المال الشايب" على بعض رجال الدين، والمقصود بذلك تكديس الأموال من جانب البعض إلى أن يشيبا معاً، في حين أن هناك آخرين يزدادون فقراً، ويتحسرون على حالهم، ويتحول حقدهم إلى جرائم عنف وقتل.
أخطر ما يمكن رصده في الخلفيات هو التحول الواضح في طبيعة ودور رجل الدين القبطي، ونزوله من درجة القداسة إلى حُب المال، بل التحكم في أقوات الناس سواء كانوا من خَدَم الكنيسة أو من أتباعها المخلصين.
ودفعت البعض إلى فتح الملف المسكوت عنه وهو أديرة الرهبان وما تحتويه من ثروات ضخمة جعلها بمثابة دولة مستقلة اقتصادياً وموازية للدولة المصرية.
تلك الحوادث لا يمكن فصلها عن الأحوال الاقتصادية العامة بالمجتمع في عصر السيسي، والتي زادت رقعة الفقر بين ملايين ممن كان يُصطلح على تسميتهم "المستورين" في السابق؛ وهو ما أدى إلى ظهور نوعية من الجرائم بالمجتمع المسيحي لم تكن معهودة من قبل.
ويرى محلل سياسي خبير في شؤون الجماعات الإسلامية والأديان، رفض الكشف عن اسمه، أن كثيراً مما يحدث من النظام السياسي يتكرر بشكل مصغر في الكنيسة القبطية، فقد كرَّس السيسي جهده لاقتطاع التبرعات الإجبارية ممن يعتبرهم قادرين مادياً، من أجل مساعدة الفقراء، قبل أن يُكتشف لاحقاً عبر فيديوهات محمد علي، أن تلك التبرعات تُستخدم لبناء قصور فخمة تخدم السيسي ومجموعة من صفوة المقربين منه.
الحال نفسه يعيشه المجتمع القبطي منذ فترة، فمع الدعوات المكثفة للأغنياء الأقباط وأصحاب النذور والعطايا والمِنح لمساعدة الفقراء والمساكين الذين تضاعفت أعدادهم في عهد السيسي، يكشف البعض كل فترة أن أغلب تلك العطايا لا تصل إلى مستحقيها، لأن الرهبان يقتطعون منها نسباً ضخمة.
وبناء عليه ظهرت دعوات جادة في الأوساط القبطية تطالب بأن يقتصر دور الكنيسة على مد هؤلاء المتبرعين ببيانات وعناوين من يحتاجون المساعدة، لأن من الأفضل للمتبرعين التعامل المباشر مع الفقراء دون وساطة أو اللجوء إلى "دورة المال" الحالية، حيث تنتقل تبرعاتهم وعطاياهم هنا وهناك عبر الكنيسة ورجالها.
ويقول الناشط القبطي وحيد شنودة إن ما يحدث في الكنيسة هو حالة مصغرة لما يحدث في الوطن: "المسيحيون والمسلمون يسودهم شعور بأن ثقافة الحجر سادت وتغلبت على الاهتمام بالبشر"، شارحاً أن أموال التبرعات الطائلة أنفقتها الدولة على القصور بحجة أنها "لن تكتفي بقصور بناها محمد علي، وبالمثل أنفقت بعض الكنائس أموال التبرعات على البهرجة تحت ذريعة ضرورة أن يكون بيت الرب (الكنيسة) هو الأكثر فخامة".
ويتساءل المصدر ذاته: كيف يُسَرُّ الرب بفخامة العاصمة الإدارية وبهرجة الكنيسة هناك، والأقباط يعانون ويتضورون جوعاً! وهل يستقيم أن هناك من يموت وينتحر ويُقتل بسبب ندرة الأموال، في حين يكتنزها البعض ويشيبون معها ويزعمون "أننا فقراء أوي"؟!