نقرأ من وقت لآخر عن القبض على باحث أو أكاديمي أو صحفي متهم بالعمل جاسوساً لدولة أجنبية، وتتضارب التقارير، وتحدث محاكمات نعرف فقط بنتائجها التي غالباً ما تكون أحكاماً بالسجن مدى الحياة، وفي أحيان أخرى يفقد الباحث حياته، فما هو الخط الفاصل بين البحث الأكاديمي والجاسوسية خصوصاً في مجالي حقوق الإنسان والتسليح؟
شانا مارشال، مديرة في مشروع أبحاث ومعلومات الشرق الأوسط بواشنطن، تناولت الموضوع الشائك من خلال قصة حقيقية لا تنقصها أي من عناصر روايات الرعب تخص "زميل باحث" ونشرها موقع لوب لوغ الأمريكي، ألقت الضوء على قصة صعود أبوظبي كقوة إقليمية تتدخل في شؤون دول المنطقة استعراضاَ للقوة على حساب قصة دبي كمركز مالي وتجاري عالمي، وكيف دفع الباحث الأكاديمي ثمناً باهظاً لنبشه في ذلك الملف.
بداية القصة
في مايو/أيار 2018، ألقت السلطات الإماراتية القبض على ماثيو هيدجيز (مات) – أكاديمي بريطاني وباحث يعد للدكتوراه في جامعة دورهام – وهو يقوم بأبحاث ميدانية، وظل ماثيو في حبس انفرادي لمدة سبعة أشهر، حيث تعرض للاستجواب بشكل يومي مع حرمانه من أي تواصل مع محامٍ. تم القبض على ماثيو في مطار دبي أمام أعين والدته التي كانت تعيش هناك بعد أن أوصلته كي يستقل الطائرة عائداً إلى بريطانيا. ولم تظهر أنباء القبض على ماثيو في الأخبار إلا بعد القبض عليه بنحو 6 أشهر، عندما لجأت أسرته للإعلام بعد فشل المحاولات الدبلوماسية للإفراج عنه.
وتمت محاكمة ماثيو بتهمة التجسس لصالح الحكومة البريطانية، وأدين وصدر الحكم عليه بالسجن مدى الحياة، لكن تم العفو عنه بعد أسبوعين وترحيله إلى بريطانيا. السلطات الإماراتية لا تزال مصرة على أن ماثيو كان يعمل جاسوساً لصالح المخابرات البريطانية، وتدلل على ذلك بفيديو له وهو يعترف بمحاولاته لاكتشاف أسرار الإمارات العسكرية، بما فيها تفاصيل عمليات شراء الأسلحة.
ماذا كان يفعل؟
عندما ألقي القبض عليه كنت أعمل أنا وماثيو على مشروع بحثي بشأن دور المؤسسات المالية في تسهيل إقامة مشاريع إنتاج أسلحة في بعض الدول الخليجية، وفي آخر رسالة بريدية منه بتاريخ 26 إبريل/نيسان قال إنه حدد موعداً لمقابلتين مع مسؤولين إماراتيين يعملون في مكاتب شركة أمريكية بارزة تعمل في مجال الأسلحة هناك، بينهما الشخص المسؤول عن اتفاقيات المشاركة الصناعية التي تنقل الخبرات التقنية من عمليات شركة لوكهيد الأمريكية للشركات المحلية في الإمارات. ولكن تم القبض عليه بعدها بعدة أيام.
ربما يعتقد الشخص العادي أن الوصول لمعلومات هامة ومفصلة عن أنظمة التسليح أو القدرات العسكرية لأي دولة يتطلب مهارات خاصة أو شبكة اتصالات على أعلى مستوى ربما لا يمتلكها إلا جاسوس، لكن حقيقة الأمر هي أن الغالبية العظمى من تلك المعلومات متاحة وموجودة في مصادر مفتوحة يمكن لأي شخص لديه اتصال بالإنترنت أن يصل إليها!
صناعة الأسلحة العالمية وتعقب الأثر
صناعة الأسلحة مثلها مثل أي صناعة أخرى، يعمل فيها عدد ضخم من الموظفين والمهنيين في مجالات الاستشارات والمعلومات والعلاقات العامة وجماعات الضغط وتنظيم المعارض والمؤتمرات الخاصة بالصناعة، إضافة لصحفيين وناشرين لتقارير وأبحاث خاصة بتلك الصناعة ومجلات ونشرات إخبارية وقواعد بيانات.
وينتج عن هذه الأنشطة كلها أوراق ومستندات لا حصر لها، ويوجد بالفعل مئات من قواعد البيانات التجارية والكتالوجات التي تغطي كل شيء من التوجهات في قوانين التسليح لمبيعات المعدات الخاصة بالغواصات. وعلى الرغم من أن تلك الأنشطة تتم تحت مظلات شركات عملاقة متعددة الجنسيات، فالكثير من عملياتها التشغيلية تكون تحت إدارة مديرين تنفيذيين من عسكريين أو مسؤولين حكوميين أو ضباط مخابرات سابقين، يستغلون علاقاتهم الشخصية لإعداد تقارير عن مفاوضات المبيعات ونقاط الاختناق في سلاسل الإمداد والهياكل الإدارية أو قائمة الضيوف في حفل خيري ينظمه تاجر أسلحة.
