لماذا قد يكون تدهور الليرة اللبنانية أخطر من أي أزمة عملة رأيتها من قبل؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/09/30 الساعة 16:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/09/30 الساعة 17:00 بتوقيت غرينتش
محاولات نبيه بري لدعم الحريري كمرشح لرئاسة الحكومة لم تتوقف.. لكن الحريري حسم الأمر واعتذر/رويترز

ليست أزمة الليرة اللبنانية كأي أزمة عملة أخرى، فالاقتصاد اللبناني يختلف عن معظم اقتصادات الدول الأخرى.. ومسألة سعر صرف العملة تكتسب أهمية خاصة لدى هذا البلد العربي.

وتعاني البلاد من تذبذب في وفرة النقد الأجنبي، في ظل أزمة اقتصادية أثرت على سعر صرف الدولار مقابل الليرة في الأسواق العادية خارج المصارف.

وسجل سعر صرف الدولار لدى بعض الصرافين، أسعاراً وصفها البعض بأنها "مرعبة" لامست 1630 و1700 ليرة للدولار الواحد، بينما كان سعر الصرف الرسمي يُقدر بـ 1507 ليرة للدولار.

ورغم أن هذه الزيادة قد تبدو غير كبيرة مقارنة بأزمات شهدتها بلدان أخرى، إلا أنه على عكس معظم الدول ذات الدخل المتوسط تميز سعر العملة اللبنانية بالثبات منذ عقود، وكان هذا محور السياسة النقدية اللبنانية بل الاقتصاد اللبناني برمته.

وجرى تثبيت ربط الليرة اللبنانية بالدولار عام 1997 بسعر 1507.5 ليرة للدولار الواحد، وهو ما يسمّى نظام سعر الصرف الثابت. وهذا أمر راسخ في حياة الناس لدرجة أنّ الاقتصاد يعمل بكلتا العملتين. في أي محل من البلد (تقريباً) يمكنك الدفع بالدولار أو بالليرة وتضمن أنّ هذا المال قابل للتداول. رغم ذلك، فإنّ هذا الربط متعلّق بقدرة المصرف المركزي، أو مصرف لبنان، على ضمان التكافؤ بين العملتين. من أجل ذلك، فهو يحرص على أن يكون لديه دائماً ما يكفي من احتياطي الدولار لشراء الليرة، والعكس.

رغم جباله الخضراء.. لماذا تعاني الزراعة في لبنان؟

لبنان بلد فقير الموارد ليس لديه بترول وغاز باستثناء الاستكشافات التي لم تستخرج، وهناك خلافات بشأنها مع إسرائيل فيما يتعلق بترسيم الحدود.

لدى لبنان زراعة وصناعة محدودتان، ولأسباب كثيرة، تنافسيتهما محدودة.

فبالنسبة للزراعة فرغم أن لبنان بمشهور بجباله الخضراء، وأنهاره الجارية التي تتساقط من الجبال وأراضيه الخصبة، فإن الزراعة لديه تواجه كثيراً من التحديات.

أبرزها كثرة الجبال التي تجعل من الزراعة أمراً صعباً بالنسبة للحبوب خاصة، بينما تجود فيها زراعة بعض الفواكة مثل التفاح الذي يعاني لبنان في تسويقه.

وحتى في المناطق السهلية الخصبة في أقصى الشمال والبقاع والجنوب، فإن ارتفاع تكلفة العمالة والأرض مقارنة بسوريا المجاورة على سبيل المثال يضعف تنافسية كثير من المنتجات الزراعية اللبنانية رغم جودتها، إضافة إلى إغلاق الطرق لأسواق الخليج بسبب الأزمة السورية.

نفس الأسباب جعلت الصناعة اللبنانية غير تنافسية، فرغم كفاءة العنصر البشري اللبناني بفضل نظام التعليم المتطور، فإن قلة الأرض وارتفاع الأجور وتكلفة الطاقة، مع غياب الاستثمار والبحث العلمي والاستقرار السياسي قلل من قدرة لبنان التنافسية.

