إيران لم تكن يوماً «دولة طبيعية».. وهذا ما لا يفهمه ترامب وفريقه لذلك يخسرون

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2019/09/12 الساعة 10:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/09/12 الساعة 11:06 بتوقيت غرينتش
قوات من الحرس الثوري الإيراني في سوريا/ مواقع تواصل

إيران تسيطر على عواصم عربية بشكل مباشر ومعلن مثل بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء، وبينما يعتقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته أن تصرفات إيران "غير الطبيعية" وليدة الثورة منذ أربعة عقود فقط، فإن الواقع مختلف، كيف ذلك؟

في تقرير نشره موقع لوب لوغ الأمريكي، تناول محمد عطايي، الصحفي الإيراني المرشَّح للحصول على دكتوراه في التاريخ من جامعة ماساتشوستس، قصة إيران كدولة توسعية، تحت عنوان: "هل إيران غير طبيعية؟". 

وصف يفتقد للدقة 

من المألوف بين مسؤولي إدارة ترامب أن يصفوا إيران بأنها "غير طبيعية"، إذ قال مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي: "إذ لم تتصرف إيران تصرفات دولةٍ طبيعية"، ستستمر حملة عقوبات "الضغط الأقصى التي تمارسها واشنطن ضدها". وحتى في الأيام الأخيرة، وسط ظهور بوادر مؤشرات انفراجةٍ محتملة في الأزمة بين إيران والولايات المتحدة، قال بومبيو ومستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون إنَّ إيران يجب أن تصبح دولة "طبيعية".

ومن منظور الإدارة الأمريكية، ستصبح إيران دولة طبيعية حين تتخلى عن الأيديولوجية الثورية التي تقود توسعها الإقليمي، الذي يصفه خصومها بأنه "احتلال" أربع عواصم عربية: بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجون بولتون/رويترز
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجون بولتون/رويترز

صحيحٌ أنَّ السياسات الإقليمية الإيرانية تتأثر نوعاً ما بالأيديولوجية الثورية، لكنَّ كلَّاً من توسُّع إيران في العالم العربي ودعمها بعض الجماعات المسلحة غير الحكومية لم يبدأ مع الثورة التي أطاحت بالملكية في عام 1979، بل تعد السياسات الإقليمية للجمهورية الإسلامية مجرد استمرارٍ لسياسات إيران في عهد الشاه بهلوي، وليست انعكاساً لعقلية ثورية. وهذا يتنافى تماماً مع ما ذكره بومبيو عن أنَّ إيران تعد "غير طبيعية منذ أربعة عقود"، فهذه العبارة تتجاهل السياقين الجيوسياسي والتاريخي للسياسات الإقليمية للجمهورية الإسلامية باختزالها في مجرَّد أجندةٍ أيديولوجية.

ثورة تواصل السمة الأساسية لعهد الشاه

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الثورات تتخلَّص من بعض سياسات الأنظمة البائدة وتواصل البعض الآخر. وثورة 1979 ليست استثناءً. إذ أثارت إطاحة الشاه، الذي كان الكثيرون يعتبرونه دميةً في يد أمريكا، مشاعر عميقة وألهمت حِراكاً نشطاً في جميع أنحاء المنطقة. لكنَّ هذا الزوبعة الأولية والجهود الإيرانية لتصدير الثورة إلى دولٍ أخرى في الثمانينيات من القرن الماضي حلَّت محلها سياسةٌ خارجية إيرانية براغماتية بعد وفاة آية الله الخميني في عام 1989. 

آية الله علي خامنئي بين قادة الحرس الثوري
آية الله علي خامنئي بين قادة الحرس الثوري/ فارس

وبالرغم من طول فترة استخدام إيران للهجة الخطاب الثورية، فإنَّ السياسات الإقليمية الإيرانية الحالية تمثِّل تكراراً من عدة جوانب لسياسات النظام الملكي الإيراني في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين اتبع الشاه محمد رضا بهلوي استراتيجيةً تهدف إلى احتواء خصوم إيران الإقليميين في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه.

