عندما بدأ محمد علي في بث مقاطعه التي سلطت الضوء على فساد الرئيس المصري وأسرته، وذلك قبل أقل من شهر، كانت الصورة العامة في مصر توحي بسيطرة مطلقة لعبدالفتاح السيسي، فكيف تحول المشهد في هذا الزمن القياسي وما هو دور زوجة الرئيس ونجله محمود في رسم خيوط المشهد الذي تشهده مصر الآن؟
ملف الزوجة يفجّر الغضب الشعبي
منذ نشر محمد علي أول مقطع فيديو في الثاني من سبتمبر/أيلول الجاري (أي قبل أقل من شهر)، كان للسيدة انتصار زوجة الرئيس عبدالفتاح السيسي نصيب الأسد من قضايا الفساد التي فجَّرها المقاول والفنان، من خلال عمله لسنوات طويلة مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
تدخلات زوجة الرئيس في إعادة تجهيز قصور رئاسية قديمة أو بناء قصور جديدة تتكلف المليارات، لم تكن المرة الأولى التي يتردد فيها اسم "انتصار" بسبب مظاهر البذخ التي تلاحقها كلما ظهرت في مناسبة عامة من خلال المجوهرات والإكسسوارات، في الوقت الذي يردد الرئيس على الشعب رسائله المتكررة بشأن "التقشف والوقوف بجانب البلد والفكة وغيرها".
لكن اعتراف السيسي بأنه يبني قصوراً رئاسية وسيبني غيرها فجَّر الغضب الشعبي بصورة لم يتوقعها أحد، خصوصاً بعد ظهور مقاطع فيديو من داخل تلك القصور تظهر مستوى الرفاهية والإنفاق مع تردد اسم زوجة الرئيس وطلباتها إجراء تعديلات تتكلف الملايين، وهو ما أسهم في أمرين أساسيين؛ الأول هو فقدان السيسي لمصداقيته أمام البسطاء الذين يعانون منذ وصوله للحكم بصورة لم يتوقعها أحد بعد إلغاء الدعم عنهم وفرض ضريبة القيمة المضافة وغيرها من الإجراءات التي رفعت أسعار السلع الأساسية أكثر من خمسة أضعاف.
الأمر الثاني هو المقارنات التي بدأ يعقدها البسطاء بين حياة البذخ والرفاهية التي ينعم بها الرئيس وأسرته وتظهر في ملابس وإكسسوارات ومجوهرات زوجته والقصور التي يتم بناؤها تلبية لمطالبها، وبين شظف العيش والمعاناة التي يعاني منها هؤلاء البسطاء بناء على كلام الرئيس بأن "البلد فقير ويحتاج أن يقف أبناؤه بجواره".
نجله من رائد لعميد في أربع سنوات!
محمود هو الابن الأكبر للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وهو متزوج بنهى التهامي ابنة رئيس شركة "بيبسي مصر" سابقاً، وفور تخرجه في الكلية الحربية التحق بسلاح المشاة فترة وجيزة، ثم التحق بجهاز الاستطلاع قبل انتقاله إلى جهاز المخابرات العامة، حيث انضم إليها برتبة رائد.
لكن خلال 4 سنوات فقط، قفز محمود السيسي سريعاً عبر ترقيات استثنائية ليصل إلى رتبة عميد، وأُسند إليه منصب مدير المكتب الفني بالجهاز في أثناء تولي اللواء خالد فوزي إدارة جهاز المخابرات العامة.
وكانت هناك خلافات أساسية بين السيسي عندما كان بمنصب مدير المخابرات الحربية، وبين المخابرات العامة ومديرها عمر سليمان حول كيفية إدارة البلاد.
وحسب مصادر لـ "عربي بوست" فإن أول الخلافات التي دبت بين السيسي وسليمان، كانت عندما أصبح الأخير نائباً لرئيس الجمهورية خلال فترة ثورة يناير/كانون الثاني، إذ رفض سليمان طلب السيسي تعيين نجله محمود في المخابرات العامة.