ويمكن لأي بحث يعده منافس في مجال صناعة الأسلحة أن يستخدم كأداة تجارية، ومن المعروف أن أكثر قاعدة بيانات شمولية وتفصيلاَ بشأن تجارة الأسلحة ونقلها ينتجها معهد أبحاث السلام الدولي في ستوكهولم، وهذه القاعدة يستخدمها تجار الأسلحة المرخصون للتعرف على عملائهم المحتملين من مشتري الأسلحة، كما يستخدمها تجار الأسلحة في السوق السوداء بالقدر نفسه.
ولكن على الرغم من أن قواعد البيانات تلك عبارة عن مصادر معلومات مفتوحة ومتاحة للجميع، إلا أنه من الصعب جداً الوصول للمعلومة المطلوبة، نظراً لوجود ملفات ضخمة ومعلومات متناثرة وربما لا يعرف من يريد معلومة محددة أين يبحث أو حتى عن ماذا يبحث. ونظراً لوجود أعداد كبيرة من الشركات والهيئات التي تعمل في مجالات الأسلحة، سواء كانت حكومية أو خاصة، فهم دائماً يدفعون أموالاً طائلة لأي شخص لديه خلفية جيدة في كيفية الوصول للمعلومات التي يحتاجونها كي يتولى بنفسه البحث عن تلك المعلومة وسط هذا الكم الهائل من المعلومات.
لا توجد أسرار.. ولكن
هذه المواد المعلوماتية يستخدمها أيضاً صحفيون استقصائيون وباحثون وأكاديميون في عملهم، ومَن من هؤلاء يتوفر له الوقت والمال للاطلاع على تلك المواد بتمعن يمكنه أن يتوصل بصورة شبه دقيقة لتفاصيل الترسانة العسكرية لأي دولة من حيث بائعي الأسلحة وأيضا مواصفات تلك الأسلحة، وهذا المجال هو ملعب الباحثين والأكاديميين في مجالات الأمن والسياسات العسكرية، مثل المحلل العسكري جو ستورك الذي تعتبر مقالاته الكثيرة حول سوق الأسلحة والتي ينشرها في ميدل إيست ريبورت مرجعاً هاماَ لكثير من الباحثين المتدربين مثل ماثيو.
أول تواصل لي مع ماثيو كان عام 2014 وكان وقتها لا يزال يبحث عن جامعة بريطانية يسجل من خلالها رسالة الدكتوراه الخاصة به، وكنت قد قرأت مقالاً وجدت فيه ملاحظات لماثيو حول التغير في مناصب أفراد الأسر الحاكمة في الخليج والمقارنة بين من يتولى منهم منصباً عسكرياً وبين من يتولى منصباَ مدنياً. ويعتبر هذا المدخل نقطة هامة لمن يعملون في مجال صناعة الأسلحة، حيث إنه يسهل عليهم معرفة صاحب القرار الحقيقي في مبيعات الأسلحة مما يوفر كثيراً من الجهد والمال في عملية السعي لإبرام صفقة أسلحة.
كنت وقتها أجري بحثاً استقصائياً حول استثمارات بعض هؤلاء الأفراد في شركات في مجال التصنيع العسكري في الإمارات، وكنت أريد مشاركته في البحث من مدخل تحليلي حول كيفية تأثير التركيبة العالمية للتصنيع العسكري على المخرجات السياسية في الخليج.
وقد نشرت فصلاَ من كتاب حول الموضوع، لذلك عندما عدت إلى الموضوع نفسه مرة أخرى عام 2018، تواصلت مرة أخرى مع ماثيو ولكن هذه المرة كي يشاركني ككاتب لمقال صحفي، وقبل إلقاء القبض عليه بأيام، كنا نتناقش عبر البريد الإلكتروني حول أنواع أنظمة التسليح التي يتم تصنيعها في الإمارات: موقعها داخل منظومة اقتصاديات التسلح العالمية، وأي أدوات مالية ولاعبين مشاركين في عملية نشر التسليح، وكل ذلك يتم من خلال معلومات عامة متاحة للجميع ولا توجد أسرار في الموضوع.
تغييرات جذرية في المشهد
حتى وقت قريب لم تكن تتوفر معلومات كثيرة حول مغزى قيام أكاديمي بأبحاث تحلل الأنشطة العسكرية في دول الخليج، ببساطة لأنه لم يكن هناك معلومات من الأساس كي يتم تحليلها، باستثناء بعض التدريبات الرمزية المشتركة والأبحاث الاجتماعية حول تشكيلات القوات المسلحة في المنطقة، ومشاركات إماراتية محدودة في عمليات غير قتالية في أماكن مثل كوسوفو، وتركزت الدراسات والأبحاث الأكاديمية على دراسة الخليج في إطار إعادة تدوير "دولارات النفط" (استبدال فائض رأس المال من عائدات النفط بالمعدات العسكرية الغربية باهظة التكاليف) أو الخليج كموضوع للتدخل العسكري، ولكن لم تكن هناك دراسات حول كون الإمارات عميلاً لشركات التصنيع العسكري.