الآباء المؤسسون اختاروا نموذجاً مختلفاً تماماً عن باقي الدول العربية

ومنذ نشأة لبنان، اتخذت النخبة اللبنانية الحاكمة المتأثرة بالطابع التجاري مساراً مختلفاً عن معظم الدول النامية، فلم تغلق أسواقها أمام الواردات حماية للمنتجات الوطنية، بل ركزت على الانفتاح الاقتصادي وجعل لبنان مركزا للمال والخدمات في المنطقة.

وبالتالي أصبح لبنان بعد الاستقلال مركزاً للبنوك والإعلام والنشر والسياحة في منطقة كانت تتجه بشكل متزايد منذ الخمسينيات والستينيات للانغلاق وتقييد الاستيراد وحرية الخدمات المالية، كما حدث في مصر الناصرية والعراق وسوريا البعثيتين.

وساعد لبنان على تبوء هذه المكانة علاقته الوثيقة بدول الخليج العربية، فوضع أثرياء الخليج أموالهم في مصارف لبنان وكان يأتون إليه سنوياً للسياحة ليحلوا محل باشوات مصر وأثرياء العراق وسوريا الذين غابوا بعد ثورات الضباط في هذه البلدان.

كما استفاد لبنان بشكل كبير من وجود ملايين اللبنانيين في الخارج في دول أغلبها نامية، حيث كان يودعون أموالهم في المصارف اللبنانية التي تتسم بقدر كبير من السرية المصرفية وفائدة عالية مع ثبات سعر صرف الليرة.

الليرة هي سر الازدهار اللبناني، لقد خلقت واحداً من أكبر النظم المصرفية في العالم

الثبات النسبي لسعر صرف الليرة مع السرية المصرفية والفائدة العالية كان مفتاح قوة الاقتصاد اللبناني؛ لأنه جعل لبنان ملاذاً مفضلاً لأموال المغتربين اللبنانيين والخليجيين.

والنتيجة يعتبر القطاع المصرفي اللبناني واحداً من أكبر القطاعات المصرفية العربية والدولية مقارنة بحجم الاقتصاد الوطني، حيث تبلغ الأصول المجمّعة للقطاع أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للبنان.

فحجم الودائع في القطاع المصرفي في لبنان يبلغ حوالي 200 مليار دولار، حوالي 40% من حجم هذه الودائع يأتي من الاغتراب اللبناني، تجتذبهم بالأخص نسب الفوائد المريحة في لبنان مقارنةً بالخارج. وأكثر من 80% من الودائع اللبنانية مودعة بالدولار.

وأصبح القطاع المصرفي المحرك الرئيسي للاقتصاد اللبناني، وصار لبنان رغم كل الحروب التي مر بها أعلى مستوى دخل بين الدول العربية غير النفطية.

ففي عام 2017 كان متوسط أجر المواطن العربي هو السابع عربياً، وفي الوقت ذاته فإن بيروت تعد من أغلى العواصم العالمية.

والسياسة كانت أكبر مشاكلهم

ولكن السياسة كانت المشكلة بالنسبة للبنانيين، فبالإضافة إلى الطائفية والفساد والأزمات السياسية الدائمة، كان لبنان نقطة تقاطع غريبة بين النفوذ الإيراني السوري والسعودي الخليجي برعاية فرنسية، وتفهم أمريكي قلل من قسوة ضربات إسرائيل ولكن لم يمنعها.

ولسنوات كان السعودية ودول الخليج تدعم لبنان مالياً وسياسياً رغم أن هيمنة حزب الله وحلفائه ومن قبله سوريا على القرار اللبناني كانت تتزايد.

يطلق على هذا التفاهم قديماً تفاهم "س س" أي سوريا والسعودية، وكان رفيق وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري الذي كان مهندس اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية وكذلك هو الذي هندس الاقتصاد اللبناني ليصبح اقتصاداً قائماً على الخدمات (أكثر من ذي قبل) لاسيما السياحة والبنوك مع دعم خارجي واقتراض داخلي أفضى إلى واحدة من أعلى معدلات الديون في العالم.

المعادلة الاقتصادية اللبنانية الغريبة قائمة على ثبات العملة

وقامت المعادلة الاقتصادية اللبنانية على التالي:

 سياحة + تحويلات عاملين وودائع خليجية ودولية (أغلبها لبنانيون في الخارج)+ دعم خليجي سياسي واقتصادي + اقتراض من البنوك المحلية التي تعتمد على أموال الخليجيين والمغتربين.