أجندة الشاه الإقليمية

بعد تعزيز سلطته داخل إيران بحلول منتصف الخمسينيات، تحوَّل انتباه الشاه إلى التهديدات الماركسية والقومية العربية المتطرفة التي كانت تهدد عرشه من جميع أنحاء العالم العربي. نشأت هذه التهديدات في الأساس من صعود الناصرية، وسقوط النظام الملكي العراقي في عام 1958، وإطاحة الملك اليمني في عام 1962، والحرب الأهلية التي أعقبت ذلك واستمرت ثماني سنوات في اليمن، وإنشاء جمهورية جنوب اليمن الماركسية في عام 1967، والثورة الليبية في عام 1969. وسعياً لاحتواء الطفرة الناصرية واليسارية، أقام تحالفات مع بعض الملوك العرب، وأصدر أوامر لشرطته السرية، التي كانت معروفة باسم سافاك، لدعم تكتُّلٍ من القوى المناهضة للناصرية واليسارية في الشرق الأوسط. .

الوجود الإيراني في لبنان

وعلى عكس ما ذكر بومبيو عن الدعم الإيراني للجماعات المسلحة غير الحكومية على مرِّ العقود الأربعة الماضية منذ قيام الثورة، فإنَّ ثورة عام 1979 لم تكن هي التي أطلقت شرارة تدخُّل إيران في لبنان، ولا تدخُّلها في العراق واليمن، بل كان الشاه هو الذي نَشَر شباك تدخُّل النظام الإمبراطوري الإيراني في جميع هذه الدول لكبح جماح القوى المناهضة للملكية. ففي الستينيات من القرن الماضي، كان يُقدِّم الأموال والأسلحة لبعض الفصائل اليمنية الموالية للنظام الملكي التي كانت تحارب الخصوم الماركسيين والناصرية في مصر. وفي أعقاب الانقلاب العراقي عام 1958 ومقتل الملك العراقي فيصل الثاني، أطلق الشاه برنامجاً موسعاً لدعم المعارضة العراقية، بما في ذلك الأكراد وزعماء الدعوة الشيعية. 

واستمر دعمه العسكري للمعارضة الكردية والشيعية حتى عام 1975، حين سوَّت إيران والعراق الخلافات الحدودية بينهما. ومن عام 1972 إلى عام 1977، تدخَّل الشاه عسكرياً في عُمان لقمع ثورة ظفار اليسارية على السلطان قابوس.

وطوال عهده، كان الشاه حريصاً على نشر الوجود العسكري الإيراني خارج منطقة الشرق الأوسط لحماية ما اعتبره مصالح تجارية لإيران ضد تهديد الشيوعية في الخارج. وفي أوائل السبعينيات، مدَّت البحرية الإمبراطورية الإيرانية وجودها العسكري إلى المحيط الهندي لحماية المصالح الإيرانية البحرية، وضمان سلامة تصدير النفط إلى بقية أنحاء العالم. 

وفي عام 1974، أسس الشاه -بالتعاون مع رؤساء مصر وفرنسا والمغرب والمملكة العربية السعودية- تحالفاً دولياً ضد الثورات، يحمل اسم نادي السفاري، لمحاربة الشيوعية في إفريقيا، ودعم القوى المؤيدة للفصل العنصري في جنوب إفريقيا، مثل حزب يونيتا في أنغولا.

بوابة نشر النفوذ

ومن بين جميع تدخلات الإمبراطورية الإيرانية في المنطقة في عهد الشاه، ليس هناك تدخلاً أكثر إثارةً للاهتمام من تدخُّلها في لبنان، التي اعتبرها القادة الإيرانيون قبل عام 1979 وبعده دولةً أساسية لنشر نفوذهم في الشرق الأوسط. وعلى عكس الاعتقاد السائد، فإنَّ حزب الله، الذي أنشئ في أوائل الثمانينيات، لم يكن أول مؤشرات تدخل إيران الحالي في لبنان، بل كان الشاه يعتبر لبنان هي الجبهة الإيرانية في الكفاح ضد التطرف. 

زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله/ رويترز

لذا لا عجب في أنَّ الشاه وضع منصور غدار -الذي كان ساعده الأيمن في المنطقة وكان شخصاً نافذاً للغاية في السافاك- في بيروت لمراقبة وكبح جماح القوى العربية والماركسية والمؤيدة للفلسطينيين داخل لبنان وخارجه. ومنذ منتصف الخمسينيات حتى أواخر الستينيات، كانت السياسة الإيرانية العليا في لبنان تهدف إلى التصدي لنفوذ جمال عبدالناصر في المنطقة.

ومع بدء تراجع شعبية الناصرية بعد حرب يونيو/حزيران من عام 1967، تحوَّل انتباه الشاه إلى الفلسطينيين ودعمهم للمنشقين الإيرانيين الذين كانوا يتلقون تدريباتٍ عسكرية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ورداً على ذلك، احتضن بهلوي الساسة المناهضين لجمال عبدالناصر والقيادة الفلسطينية، بينما كان يقدم الأموال والأسلحة إلى الموارنة والشيعة في لبنان. وكان مفتاح استراتيجية الشاه هو المجتمع الشيعي اللبناني، إذ قدَّم الشاه الدعم المالي لرجال الدين والساسة "المعتدلين" وتولَّى تنفيذ بعض المشروعات، مثل المدارس والمستشفيات، لكسب ولاء المجتمع.

وكانت سياسات الشاه تتفق إلى حدٍّ ما مع النهج القديم الذي اتبعه الملوك الفارسيون منذ قرون، إذ كانوا يُطلقون على أنفسهم خارج حدودهم لقب "سلطان الشيعة". ومنذ عهد الإمبراطورية الصفوية التي حكمت بلاد فارس من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر، تعد إيران منارةً للشيعة في جميع أنحاء العالم، لا سيما في دولتي لبنان والعراق الحديثتين. وحتى بالنسبة للبهلويين، كانت الطوائف الشيعية مهمة جداً لدرجة أنَّ مسؤولي الشاه طرحوا فكرة إنشاء "اتحاد شيعي يضم إيران والعراق ولبنان".  لذا ليس هناك أساسٌ من الصحة لانتقادات بومبيو التي يقول فيها إنَّ الدعم الإيراني للميليشيات الطائفية نابعٌ من "الأيديولوجية الثورية". 

استمرارية ما بعد الثورة

وبعد عام 1979، بقي لبنان في مركز الاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، التي صارت مقترنةً الآن بأممية الثورة. وتجدر الإشارة هنا إلى وجود مزيجٍ من المثالية الثورية والتحديات الجيوسياسية وراء سعي الجمهورية الإسلامية إلى توسيع نفوذها في بلاد الشام وتشكيل محور دمشق-طهران. إذ بدأ تعاون الحكومتين السورية والإيرانية في أوائل الثمانينيات رداً على تزايد مخاوفهما المشتركة من العراق، بعد غزوها لإيران في عام 1980، وإسرائيل، بعد غزوها للبنان في عام 1982. وفي العقود التي أعقبت ذلك، تطورت العلاقات بين دمشق وطهران إلى شراكةٍ فعالة تهدف إلى احتواء النفوذ الأمريكي في المنطقة.

كان كبح بغداد تحدياً استراتيجياً ورثته الجمهورية الإسلامية عن الشاه. ففي منتصف سبعينيات القرن الماضي، أدت الخصومة بين حزب البعث العراقي الحاكم والنظام البعثي السوري ومزاعم سيادة العراق الإقليمية على جزء من الخليج وجنوب إيران إلى تقرُّب السوريين من الإمبراطورية الإيرانية. وكانت أول زيارة رسمية للرئيس السابق حافظ الأسد إلى طهران في ديسمبر/كانون الأول عام 1975، في الوقت نفسه الذي كانت فيه طهران وبغداد تسويان الخلافات الحدودية بينهما، وكان هدفها ضمان ألا تضر التسوية المؤقتة بين الدولتين بسوريا. ولم يزر الأسد الجمهورية الإيرانية الإسلامية حتى سبتمبر/أيلول عام 1990، أي بعد عشر سنوات من الثورة، ليضمن أن تظل إيران على حيادها في الحملة الدولية الوشيكة آنذاك لطرد القوات العراقية من الكويت.

