شقوا بطون الحوامل وأحرقوا الرُّضع بالأفران.. لغز مجزرة بن طلحة الذي يُحير الجزائريين منذ 22 عاماً

عربي بوست
تم النشر: 2019/10/01 الساعة 22:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/10/01 الساعة 22:34 بتوقيت غرينتش
جنود من الجيش الجزائري/رويترز

يخشى سكان هذه البلدة الجزائرية ذبح الأضاحي في العيد خوفاً من مشهد الدماء، فمنذ أن شهِدوا واحدةً من أكثر مجازر العشرية السوداء دموية وغموضاً، والتي تسمى مجزرة بن طلحة، لم يعد السكان لطبيعتهم رغم مرور 22 عاماً.

مع حلول  خريف كل سنة تتذكر بن طلحة، البلدة الواقعة على أطراف العاصمة الجزائر أبناءها، ممن ذهبوا ضحية مجزرة بشعة، مازال غموض ملابساتها لم يتبدد إلى اليوم.

ففي ليلة 22-23 سبتمبر/أيلول 1997، قُتل أكثر من 200 قروي (كما أعلنت منظمة العفو الدولية) على يد عصابات مسلحة.

 وتراوح عدد القتلى المُبلَّغ عنهم بين 85 (التقديرات الرسمية الأولية) و400 (تقارير إعلامية غربية).

ورغم مرور 22 عاماً لا يزال سكان بلدة بن طلحة ( 15 كم شرقي العاصمة الجزائرية)، يتذكرون تفاصيل تلك الليلة السوداء وكأنها كانت بالأمس، وبقي بعضهم يشم رائحة الموت ويرى صور الجثث مترامية هنا وهناك.

صحيح أن المنطقة تغيّرت كثيراً؛ لكن الذاكرة تأبى النسيان، هكذا قال العم مراد، أحد الذين عاشوا المجزرة، ودفن أفراد عائلته جماعياً، لـ "عربي بوست".

 رسالة مجهولة في جثة امرأة تنذر بالمجزرة

كان سكان بن طلحة يعلمون أنهم ليسوا بمنأى عن الخطر، على اعتبار أن الحي يقع ضمن منطقة مثلث الموت (الكاليتوس، سيدي موسى، الأربعاء)، الذي كان معقل الجماعات المسلحة ومركزاً لأمرائهم؛ نظراً لأنها كانت وعاء انتخابياً مهماً ساهم في فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات البرلمانية في 1992، التي ألغاها الجيش الجزائري، الذي اعتقل قيادات الجبهة، لتدخل البلاد حرباً أهلية دموية لسنوات. 

يتحدث العم مراد ويقول: "قبل المجزرة بأسبوع الأمور لم تكن تُبشر بالخير، غرباء كثر كانوا يصولون ويجولون في الحي… كانت هناك رهبة تسكننا، خاصة بعد مجزرة  الرايس التي وقعت في شهر أغسطس/آب، وهي بلدة لا تبعد عنا إلا بكيلومترات قليلة.

ما كان يشاع آنذاك أنهم عثروا على رسالة داخل جثة امرأة مذبوحة، كتب فيها (الدور المقبل على بن طلحة)، لكن ذلك لم يثنِ السكان عن البقاء في مساكنهم رغم الخوف". 

عواء الذئاب شفرة بداية الهجوم

العم مراد الذي فقد زوجته وثلاثة من أبنائه تلك الليلة، لم يستطع مواصلة الحديث بعدما اختنق بدموعه، لينوب عنه جاره، الذي عاش هو أيضاً الكارثة قائلاً: "في حدود العاشرة مساء من ليلة 22 إلى 23 سبتمبر/أيلول، سمعنا عواء الذئاب في حي الجيلالي، ظننا أنها ذئاب المنطقة، لكن صوتها كان يعلو ويقترب.

أدركنا أن "الذباحين" -لقب يُطلق على الجماعات المسلحة- وصلوا إلى الحي، فجأة اندلعت الانفجارات وعلا صوت الرصاص، حاولنا إيقافهم بزجاجات المولوتوف وكلاب الحي، إلا أنهم كانوا يشربون المسك (حسب قوله)، مما يجعل رائحتهم غريبة تنفر الكلاب".

ويضيف قائلاً: "دخلوا البيوت بيتاً بيتاً، وغرفة غرفة، أحرقوا وذبحوا، لم يتركوا لا شيخاً ولا طفلاً ولا امرأة… لم يرحمونا.

الغريب أنَّ المذبحة تواصلت إلى ساعات الفجر، دون أن يجرؤ أحد على التدخل وإنقاذنا".

لم يقطع حديث الرجل سوى السيدة مريم، التي جاءت بصينية القهوة، هي الأخرى فقدت زوجَها وأربعة من أبنائها، أصغرهم 5 سنوات، قام أحد الإرهابيين تلك الليلة برميه من أعلى السطح، بينما ذُبح زوجها وأبناؤها الذين حاولوا الاختباء تحت السرير، هي نجت بأعجوبة، لكن بثلاث رصاصات لا تزال تسكن جسدها، وصدمة تتذكرها دائماً. مسحت دموعها وراحت تسرد ما تذكرت قائلة: "حطموا الباب الحديدي بقنبلة يدوية، حاول زوجي منعهم بإشعال النار في الفُرُش وإلقائها على السلالم، إلا أنهم تمكنوا من الوصول إلينا عبر سطح الجيران، كانوا يرتدون ملابس أفغانية".