في صلب المعادلة كان ثبات الليرة مهماً لأن المودعين كانوا يفضلون إيداع أموالهم بالليرة اللبنانية التي تكاد تكون ثابتة أمام الدولار مع حصولهم على فائدة مرتفعة مقارنة بالفائدة على الدولار.

ولكن الثمن كان باهظاً

لكن هذه السياسة كان لها ثمنها، أولها وقوع لبنان في دائرة الديون الجهنمية.

ففي عام 2017، بلغ الدين اللبناني 80 مليار دولار، ما يعادل نسبة 150% من الناتج المحلي الإجمالي (المقدّر بــ51.85 مليار دولار)، وهذه ثالث أعلى نسبة في العالم، خلف اليابان واليونان. إذا لم يُبذَل أي جهد في الأعوام المقبلة، يتوقع الاقتصاديون نسبة 160%.

وخدمة الدين، أي الفوائد التي تدفعها الدولة اللبنانية عن دينها، قاربت في عام 2018، 5 مليارات دولار. وهذا عبء يمثل 25% من ميزانيتها السنوية المقدّرة بـ19.1 مليار دولار في عام 2018 (لم ينشر لبنان ميزانيته الرسمية). اقتصاديو صندوق النقد الدولي يُقدّرون بأنّ هذه الخدمة قد تُمثّل 60% من موازنة الدولة بحلول عام 2021، وهو ما سيكون بطبيعة الحال غير محتمل.

كما أدى إلى ثبات الليرة إلى تعميق نقطة ضعف الاقتصاد اللبناني.

فعادة في الدول متوسطة الدخل مثل لبنان، فإن تراجع سعر العملة أمام الدولار كل فترة يخفض أسعار منتجاتها المحلية ما يعزز تنافسيتها ويزيد الصادرات ويقلل الواردات (حتى لو خفض القدرة الشرائية للمواطن لفترة).

فتراجع الليرة التركية مؤخراً على سبيل المثال أدى إلى زيادة تنافسية صادرات تركيا من السلع والخدمات.

ولكن حال لبنان مختلف، فثبات سعر الليرة جعل الواردات رخيصة في لبنان وأضعف المنتج المحلي أمام الصادرات، خاصة أن البلاد تعاني بحكم ضعف الدولة من التهريب ويتهم حزب الله وحلفاؤه بالمسؤولية عن هذا الأمر أحياناً نتيجة سيطرتهم على المنافذ الحدودية.

كما أن قلة الأراضي وارتفاع الأجور وأسعار الطاقة والجغرافية المعقدة وصغر السوق عوامل تضعف الصناعة كما سبق الإشارة.

المصارف تمول الدولة

في ضوء ضعف سلطة الدولة في جمع الضرائب وإيرادات الكهرباء والمياه وتراجع السياحة والاستثمار، وتراجع المساعدات الخارجية فإن الوسيلة الوحيدة تقريباً لتمويل الحكومة هي أن تقوم المصارف بإقراض الدولة اللبنانية التي بدورها تضخ الأموال في عجلة الاقتصاد عبر دفع أجور الجهاز الإداري التي تضخمت بعد زيادتها المثيرة للجدل منذ بضعة أعوام.

كانت هذه المعادلة قائمة في عهد الحريري الأب، في ظل التفاهم السوري السعودي الفرنسي، حيث كان الدعم المالي والسياسي الخليجي قوياً، إضافة إلى قدرة فرنسا على حشد المجتمع الدولي لإنقاذ الاقتصاد اللبناني في مؤتمرات عدة مثل مثل باريس 1 و2.

لكن الحريري نفسه اختلف مع سوريا، واغتيل في عملية تتهم فيها دمشق بالمسؤولية عنها من قبل عائلته.

ورغم ذلك استمرت المعادلة جزئياً بعد رحيل الحريري الأب ولكن أطرافها الخارجيين أصبحا السعودية وإيران.

فبعد تدمير البلاد خلال حرب 2006 تدفقت الأموال الخليجية لإعمار المناطق المدمرة بما في ذلك المناطق الشيعية في بيروت والجنوب.

