المهاجرون والصين أبرياء من أزمة الإنتاجية التي تشكو منها الدول الغربية، ومن يتسبب بهذه الأزمة يأتون من صلب الحضارة الغربية وليس من خارجها.
في مقال مهم للصحفي البريطاني مارتن وولفت يكشف عن كيف تؤدي السياسات التي يقوم بها رؤوساء الشركات الغربية الكبرى بالتسبب في تدمير الديمقراطية الليبرالية عبر سياساتهم التي تؤدي إلى نقص الإنتاجية.
أكبر جمعية لممثلي الأعمال الأمريكيين تعترف بالجريمة
"في حين أن كل من شركة من شركاتنا تعمل على خدمة الأهداف التجارية الخاصة بها، فإننا نتشارك التزاماً أساسياً إزاء جميع أصحاب المصالح لدينا".
يقول مارتن: بإعلانها هذه العبارة، تخلت جمعية "الطاولة المستديرة الأمريكية للأعمال"، التي تمثل الرؤساء التنفيذيين لـ 181 من أكبر الشركات في العالم، عن رؤيتها التقليدية التي اتبعتها لفترة طويلة بأن "الشركات موجودة، أساساً، لخدمة مساهميها".
هذه بالتأكيد لحظة مهمة. لكن ماذا تعني، وماذا ينبغي لها أن تعني، تلك اللحظة؟.
الأمريكيون الآن أفقر من آبائهم الذين عاشوا قبل عقود.. سر انخفاض الإنتاجية رغم التقدم التكنولوجي
تقتضي الإجابةُ الإقرارَ أولاً بحقيقة أن شيئاً قد جرى بشكل خاطئ تماماً. فقد تابعنا، على مدار العقود الأربعة الماضية، وخاصة في الولايات المتحدة التي تعد الأبرز، تصاعد ثالوثٍ مدمّرٍ، أركانه: تباطؤ نمو الإنتاجية، والارتفاع في معدلات عدم المساواة، والصدمات المالية الضخمة.
فقد أشار جاسون فورمان، من جامعة هارفارد، وبيتر أورزاج، من مؤسسة Lazard Frères، في ورقة عملٍ لهما في العام الماضي، إلى أن "متوسط دخل الأسرة الحقيقي [الناتج عن زيادة الإنتاج وليس زيادة الأسعار] في الولايات المتحدة ارتفع، خلال الفترة من عام 1948 إلى عام 1973، بنسبة 3% سنوياً.
وبهذا المعدل.. كان هناك فرصة تبلغ نسبتها 96% في أن يتمكن الطفل من تحصيل دخلٍ أعلى من دخل والديه. إلا أنه منذ عام 1973، شهدت الأسرة المتوسطة معدلَ نمو حقيقي في الدخل بلغ نسبة 0.4% فقط سنوياً.. ونتيجة لذلك، فإن 28% من الأطفال لديهم دخل أقل من الذي كان يتحصل عليه ذويهم".
ماذا تعرف عن الرأسمالية الريعية التي تأخذ أموال الناس بدون مبرر؟
فلماذا إذاً لا يحقق الاقتصاد معدلات نمو حقيقية؟ تكمن الإجابة في جزءٍ كبيرٍ منها في بروز ظاهرة الرأسمالية الريعية.
وتعني كلمة "ريع"، في هذه الحالة، المكافآت الزائدة والإضافية التي ينبغي دفعها لتوفير الإمدادات المطلوبة من السلع أو الخدمات أو الأرض أو العمالة.
وتشير "الرأسمالية الريعية" إلى الاقتصاد الذي يسمح فيه السوق والسلطة السياسية لأفراد وشركات معينة ذات امتيازات باستخراج قدر كبير من هذا الريع، أي زيادة حصتهم من الثروة بغير خلق ثروة جديدة ودون أي مساهمة إنتاجية، من باقي الأفراد جميعهم.
وقد يكون السبب تباطؤ التقدم العلمي
غير أن هذا لا يكفي لتفسير كل خيبة أمل واجهناها. إذ كما يقول روبرت جوردون، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة نورث ويسترن الأمريكية، إن معدل الابتكار الأساسي والأفكار الإبداعية قد تباطأ بعد منتصف القرن العشرين.
