مازالت قضية الحركيين تمثل إحدى أبرز المشكلات الناتجة عن الاستعمار الفرنسي للجزائر، وهي تقدم نموذجاً واضحاً لمصير من يتعاون مع المحتل ضد بلاده.
وعندما قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في سبتمبر/أيلول من العام الماضي، بتكريمهم العام الماضي أثار ذلك استياء العديد من الجزائريين.
ولم تكن المرة الأولى التي يُكرَّم فيها حركيون. فقد سبق أن شهدت فرنسا مبادرات مماثلة عامي 2011 و2014، لكنها المرة الأولى التي يُكرَّم فيها هذا العدد الكبير.
إذ كرم ماكرون، 26 من الجزائريين الذين يعرفون باسم الحركيين، ومنح ستة منهم رتبة فارس في جوقة الشرف للدولة الفرنسية.
ويُظهر التكريم أن ماكرون المولود بعد حرب الجزائر، مصمم على كسر المحظورات المتصلة بإرثها التاريخي، كما فعل في انتقاده للاستعمار الفرنسي في الجزائر.
فمن هم الحركيون الذين يثيرون الجدل في فرنسا والجزائر على السواء؟
الحركي مصطلح يعني العميل أو الخائن، ويطلق على الجزائريين الذين حاربوا في صفوف الجيش الفرنسي ضد ثورة التحرير في بلادهم من 1954 إلى 1962.
ولكن لم تكن هذه هي بداية الحركي، ففي عام 1954 انطلقت حركة انتصار الحريات التي أسسها مصالي الحاج بعد الحرب العالمية الثانية، والتي انبثقت عنها جبهة التحرير الوطني، فكلمة الحركي كانت مشتقة من الحركة.
ونظراً لمعارضة الحركة فيما بعد لجبهة التحرير الوطني بات اسم الحركي يطلق على كل الذين عارضوا جبهة التحرير الوطني.
وشن الحركيون الحرب على "جبهة التحرير الوطني" التي كانت في نظرهم "جماعة إرهابية".
ويقول الرافضون لاتهام الحركيين بالخيانة، إن انضمامهم للجيش الفرنسي لم يكن خيانة، وإنما رد فعل ناجم عن خلافات مع جبهة التحرير حول سبل المقاومة، لاسيما أن الزعيم الوطني الجزائري، مصالي الحاج، نفسه، كان رافضاً للعمل المسلح ومتشبثاً بالعمل السياسي السلمي.
وبرّر المسؤول في الحركيين عبدالحميد بلعروسي انضمامهم إلى الجيش الفرنسي، رغم أنهم جزائريون بأن الجزائر كانت آنذاك فرنسية. "بالنسبة إلينا كنا نقاتل من أجل بلدنا، أي فرنسا"، على حد تعبيره.
عقب انتهاء حرب الجزائر، استقبلت فرنسا نحو 60 ألفاً من "الحركيين" الذين وصلوا إليها في ظل ظروف سيئة جداً، ولكنها تخلّت عن 55 إلى 75 ألفاً منهم، فتعرّضوا مع عائلاتهم لأعمال انتقامية أودت بحياة الآلاف منهم. وأغلب عمليات الانتقام الدامية التي تعرض لها "الحركيون" كانت من قبل قوميين، يرون في دورهم خيانة كبيرة للجزائر. وُضع اللاجئون إلى فرنسا في معسكرات في جنوبي البلاد، وعانوا من صعوبات في الاندماج، في حين راحت فرنسا تستقبل أعداداً كبيرة من المهاجرين الجزائريين لأسباب اقتصادية.
كسر محظورات حرب الجزائر
ويُظهر التكريم أن ماكرون المولود بعد حرب الجزائر، مصمم على كسر المحظورات المتصلة بإرثها التاريخي.
وتأتي خطوة التكريم ضمن خطوات أخرى اتخذها بها الرئيس الفرنسي مؤخراً، وسببت حالة من الجدل في فرنسا، ومنها اعترافه بممارسات التعذيب التي ارتكبها الجيش الفرنسي في الجزائر، إذ أقرّ أن بلاده أنشأت خلال حرب الجزائر ما قال إنه نظام استُخدم فيه التعذيب.
كما تقدم الرئيس الفرنسي في أواسط سبتمبر/أيلول بالاعتذار لأرملة موريس أودان، الناشط الشيوعي الذي مات تحت التعذيب وكان ضحية "النظام الذي أقامته فرنسا آنذاك في الجزائر" على حد تعبيره. وخدم في الجزائر ما لا يقل عن 130 ألف جندي فرنسي.
وكانت مجموعة عمل شكّلها الرئيس الفرنسي قد دعت، في يوليو/تموز الماضي إلى إنشاء "صندوق للتعويض والتضامن" بقيمة 40 مليون يورو لهؤلاء المقاتلين السابقين وأيضاً لأبنائهم، رغم أن هذا المبلغ أقل بكثير مما تطالب جمعيات معنية بقضيتهم.
وكان ممثلون عن الحركيين قد طالبوا ماكرون، في مطلع سبتمبر/أيلول 2018، بتعويض عن الأضرار التي تعرّضوا لها في نهاية حرب الجزائر، وذكّروه بالدعم الذي قدموه له عام 2017، ومهددين برفع دعوى ضد الحكومة الفرنسية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
بعد ذلك ببضعة أيام، جددت لجنة الاتصال الوطني للحركيين رغبتها في المضي بقضيتها "حتى النهاية" ورفعها أمام المحاكم الدولية، في حالة لم تحصل على ردّ مرضٍ من الحكومة الفرنسية.
ولكن جهود ماكرون هي امتداد لسلفه الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند.
إذ يمكن اعتبار سبتمبر/أيلول من عام 2016 تاريخاً فارقاً في تعامل فرنسا مع قضية الحركيين. حينها خرج الرئيس الفرنسي حينذاك فرانسوا هولاند، مقراً بمسؤولية بلاده عن التخلي عن "الحركيين الجزائريين"، خلال مراسم رسمية خُصصت لتكريمهم في باريس، في 25 سبتمبر/أيلول 2016.
وقال هولاند وقتها: "أعترف بمسؤوليات الحكومات الفرنسية في التخلي عن الحركيين، والمجازر التي طالت مَن بقي منهم في الجزائر، وشروط الاستقبال غير الإنسانية للذين نُقلوا منهم إلى فرنسا"، وسط تصفيق ممثلي الحركيين الحاضرين. وأضاف أن بلاده "نكثت بوعدها، وأدارت ظهرها لعائلات رغم أنها كانت فرنسية".