فالمال الخليجي يبني، والمال الإيراني يمول السلاح الذي اعتبره الكثيرون من الشيعة يحمي لبنان، وتفهم المجتمع الدولي هذه المعادلة خاصة عندما ظهر داعش على حدود لبنان، إذ كان الكثيرون بما فيهم دبلوماسيون غربيون ينظرون إلى حزب الله باعتباره احتياطياً للجيش اللبناني في مواجهة التنظيم المتطرف.

ما الذي أدى إلى انهيار هذه المعادلة؟

ولكن كل شيء تغير بعد مجيء الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد في السعودية وتولي ترامب السلطة في أمريكا.

فقد انتهى تجاور النفوذ السعودي الإيراني في لبنان، والتفهم الأمريكي لوضعية لبنان.

وبدأ الأمر واضحاً بقرار السعودية في عام 2016 بعد تولي الملك سلمان السلطة إلغاء هبة ملكية قدرها 3 مليارات دولار كان قد تعهد بها سلفه الملك عبدالله لتسليح الجيش اللبناني من فرنسا، وهي صفقة كانت تراهن بها المملكة على تقوية الجيش اللبناني في مواجهة حزب الله.

واستمر التصعيد السعودي مع لبنان دون التفرقة بين مكوناته الحاكمة.

فخرج ثامر السبهان، وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، الإثنين، قائلاً إن على اللبنانيين الاختيار إما مع أو ضد ما وصفه "حزب الشيطان"، في إشارة إلى حزب الله اللبناني.

واحتجز الأمير محمد بن سلمان رئيس وزراء لبنان سعد الحريري حليف بلاده التاريخي في الرياض.

لكن المشكلة أن الأمير محمد لم ينتبه إلى ما كان يعرفه أسلافه من حكام السعودية من أن اللبنانيين عامة والسنة خاصة لا خيار لهم في قبول حزب الله ورفضه، في مواجهة سلاح الحزب والذي تقف وراءه طائفة شيعية تمثل نحو ثلث السكان تؤيده بحماس إن لم يكن بتعصب.

ويعلم سُنة لبنان أن أي مواجهة مع حزب الله وحركة أمل حليفته ستحسم في ساعات مثلما حدث في أحداث 7 مايو/أيار 2008 حينما اعتدت ميليشيات حزب الله وأمل على سُنة بيروت وفشلت محاولات تيار المستقبل الخجولة لتشكيل ميليشيات منافسة تماماً، حسبما قالت مصادر لبنانية لـ "عربي بوست".

ونفس الموقف اتخذته إدارة الرئيس ترامب التي يبدو أنها ترفض تحييد لبنان في الصراع مع إيران، مثلما كانت تفعل الإدارات الأمريكية السابقة.

وخلال زيارته الأخيرة للبنان، هاجم وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره اللبناني جبران باسيل في بيروت، "حزب الله" ، واتهمه بأنه "يسرق" موارد اللبنانيين، وتزعزع استقرار لبنان والمنطقة.

وقال بومبيو إن "لبنان والشعب اللبناني يواجهان خيارا، إما التحرك بشجاعة إلى الأمام كدولة مستقلة وفخورة أو السماح للطموحات المظلمة لإيران وحزب الله بالسيطرة على مستقبلكم".

وأضاف: "يجب ألا يُجبر الشعب اللبناني على المعاناة من أجل الطموحات السياسية والعسكرية لدولة خارجة على القانون وشريكها الإرهابي"، مؤكدا أن الأمر "سيستلزم شجاعة الشعب اللبناني للتصدي لجرائم وإرهاب وتهديدات حزب الله".

وأصبح لبنان بلا رعاة عرب أو دوليين ولم يعد هناك سوى إيران المحاصرة شبه المفلسة وفرنسا التي تنظم المؤتمرات ولا تدفع شيئاً تقريباً والتي باتت تنأى بنفسها عن لبنان الذي تزداد هيمنة حلفاء إيران وسوريا عليه.