إضافة إلى أن التكنولوجيا قد ولّدت اعتماداً أكبر على الخريجين ورفعت من معدل أجورهم نسبياً، وهو ما يفسر جزءاً من بروز عدم المساواة.
لكن حصةَ شريحةِ الـ 1% العليا من العاملين أصحاب الدخول في الولايات المتحدة، فيما يخص دخل ما قبل اقتطاع الضريبة، قفزت من 11% في عام 1980 إلى 20% في عام 2014. ولم يكن ذلك يعود، بالدرجة الأولى، إلى التحول التكنولوجي القائم على المهارات الذي أشرنا إليه.
ما حقيقة تأثير الصين والمهاجرين على الاقتصادات الغربية؟
إذا استمع المرء إلى المناقشات السياسية في العديد من البلدان، ولا سيما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، سيخلص ظنه إلى أن السبب الأساسي في حالة الإحباط والركود هو الاعتماد على واردات الصين أو المهاجرين ذوي الأجور المنخفضة، أو كليهما.
فالأجانب كبش فداء مثالي. لكن الفكرة القائلة بأن السبب وراء تزايد معدلات عدم المساواة وتباطؤ نمو الإنتاجية هو الأجانب، فكرةٌ خاطئة بكل بساطة.
واليوم، ليس هناك دولة من الدول الغربية ذات الدخل المرتفع إلا وتتبادل التجارة مع الدول الناشئة والنامية أكثر مما كانت عليه قبل أربعة عقود. غير أن الزيادة في معدلات عدم المساواة تتباين بين الطرفين بدرجة كبيرة. إذ تعتمد النتيجة بالأساس على الكيفية التي تتصرف من خلالها مؤسسات اقتصاد السوق، والخيارات السياسية المحلية.
ويختتم الخبير الاقتصادي بجامعة هارفارد، إلهانان هيلبمان، استعراضَه لمجموعة من المؤلفات الأكاديمية المهمة حول هذا الموضوع، باستنتاج مفاده أن "العولمة في شكل التبادل الخارجي ونقل المصانع أو الاستثمارات إلى الدول النامية (offshoring) لم يكن لها دور كبير في ارتفاع معدلات عدم المساواة. وتشير دراسات متعددة لأحداث مختلفة جرت في أنحاء مختلفة من العالم إلى هذا الاستنتاج".
وربما يكون تحول المواقع الذي شهدته الكثير من الصناعات التحويلية، وخاصة إلى الصين، قد أسهم في تخفيض الاستثمار في الدول ذات الاقتصاد مرتفع الدخل بنسب قليلة. لكن هذا التأثير لا يمكن القول إنه كان قوياً لدرجة الحد من نمو الإنتاجية بشكل كبير. بل على العكس من ذلك، أدى التحول في التقسيم الدولي للعمل، بالاقتصادات مرتفعة الدخل إلى التخصص في القطاعات التي تتطلب مهارات مكثفة، لما كانت تنطوي عليه من إمكانات أكبر توفر فرص نمو سريع للإنتاجية.
أمريكا تعاني من العجز رغم أنها سياستها مشابهة للاتحاد الأوروبي
أما دونالد ترامب، وهو رجل يحمل رؤية اقتصادية مركنتيلية ساذجة إلى حد كبير، فيركّز على الاختلالات التجارية الثنائية في موازين التجارة سبباً لفقدان الوظائف.
ويصر الرئيس الأمريكي على أن هذه العجوزات تعكس صفقات تجارية سيئة. والحق أن الولايات المتحدة تعاني بالفعل من عجز في الميزان التجاري الإجمالي، في حين أن الاتحاد الأوروبي لديه فوائض، غير أن سياساتهم التجارية متشابهة إلى حد كبير. والسياسات التجارية لا تفسر الخلل في الميزان التجاري الثنائي. والميزان التجاري الثنائي بدوره لا يفسر الميزان الكلي/ الناتج المحلي الإجمالي. إذ أن الأخير ينتمي إلى ظواهر الاقتصاد الكلي macroeconomic، وثمة اتفاق بين النظرية والأدلة كليهما على ذلك.