لا يزال العراق من بين أهم التحديات الأمنية لإيران. وأوصلت النزاعات الحدودية كلا البلدين إلى حافة المواجهة العسكرية الكاملة عام 1969. وفي عام 1980، خرق صدام حسين اتفاق العراق مع إيران الذي أبرم بينهما عام 1957، الذي أدى إلى استقرار الحدود، وغزا إيران، وأدى هذا إلى حرب استمرت ثماني سنوات. زادت هذه الحرب المُكلِّفة من اهتمام الإيرانيين العميق أصلاً بوضع نظام صديق في السلطة في بغداد. وبعد عام 2003، منح الغزو الأمريكي للعراق إيران فرصة ذهبية لتوسيع وتعزيز نفوذها في العراق. وعملت إيران عن طريق شبكة من القوات الشيعية والكردية، تلقّى الكثير منها دعماً من إيران لعقود، لضمان ألا يتحول عراق ما بعد صدام إلى بؤرة موالية لأمريكا ضد طهران.

وعلى النقيض من العراق والشام، لم يصبح اليمن محور دعم الجمهورية الإسلامية للجهات الفاعلة غير الحكومية إلا بعد أن بدأت السعودية حملة الغارات الجوية التي لا تزال قائمة على قوات الحوثيين في اليمن عام 2015. ورغم أن طبيعة المساعدة العسكرية التي حصل عليها الحوثيون من إيران ليست واضحة، أكسب دعمهم إيران موطئ قدم في الجهة الجنوبية للسعودية وفرصة لتشتيت وإضعاف الرياض، منافستها الإقليمية.

إيران لم تكن يوماً "دولة طبيعية" 

يتناقض الثبات في السياسات الإقليمية الإيرانية قبل عام 1979 وبعده مع عبارة "دولة طبيعية" الجوفاء التي يرددها بومبيو وآخرون في إدارة ترامب لتبرير حملة "الضغط الأقصى" على طهران. تُظهر أوجه الشبه بين الحقبة الملكية والدينية أن سياسات إيران الإقليمية مرتبطة بالتاريخ والجغرافيا السياسية، إذ إن الشاه ورجال الدين اتبعوا استراتيجية دعم الجهات الفاعلة غير الحكومية والاستفادة من الروابط التاريخية والدينية مع الطوائف الشيعية في المنطقة لتشكيل قوة ردع للتهديدات المتوقعة.

بدايات الحرس الثوري الإيراني عام 1979، طهران/ AP

كانت المخاوف من التهديدات الإقليمية والدولية هي ما شكّل السياسة الإيرانية، وليس الأيدولوجية الثورية. وتمتد هذه الاستراتيجية المتمثلة في دعم الجهات الفاعلة غير الحكومية والقوات الشيعية في أنحاء المنطقة على طول ستة عقود على الأقل، وليس أربعة، مثلما يزعم مسؤولو ترامب. إذا كان ترامب، مثلما أشار خلال قمة مجموعة السبع في فرنسا، يسعى إلى "صفقة أفضل" تتناول، من بين أمور أخرى، سياسات إيران الإقليمية، فسيتعين عليه أولاً أن يفهم الأساس المنطقي وراء هذه السياسات، وأن يعترف بالتحديات الجيوسياسية التي هي محور نفوذ إيران في المنطقة. وفي النهاية، ثبت نجاح هذا النهج في إبرام الاتفاق النووي التاريخي عام 2015، حين اعترفت الإدارة السابقة، على حد تعبير الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما، "بمخاوف إيران الدفاعية المشروعة" في المنطقة.

تحميل المزيد