والأزمة السورية خلقت ضرراً تراكمياً.. ممنوع دخول الخليجيين

وحتى قبل كل ذلك تضرر لبنان بشدة من الأزمة السورية جراء توقف السياحة الخليجية خاصة بعد تفاقم التوتر بين حزب الله ودول الخليج ومخاوف الخليجيين من تعرضهم للتحرش من قبل أنصار الحزب.

حتى أن كثيراً من الخليجيين لديهم أملاك كبيرة في لبنان، لم يزوروها منذ سنوات، حسب وصف مصدر لبناني لـ "عربي بوست".

وهكذا بدأ نزيف الاقتصاد اللبناني توقفت السياحة والاستثمارات الخليجية (علماً بأن لبنان يعتمد بالأساس على السياحة العربية لا الغربية)، ثم المساعدات العربية وحتى المساعدات الدولية التي وعد بها لبنان في مؤتمر سيدرا الأخير الذي نظمته فرنسا كانت مشروطة بتنظيم أموره المالية وكذلك وقف الفساد الذي يكاد يكون الشيء الوحيد الذي يجمع زعماء الطوائف في لبنان.

قصة الفساد الكبير

بالإضافة للأزمات السياسية المتكررة، فإنّ البلاد تعاني تاريخياً من منظومة مزمنة من الفساد والمحسوبيات، ما يجعل أي عملية إصلاح أكثر تعقيداً.

على سبيل المثال، في بعض المناطق من البلاد، تتمّ جباية أقل من 65% من فواتير الكهرباء، فيما تدفع الدولة بنفسها الأموال الناقصة إلى مؤسسة كهرباء لبنان (يندر دفع فواتير الكهرباء في منطقة الضاحية ذات الغالبية الشيعية).

مثّل ذلك المبلغ نسبة 7% من موازنة عام 2018. كمثال آخر، يتم تحصيل الضريبة على القيمة المضافة على الفواتير المصرّح بها. بيد أنّ غالبية الشركات في لبنان لديها "سجل أبيض" و"سجل أسود" للحسابات بشكل يسمح لها بدفع أقل قدر ممكن من الضريبة على القيمة المضافة إلى دولة تُعتبر، عن حق، فاسدة (يحتل لبنان المرتبة 136 من أصل 176 دولة في معدّل الفساد).

وأصبح الاقتصاد اللبناني يعتمد بشكل يكاد يكون كلياً على تدوير ودائع المصارف التي تعتمد بدورها على الثقة في النظام المصرفي وثبات سعر الليرة، ولكن هذا التوازن قد اختل بعد عقود من الفساد والعجز المتراكم وقلة الإنتاجية وتراجع السياحة وأخيراً تخلي الحلفاء.

وفي كثير الحالات التي تعرضت فيها دول لأزمات في قيمة عملتها، فإن هذه الدول كان لديها قطاعات إنتاجية تستفيد بعد هدوء الأحوال من تراجع قيمة العملة لزيادة تنافسية اقتصادها وبدء دورة جديدة من النمو.

ولكن في الحالة اللبنانية الوضع مختلف، فنحن أمام قطاع مصرفي ومالي كبير جداً مقابل قطاع إنتاجي صغير وغير تنافسي بحكم الطبيعة الجغرافيا والسياسة، ومن هنا فإذا واصلت الليرة تدهورها وفقد المودعين ثقتهم بها فإن هذا من شأنه يشكل خطورة كبيرة على الاقتصاد اللبناني.

فمن شأن تراجع الليرة وتراجع الثقة في النظام المصرفي اللبناني أن يحدث سحباً لهذه الودائع، وهي آخر سفينة للاقتصاد اللبناني.

لماذا أصبحت العملة اللبنانية في خطر؟

تُصدِر الدولة اللبنانية سنوياً أوراقاً مالية من أجل تمويل ذاتها. وهو دين بالليرة اللبنانية بنسبة 60% وبالدولار بنسبة 40%، ويتم سداده بفوائد مرتفعة نسبياً تبلغ 9% بالنسبة لليرة اللبنانية و7% بالنسبة للدولار، ما من شأنه أن يجذب المستثمرين. هذا الدين يُؤمَّن بغالبيته من المصارف اللبنانية ومن مصرف لبنان، وهذان الطرفان يحوزان منه اليوم على نسبة تفوق 85%.