تقول: "رجوت أحدَهم أن يترك أبنائي يعيشون، إلا أنه قال لي اليوم سنُرسلكم إلى ربكم".

تضيف: "حمل ابني الصغير رؤوف ورماه من السطح حاولت منعه، قام إرهابي آخر بإطلاق النار، وقعت  لا أسمع اَيَّ شيء سوى صراخ أبنائي وزوجي وهم يُذبحون".

اغتصاب وحرق لأطفال رضع وسرقة مجوهرات الموتى

تفحَّم الرُّضع داخل الأفران، كان من المشاهد التي لا تنسى.

يتذكر مَن عاشوا الحادثة صورَ الجثث المحروقة، ورائحة تفحّم الرضع داخل الأفران.

سكان مزرعة بودومي التي شهدت هي الأخرى مجازر ارتكبت في حق الأبرياء يروون تفاصيل لا تقل دموية. 

فمعظمهم فقدوا عائلات وأقارب، بعضهم قُتل والآخر اختُطف، كحال العديد من الفتيات القُصر اللاتي لم يظهر لهن أثر، لكن أكثر الروايات تداولاً أنهن اغتُصبن وقتلن في جبال تابلاط، وفقاً لشهادة إرهابيين تائبين، مثلما تم بقر بطون الحوامل وإخراج الأجنة وقتلها. 

ويتحدَّث بعض السكان عن وجود نساء كنَّ يدعمن الإرهابيين، ويقمن بنزع الخواتم والسلاسل الذهبية من جسد المذبوحات، إحداهن تم القبض عليها وسجنت، لكنها استفادت من تدابير المصالحة الوطنية، تم الإفراج عنها، ومُنحت سكناً. 

لماذا لم يتدخل الجيش الجزائري؟ 

سؤال ظلَّ يُطرح على مدار سنوات، ليس بين سكان بن طلحة فقط، وإنما بين كل الجزائريين.

عندما تطرَّقنا إلى هذا الجانب قاطعنا عيسى، أحد الناجين من المجزرة، كان شاباً آنذاك، قائلاً: الإرهابيون قدموا من طريق الوادي، الهجوم كان مدبراً، بدليل أنهم علموا البيوت التي سيهاجمونها بإشارات، حسب قوله.

وتساءل: كيف يترك لهم كل هذا الوقت، أي حوالي 6 ساعات ليقتلوا كيفما أرادوا، ولماذا لم يتدخل الجيش الجزائري رغم أن الثكنات كانت قريبة من المكان.

تساؤلات حول عدم أسباب تدخل الجيش الجزائري لوقف المذبحة/رويترز

وأضاف قائلاً: "صراخنا وعويل النساء والأطفال كان يسمع من سبع سماوات -حسب تعبيره- لكنهم لم يسمعوه على بعد كيلومتر واحد".

ويضيف: "في الصباح لما جاء الجيش رفض أفراده الدخول إلى الحي بحجة الألغام، ونحن من أخرجنا جثث عائلاتنا".

لم يوقف غضب عيسى سوى بعض محاولات التهدئة من الجيران، الذين قالوا إن تعليمات فوقية منعت الجنود داخل الثكنات من الخروج ليلاً، ليتركوا السكان في مواجهة الموت وحدهم، مجمعين على أنه مهما كانت الجهة الفاعلة فأصحابها أرهابيون دون رحمة أو ضمير. 

قبور دون شواهد وأشلاء لم يتم التعرف على أصحابها  

غير بعيد بكثير عن حي بن طلحة، تحتضن مقبرة سيدي رزين جثث قتلى المجزرة، بعضهم دُفنوا جماعياً، خاصة أفراد العائلة الواحدة، وبعض القبور توجد دون شواهد لصعوبة التعرف على جثث أصحابها آنذاك، نتيجة تعرضها لتشوهات.

فمصلحة حفظ الجثث بمستشفى سليم زميرلي كانت مكتظة بمئات الأشلاء البشرية بقيت لشهور دون التعرف عليها، حتى أطلق عليه بعد المجزرة لقب المستشفى المذبح. 

البعض أودع مستشفيات الأمراض العقلية  

رغم مرور أكثر من عقدين على المجزرة وتغير واجهة الحي، إلا أن الصدمة لا تزال تلاحق الكثيرين، فعائلات هنا تعجز عن نحر الأضاحي يوم العيد بسبب مشاهد الدم ورائحة تفحّم رأس الأضحية، وآخرون غادروا المنطقة دون رجعة، تاركين بيوتهم وأملاكهم، فالصدمة كانت كبيرة والمصاب جلل.

السلطات حاولت تقليل الضغط بإنشاء مركز للتكفل النفسي بالناجين، منهم من استطاع الخروج من أزمته وعيش حياة جديدة، ولكن بعضهم وجدوا أنفسهم نزلاء المصحات العقلية.

تحميل المزيد