وعلى الرغم من التأثير السياسي والثقافي الكبير الذي حملته "صدمة التعرف إلى الآخر الأجنبي"، فإن التأثير الاقتصادي لم يكن كبيراً.
إذ تشير الأبحاث بقوة إلى أن تأثير الهجرة على معدلات نمو الدخل الحقيقي للسكان الأصليين وعلى الوضع المالي للبلدان المستقبلة للمهاجرين كان ضئيلاً وكثيراً ما يكون إيجابياً.
ومن ثم فإن الأولى بنا والأكثر إفادة بكثير من هذا التركيز على الضرر الذي تسببه الصفقات التجارية السيئة وتزايد الهجرة، والذي وإن كان مربحاً من الناحية السياسية فإنه مستند على أسس واهية، أن نُخضع الرأسمالية الريعية المعاصرة ذاتها للفحص والمساءلة.
أساليب التمويل السرطانية أولى أسباب نقص الإنتاجية
إن للتمويل دوراً رئيساً، على مستويات عدة. ويميل التمويل المتحرر وسياسات التحرير المالي إلى الانبثاث مثل السرطان، بدعوى أن ذلك يعني قدرة القطاع المالي على إنشاء ائتمان وموارد مالية تموّل أنشطته الخاصة، وتعزز من دخله، وأرباحه (الوهمية في كثير من الأحيان).
وتقول دراسة أجراها ستيفن شيكيتي وإنيس خروبي في عام 2015 لصالح "بنك التسويات الدولية" Bank for International Settlements: "إن ارتفاع مستوى التنمية المالية جيد إلى درجة معينة، إذ بعد ذلك يصبح عبئاً على النمو، كذلك فإن القطاع المالي المتنامي بسرعة يضر بمعدلات النمو الإنتاجي الكلي".
وتجادل الدراسة بأنه عندما يشهد القطاع المالي نمواً متسارعاً، فإنه يوظّف أعداداً متزايدة من الموهوبين. وهؤلاء بعد ذلك يلجأون للاقتراض مقابل الممتلكات، عبر ضمانات طويلة الأجل. وهذا نوع من هدر الموارد البشرية الموهوبة في اتجاهات غير منتجة، وعديمة الفائدة.
وتجدر الإشارة مرة أخرى إلى أن النمو المفرط للائتمان دائماً ما يؤدي إلى حدوث أزمات، كما بيّنت كارمن راينهارت وكينيث روغوف في كتابها This Time is Different. وهذا هو السبب في عدم تجرؤ أى حكومة حديثة على السماح للقطاع المالي الذي يُفترض أن السوق مُحركه، يشتغل دون مساعدة أو توجيه.
لكن هذا بدوره يخلق فرصاً ضخمة للاستفادة من عدم المسؤولية التي يتسم بها معظم الناس: وهكذا الرؤوس، يربحون، أما الذيول وباقي الناس، يخسرون. وهكذا فإن ثمة المزيد من الأزمات قادمة لا محالة.
كما أن حصة خبراء التمويل تمثل مشكلة
وتقود قروض التمويل أيضاً إلى ارتفاع في معدلات عدم المساواة. وقد أوضح توماس فيليبون، من كلية ستيرن للأعمال، وأرييل رشيف، من كلية باريس للاقتصاد، كيف أن حصة الأرباح النسبية للخبراء الماليين واستشاري التمويل قد انفجرت صعوداً في الثمانينيات مع تخفيف اللوائح المتعلقة بشروط القروض التمويلية.
وقدروا أن "الريع"، أو الأرباح الإضافية في هذا القطاع التي تفوق الأرباح اللازمة أو الضرورية لجذب الناس إلى الاستثمار في الصناعة، تمثل 30 إلى 50% من الفرق في الأجور بين الخبراء الماليين وبقية القطاع الخاص.
ولم يدفع التصاعد الهائل في قطاع التمويل بالقروض هذا منذ عام 1980 إلى نمو في معدلات الإنتاجية. بل إذا كان ثمة تأثير، فهو تخفيض معدلات النمو، وخاصة منذ أزمة التمويل العقاري في عام 2008.
أجور المسؤولين بالشركات عبء هائل عليها، والأخطر التلاعب بسعر الأسهم
وينطبق الشيء نفسه على التصاعد الهائل في الأجور في قطاعات إدارة الشركات، وهو شكل آخر من أشكال استخراج الريع.