في مقدور المصارف اللبنانية شراء الدين لأنّها غنية بالودائع.

"تدفق الودائع هذا ضروري لتمويل الدين وميزان المدفوعات (11.6 مليار دولار عام 2016) بالعملة الصعبة"، كما تشرح روزالي بيرتييه في مقابلة، وهي محللة لدى مركز الأبحاث Synaps. إلا أنّ البلد يستورد 80% من السلع الاستهلاكية ويدفعها بالعملة الصعبة (باليورو والدولار في معظم الأحيان)، وهنا تكمن المشكلة.

يعتبر صندوق النقد الدولي أنه من أجل تمويل العجز التجاري والفوائد المتزايدة للدين السيادي، يحتاج البلد إلى 6 أو 7% كزيادة في الودائع بالدولار، أي ما بين 6 و7.2 مليار دولار إضافي في السنة.

غير أنّه في السنوات الأخيرة، ولأسباب مختلفة، كانت الودائع تتزايد ولكن بنسق أقل: يوجد مال أقل في الخارج؛ ازدادت نسب الفوائد، لاسيما الأميركية منها؛ المخاطرة المتعلقة بالبلد مرتفعة"…"باختصار، اقتصاد لبنان يطغى عليه الدولار وهو يصرف منه أكثر مما يمكن أن يجذب منه".

ومن هنا يأتي خطر انهيار العملة، حسبما تقول روزالي بيرتييه المحللة لدى مركز الأبحاث Synaps.

رغم السيناريو المتشائم لليرة.. ما زال في جعبة اللبنانيين نقاط قوة

لكن هذه النظرة التشاؤمية يقلل منها عوامل عدة أبرزها طبيعة القيادات اللبنانية التي أثبتت في مواقف عدة بعد الحرب الأهلية أنه رغم تورّطها في الفساد وعشقها للمساومة ورغبتها دوماً في الحصول على أكبر قدر من الكعكعة إلا أنها قادرة على التجمع في اللحظات الحساسة والعمل على إنقاذ البلاد ليقينها أن لبنان مركب واحد إن غرق فسيهلك الجميع لا محالة.

كما أن الحكومة اللبنانية اتخذت عدة إجراءات لتقليل الاستيراد من شأنها تقليل نزيف العملة الأجنبية.

والأهم أن لبنان يعتبر بلداً نفطياً وغازياً واعداً، إذ لدى البلاد احتياطات في البحر المتوسط رغم أن الخلافات الحدودية مع إسرائيل وكذلك الخلافات الحزبية والطائفية تعرقل استخراج هذه الثروات، إلا أن وجودها عامل مطمئن لأسواق المال بأن اقتصاد لبنان ليس مجرد ورق بنكنوت مخزّن في المصارف.

ولكن يبقى على القادة اللبنانيين ضرورة تنويع اقتصاد بلادهم والخروج من النموذج القديم القائم على كون بلادهم محطة للنزاع السياسي للجيران وملاذاً مصرفياً آمناً لهؤلاء الجيران الذي يتحالف كل منهم مع طرف داخلي لبناني يحمي مصالحه، أو كما وصف المفكر والسياسي اللبناني كمال جنبلاط لبنان: فيدرالية طوائف ودكان مفتوح على البحر.

قد يكون صعباً على لبنان بسبب قلة الأرض وارتفاع الأجور منافسة دول مثل تركيا أو الدول الآسيوية في صناعات مثل النسيج والإلكترونيات والصناعات الثقيلة، ولكن بالتأكيد يمكن للبنان الاستفادة من قدرات شبابه المنتشرين حول العالم في إنشاء صناعات تناسب طبيعته مثل: البرمجيات أو الذهب أو الصناعات القائمة على المهارات في مجال الفنون والتصميم التي يبدع فيها اللبنانيون.

يرى اللبنانيون بلادهم بتنوعها المذهبي وجمال جبالها وحرياتها المالية والسياسية، باعتبارها سويسرا الشرق، ولكن سويسرا أرض محايدة بين الجيران وليس ساحة لصراعات الجيران، كما أن سويسراً رغم ازدهار قطاعها المصرفي هي أيضاً لديها صناعات أخرى غير المصارف.

تحميل المزيد