عندما أصبح السيسي رئيساً، أدرك بوضوح أنه لن يُحكم قبضته على البلاد إلا بالسيطرة التامة على جهاز المخابرات العامة، خصوصاً أن من يديره هم أتباع عمر سليمان والذين يحملون نفس العقلية.
بدأ السيسي في تصفية جهاز المخابرات العامة، فعين أولاً رجل المخابرات الحربية محمد فريد التهامي رئيساً للجهاز، وعين نجله محمود مديراً في المكتب الفني لمدير المخابرات العامة بعدما نقله من المخابرات الحربية.
ورغم أن هذه الوظيفة كانت أقرب إلى كونها وظيفة إدارية، لكن تعيين محمود جاء ليكون عيناً لوالده ليتمكن من تجميع معلومات عن جميع قيادات الجهاز وولائهم واتجاهاتهم وكيف يفكرون، حتى تتم بعد ذلك عملية التصفية النهائية.
وحقق السيسي ما خطط له وتم تعيين اللواء عباس كامل رئيساً للجهاز وتعيين نجله محمود نائباً له بعد ترقِّيه من رتبة رائد إلى عميد في غضون 4 سنوات، متخطياً كافة الأعراف العسكرية، ودون المرور بأي دورة تدريبية واحدة في جهاز الأمن القومي.
محمود السيسي بعد عملية تفكيك جهاز المخابرات أصبحت له الكلمة العليا هناك، وأصبح يدير كافة الملفات من فندق "الفيرمونت" على الطريق الدائري بالقرب من منطقة التجمع الخامس بالإضافة إلى محل سكن والده.
الولد سرُّ أبيه
يبدو أن العميد محمود يسير على خُطى أبيه نفسها، إذ تقرب نجل السيسي من قادة جهاز المخابرات العامة ثم كان له دور في الإطاحة بعديد من تلك القيادات، الذين كان منهم اللواء خالد فوزي، مدير المخابرات العامة ذاته.
وبحسب تقارير متعددة فقد أوكل إلى محمود السيسي مهمة قطاع الأمن الداخلي، ليتمكن من توجيه ضربات متتالية لمعارضي والده داخل الجهاز، إذ أقال نحو 17 قيادة بالمخابرات العامة على خلفية أزمة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، إلى جانب التخلص من رئيس الجهاز السابق خالد فوزي، ليصبح نجل السيسي الرجل الأهم بأقوى قسم في المخابرات المصرية.
ووصل نفوذ محمود السيسي إلى الدرجة التي جعلت البعض يتحدث داخل أروقة المخابرات العامة عن تخطيه صلاحيات اللواء عباس كامل نفسه الذي عيَّنه الرئيس عبدالفتاح السيسي مديراً للجهاز، حتى يُحكم سيطرته الكاملة على الجهاز.
مهمة التصدي لمحمد علي
وفي أعقاب ظهور فيديوهات محمد علي التي تكشف فساداً كبيراً داخل المؤسسة العسكرية المصرية وتوجيهه اتهامات مباشرة إلى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وزوجته بالفساد وإهدار المال العام، أصبحت الدولة المصرية مجندة كلها لمحاربة هذا العدو الجديد.
إذ كلف السيسي نجله محمود بوضع خطة التصدي لمحمد عليّ المقاول المتمرد الذي كان يعمل مع الجيش المصري ثم انقلب عليه وكشف عن خفايا إمبراطورية البناء التابعة له، وشبهات الفساد التي تدور حولها، حسب ما ذكرته مصادر لـ "عربي بوست".
وقد وضع (نجل الرئيس) برنامج التعامل مع الأزمة على عدة محاور، بينها المحور الإعلامي والمحور المالي عبر تهدئة المتعاملين المدنيين مع الجيش.