كما تشير ديبورا هارجريفز، مؤسِّسة المركز البحثي High Pay Centre، إلى أنه في المملكة المتحدة، ارتفعت نسبةُ متوسطِ أجر المديرين التنفيذين إلى متوسط أجر العاملين العاديين، من 48 إلى 1 في عام 1998، لتصل إلى نسبة 129 إلى 1 في عام 2016. وارتفعت النسبة ذاتها في الولايات المتحدة من 42 إلى 1 في عام 1980، لتصل إلى 347 إلى 1 في عام 2017.
كتب الصحفي الأمريكي هنري لويس منكن، قائلاً: "لكل مشكلة معقدة، هناك إجابة واضحة وبسيطة وخاطئة".
وعلى النحو نفسه، أعطى الدفع المرتبط بضرورة زيادة سعر السهم الإدارةَ حافزاً كبيراً لرفع هذا السعر، من خلال التلاعب بنسب الأرباح أو اقتراض المال لشراء الأسهم، وكلاهما لا يضيف قيمة للشركات، لكن بإمكانه إضافة قدر كبير من الثروة للإدارة.
علاوة على المشكلة المتعلقة بضمانات الحوكمة من متابعة ومراقبة، تتمثل في تضارب المصالح، خاصةً فيما يتعلق باستقلالية مراجعي الحسابات.
يقول مارتن وولف "ما أرمي إليه باختصار، هو أن الاعتبارات المالية الشخصية متغلغلةٌ في عملية صنع القرار في الشركات".
وكذلك يذهب الاقتصادي الأمريكي المستقل، أندرو سميثرز، الذي يقول في كتابه Productivity and the Bonus Culture، إن تلك الاعتبارات تأتي على حساب استثمارات الشركات ومعدلات نمو الإنتاجية على المدى الطويل.
ضخامة الشركات تقتل المنافسة
وربما لا يزال هناك قضية أهم وهي تراجع المنافسة. يقول فورمان وأورزاج، في الورقة البحثية سالفة الذكر، إن ثمة أدلة على تزايد تركُّز السوق في الولايات المتحدة، وانخفاض معدل دخول شركات جديدة، وانخفاض حصة الشركات الناشئة في الاقتصاد مقارنة بثلاثة أو أربعة عقود مضت.
وتشير دراسات لـ"منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" OECD، وOxford Martin School، إلى اتساع الفجوات في معدل الإنتاجية وهامش الربح بين الشركات الكبرى وباقي الشركات.
وهذا يشي بضعف المنافسة وتزايد الأرباح الريعية الاحتكارية. علاوة على ذلك، ينشأ قدر كبير من الزيادة في معدلات عدم المساواة عن البون الشاسع في المكافآت الممنوحة لعاملين ذوي مهارات متماثلة بين الشركات المختلفة، وهذا أيضاً شكل من أشكال استخراج الريع.
ويعود تزايد ضعف المنافسة، في جزء منه، إلى وجود أسواق "الفائز يأخذ كل شيء تقريباً": حيث يحصل الأفراد الخارقون وشركاتهم على إيرادات ريعية احتكارية، لأن بإمكانهم الآن، على خلاف الآخرين، خدمة الأسواق العالمية بثمن بخس.
وتعد العوامل الخارجية لشبكات هؤلاء الأفراد والشركات –أي فوائد استخدام شبكة يستخدمها آخرون-، والتكاليف الهامشية الصفرية المكفولة من خلال احتكار منصات أساسية (مثل Facebook، وGoogle، وAmazon، وAlibaba، وTencent)، أبرز الأمثلة السائدة على ذلك.
سكان المدن الكبرى يفوزون
وثمة قوة أخرى، تتمثل في العوامل الخارجية المتوفرة للتركزات أو التجمعات السكانية، وهو ما أكد عليه بول كولير في كتابه The Future of Capitalism. إذ توفر الحواضر المركزية الناجحة، مثل لندن ونيويورك ومنطقة الخليج في كاليفورنيا، سبلاً لجذب ومكافأة الموهوبين وذوي المهارات.
ويؤدي هذا إلى تراجع الشركات والأشخاص المحاصرين في البلدات التي لم تطالها تلك المميزات. وتخلق التركزات السكانية، أيضاً، ريعاً، ليس فقط في أسعار العقارات، لكن في الإيرادات الريعية كذلك.
ومع ذلك، فإن الإيجار الاحتكاري ليس نتاج تلك القوى الاقتصادية الطبيعية –على ما تسببه من قلق- فحسب، بل هو أيضاً نتيجة متأثرة بالسياسات.
المعادلة الفاشلة.. الشركات الكبرى تستغل رفاهية المستهلك لوأد الصغار
ففي الولايات المتحدة، ذهب روبرت بورك، أستاذ القانون بجامعة ييل في سبعينيات القرن الماضي، إلى أن "رفاهية المستهلك" ينبغي أن تكون الأولوية التي تهدف إليها سياسة مكافحة ومنع الاحتكار. وكما هو الحال مع تعظيم قيمة حاملي الأسهم، فإن هذا الأمر يفرط في تبسيط قضايا معقدة. ومن ثم قاد، في هذه الحالة، إلى الرضا بوضع القوى الاحتكارية القائمة، مقابل أن تظل الأسعار المطروحة منخفضة.
وكما تحرم الأشجار الطويلة الشتلات الصغيرة من الضوء الذي تحتاج إليه للنمو، فإن الشركات العملاقة ربما تفعل مثل ذلك أيضاً.
وقد يجادل البعض، في لا مبالاة وإعجاب بالنفس، بأن الذي تراه الآن في الاقتصادات الرائدة هو، إلى حد كبير، بوادر "التدمير الخلّاق" الذي أثنى عليه الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر. والواقع أننا لا نرى القدر الكافي الإبداع أو التدمير أو نمو الإنتاجية، لدعم هذا الرأي وإقناعنا به.
وهم يجيدون التهرب من الضرائب
ويتمثل أحد الجوانب سيئة السمعة للسعي وراء الريع في محاولة تجنب الضريبة بشكل جذري. وفي الوقت الذي تستفيد الشركات (وكذلك المساهمون) من المنافع العامة، مثل الأمن والأنظمة القانونية والبنية التحتية والقوى العاملة المتعلمة والاستقرار الاجتماعي والسياسي، التي توفرها الديمقراطيات الليبرالية القوية في العالم، فإن الشركات تحظى أيضاً بوضع مثالي لاستغلال الثغرات الضريبية، وخاصة تلك الشركات التي يصعب تحديد مواقع الإنتاج ومعامل التحضير والاختراع التي تستخدمها.
إن أكبر التحديات في نظام الضريبة على الشركات هي التنافس الضريبي بين الدول الذي يتيح للشركات التهرب عن طريق الانتقال إلى دول أخرى، واستراتيجيات تآكل الوعاء الضريبي، وتحويل الأرباح.
ونرى أثر المنافسة الضريبية في انخفاض معدلات الضرائب، في الوقت الذي تتجلى استراتيجيات تحويل أرباح الملكية الفكرية إلى الملاذات الضريبية، وفي فرض دين معفى من الضرائب على الأرباح المتحققة في الدوائر القضائية التي تفرض ضرائب عالية، وفي تزوير أسعار التحويل داخل الشركات.
كشفت دراسة أجراها صندوق النقد الدولي في عام 2015 أن استراتيجيتي تآكل الوعاء الضريبي وتحويل الأرباح قد قلّصا من الإيرادات السنوية طويلة الأجل في دول منظمة التعاون الدولي والتنمية، بنحو 450 مليار دولار (1% من الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول).
وفي غير الدول الأعضاء بما يزيد قليلاً على 200 مليار دولار (1.3% من الناتج المحلي الإجمالي). وهذه أرقام مهمة في سياق ضريبةٍ زادت بمتوسط 2.9% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016 في دول منظمة التعاون، و2% فقط في الولايات المتحدة.
يبين براد سيتسر من "مجلس العلاقات الخارجية"، أن الشركات الأمريكية تصل أرباحها في الملاذات الضريبية الصغيرة (برمودا ومنطقة البحر الضريبي البريطانية وأيرلندا ولوكسمبورغ وهولندا وسنغافورة وسويسرا) إلى سبعة أضعاف الربح الذي تحققه في ستة اقتصادات كبرى (هي الصين وفرنسا وألمانيا والهند وإيطاليا واليابان).