ما هي سماته الشخصية؟
ولأن محمود السيسي قليل الظهور في العلن، فإنه أصبح كرجل الظل بالنسبة للمصريين، والذي لا يعرف أحد عنه شيئاً، ولا حتى طريقة تفكيره.
أحد القيادات المدنية المحسوبة على التيار الديمقراطي والتي حضرت الاجتماعات التحضيرية خلال فترة إعداد قائمة "في حب مصر" التي سيطرت لاحقاً على البرلمان المصري، تحدث إلى "عربي بوست" عن تركيبة محمود السيسي الشخصية.
وقال الرجل الذي رفض بالطبع الكشف عن اسمه: "حضرت جلستين من تلك الجلسات، وكان محمود السيسي حاضراً، ومن دون أدنى شك فإن التقارير الصحفية المنشورة عن دور محمود السيسي في تشكيل البرلمان حقيقية تماماً".
وكانت مواقع مختلفة نشرت تقارير عن أعضاء غرفة العمليات التي كانت تدير المشهد الانتخابي عام 2015، بهدف تشكيل قائمة موحدة تمثّل النظام السياسي في مصر. جاء ذلك بعد فتح باب الترشح للانتخابات البرلمانية التي كان مقرراً لها أكتوبر/تشرين الأول 2015.
وبالعودة للقيادي السياسي، فقد ذكر بعض صفات نجل الرئيس الشخصية "من اللحظة الأولى يمكن بوضوح إدراك أن هذا الشاب هو المتحكم الحقيقي في مجريات الأمور، وأنه الرقم الأهم على المنضدة".
وأضاف: "تقييمي لهذا الشاب أنه شاب صاحب خلق ضيق، ولا يقبل الرأي الآخر بتاتاً، ويمكن وصفه بالغرور إلى حد بعيد".
لكنه أوضح أن هذا الشاب يملك في الوقت نفسه "حساً تنظيمياً جيداً، ولا أريد القول إنه شخصية تآمرية، لكن يمكنني القول إنه يجيد تحريك القطع والمناورة بها".
وذكر أن هذه الاجتماعات التي حضرها شهدت "درجة من درجات الترهيب لا تخطئها عين"، موضحاً أن محمود السيسي لعب دوراً بارزاً في ترسيخها، "الرجل يتحدث بالقبضة الأمنية لا بالعقل السياسي"، على حد تعبيره.
ما أشبه اليوم بالبارحة!
في ظل هذه المعلومات التي أصبحت فجأة متاحة أمام الشعب المصري، كان من الطبيعي أن يتفجر الغضب الشعبي، خصوصا أن تاريخ الاستبداد وفساد أسرة الرئيس يبدو أنه يتكرر بعد أن أطاحت ثورة يناير/كانون الثاني 2011 بأسرة ديكتاتور آخر فاسد هو حسني مبارك.
ما يحدث من جانب السلطات المصرية منذ مظاهرات الجمعة الماضي من تركيز الإعلام على ربط التظاهر والاحتجاج بوجود مؤامرة خارجية تستهدف استقرار البلاد، وقيام الأجهزة الأمنية بحملة اعتقالات طالت ما يقرب من 3 آلاف شخص منهم رؤساء ومسؤولو معظم الأحزاب المدنية، إلى جانب وضع كمائن أمنية على الطرق الرئيسية وفي محيط ميدان التحرير (رمز الثورة في مصر)، كلها أساليب أمنية تم تطبيقها عام 2011 لكنها فشلت في احتواء الغضب الشعبي.
الشيء الوحيد هذه المرة هو قيام الكمائن الأمنية بالتفتيش في أجهزة الهواتف الشخصية دون السؤال عن تحقيق إثبات الشخصية، ويكون قرار اعتقال الشخص مرتبطاً بما يوجد على هاتفه الشخصي وتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، وقد قال عدد من الشباب لموقع "عربي بوست" إنهم يضعون "صورة السيسي على الشاشة الخارجية للهاتف تفادياً لأن يتم اعتقالهم".