يعلق مارتن وولف وهذا شيء سخيف وغير معقول. ولم يشهد الإصلاح الضريبي في ظل إدارة السيد ترامب أي تغيير جوهري. ولا حاجة بنا للقول إن الشركات الأمريكية ليست وحدها التي تستفيد من مثل تلك الثغرات.
وفي مثل تلك الحالات، لا يُستخرج الريع فحسب، بل ويُنشأ، من خلال ضغط جماعات المصالح من أجل التلاعب والاستخدام غير العادل للثغرات الضريبية، ومناهضة اللوائح التنظيمية المتعلقة بعمليات الدمج، والممارسات المعادية للمنافسة، وسوء السلوك المالي، والبيئة، وأسواق العمل. وخلال ضغطها لتحقيق مصالحها، تسحق الشركات مصالح المواطنين العاديين. والواقع أن بعض الدراسات تشير إلى أن رغبات واحتياجات الأشخاص العاديين ليس لها وزن على الإطلاق في صنع السياسات.
من هنا ظهر نموذج ترامب
وبما أن باتت بعض الاقتصادات الغربية تشابه أكثر فأكثر اقتصادات أمريكا اللاتينية في توزيعها للدخل، فليس من المستغرب أن تزداد التشابهات على مستوى السياسات أيضاً.
ومن ثم فقد غدا بعض الشعوبيين الجدد يرون أن الحل في تغييرات جذرية، ولكنها ضرورية، في سياسات المنافسة والتنظيم والضرائب.
في الوقت الذي يعتمد آخرون على شماعة كراهية الأجانب في الترويج لرأسمالية متلاعب بها لصالح نخبة محدودة. إن تلك الأنشطة قد تقود في النهاية إلى موت الديمقراطية الليبرالية ذاتها.
ومن ثم، فإن هناك أسئلة ملحة ينبغي لأعضاء جمعية الطاولة المستديرة الأمريكية للأعمال أن يطرحوها على أنفسهم.
وهم محقون بالفعل في أن الاقتصار على السعي إلى تعظيم قيمة استثمارات المساهمين قد ثبت أنه دليل مشكوك فيه لإدارة الشركات، لكن الواقع أن هذا الإدراك هو بداية الأمر وليس نهايته.
إذ أنهم بحاجة إلى أن يسألوا أنفسهم ما الذي يعنيه هذا الفهم وتأثيره في الطريقة التي يحددون بها رواتبهم الخاصة، وفي استغلالهم –بل وخلقهم- الثغرات الضريبية والتنظيمية لتعظيم أرباحهم.
ويتعين عليهم، على الأقل، التفكير في أنشطتهم من جهة تأثيرها في الساحة العامة. ماذا يفعلون لضمان قوانين أفضل تخضع لها هياكل الشركات، ونظام ضريبي فعال، وشبكة أمان للذين يعانون من قوى اقتصادية خارجة عن إرادتهم، وبيئة محلية وعالمية صحية وديمقراطية تستجيب لمصالح أغلبية واسعة من الناس؟
يقول وولف "إننا نحتاج إلى اقتصاد رأسمالي ديناميكي يمنح الجميع إيماناً معقولاً ومنطقياً بأنه يمكنهم المشاركة في الاستفادة منه. لأن ما يبدو أنه لدينا الآن، بدلاً من ذلك، وعلى نحو متزايد، هو رأسمالية ريعية غير مستقرة، ومنافسة تتضاءل، ونسب نمو إنتاجي ضعيفة، وارتفاع في معدلات عدم المساواة.
ويضيف "ومن ثم فليس من قبيل المصادفة، أن نشهد تدهور الديمقراطية بشكل متزايد. وإصلاح كل ذلك يعد تحدياً لنا جميعاً، ولكن بشكل خاص لأولئك الذين يتحكمون في أهم الشركات في العالم. لابد أن تتغير الطريقة التي تشتغل من خلالها أنظمتنا الاقتصادية والسياسية، وإما ستنهار جميعها.