لكن ضعف قبضة السيطرة الأمريكية في الخليج في أعقاب حرب العراق الكارثية والأزمة المالية العالمية في 2008، إضافة للتوسع الدرامي لسلاسل الإمداد العسكري وأبحاث التسليح في الخليج، أدت لاحتمالية وجود مجال بحثي واعد، ومن خلال دراستي الممتدة لهذا الموضوع توفرت لدي معلومات كثيرة عن أنظمة التسليح وقدراتها وأسعارها وتأثيرها وأساليب بيعها وأين يتم تصنيعها والأنظمة واللوائح ذات الصلة.. إلخ.
تعلمت هذه التفاصيل ليس لأنني جاسوسة، ولكن لأنني أردت أن أفهم كيفية ومدى تأثير السياسات المالية لشركات التسليح متعددة الجنسيات على حركة التسليح في منطقة الخليج.
وعلى الرغم من أنني قضيت أوقاتاً طويلة في المنطقة كطالبة دراسات عليا، إلا أنني لم أسافر قط إلى الإمارات، حيث توفرت لدي معظم ما كنت أبحث عنه من معلومات من خلال المصادر المفتوحة عبر الإنترنت وأنا موجودة في واشنطن، والآن بعدما تعرض له ماثيو بالطبع ربما لن أقدم أبداً على مخاطرة زيارة الإمارات تحت أي ظرف من الظروف!
جواسيس أم طلاب علم؟
لابد هنا من ذكر حقيقة ثابتة، وهي قيام الدول الغربية والولايات المتحدة بتقويض حكومات إقليمية – بما فيها حكومات منتخبة ديمقراطياً على قلتها – باستخدام جواسيس وعملاء ينتحلون صفة باحث أو أكاديمي أو موظف عام أو رجل أعمال. ولهذا الإرث دلالاته الواضحة في سياسات اليوم، حيث تتهم السلطات بشكل مستمر أي معارض ينادي بالديمقراطية بتهم العمالة لدولة أجنبية والتخريب وغيرها.
تلك السلطات الأوتوقراطية الديكتاتورية التي تتمتع بدعم مطلق من واشنطن والدول الغربية تتهم أعداءها من الساعين للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان بأنهم عملاء للغرب وللولايات المتحدة!
والأثر الآخر لتلك الحقيقة التاريخية هو إصابة تلك الأنظمة بداء الارتياب المرضي الذي يجعلها غير قادرة على التفريق بين الباحث الأكاديمي والجاسوس، وربما كنت سأتعاطف مع السلطات الإماراتية لو أنها لم تقم بترويع ماثيو واستجوابه بصورة تخلو من أدنى الاحترام لحقوقه وحرمانه من حق الدفاع عن نفسه وحبسه انفرادياً لسبعة أشهر.
صورة الإمارات الخادعة
لقد أنفقت الإمارات ببذخ وبذلت جهوداً جبارة كي تصور نفسها على أنها واحة التسامح والتنوع في منطقة الخليج، وفتحت فروعاً لجامعات كبرى مثل السوربون ونيويورك، كما مدت جسوراً ثقافية مع متاحف عالمية مثل اللوفر، وأكسبت نفسها سمعة طيبة في الأوساط الإعلامية والسياسية والثقافية في الغرب والولايات المتحدة.
لكن كل ذلك ثبت أنه استثمار رخيص حيث تلقي أموالاً باهظة في مشاريع تافهة بينما قدسية حرية البحث وعدالة المحاكمة لا وجود لها. ولنتصور هنا أن سوريا هي من قبضت على ماثيو واحتجزته معزولاَ لمدة سبعة أشهر في حبس انفرادي ولم تسمح له سوى بزيارة واحدة لا معنى لها من محامٍ وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة في محاكمة هزلية استغرقت خمس دقائق، وماذا لو كانت إيران هي من قامت سلطاتها الأمنية بقتل الباحث الإيطالي ريجيني كما فعلت مصر عام 2016 وشاركت أذرع النظام كله في التغطية على الجريمة؟ كيف كان رد الفعل سيكون وقتها؟
إن المعايير المزدوجة التي يتم تطبيقها في مثل هذه الحالات من جانب الحكومات الغربية وواشنطن هي ما يشجع الإمارات على أن تواصل تلاعبها بالقوانين وتعديها على الحريات بهذا الشكل الفج دون أي اعتبار لرد فعل أو عقاب من المجتمع الدولي طالما تواصل مراكز تحسين الصورة عملها بكفاءة.
الورقة البحثية المشتركة التي كنت أخطط مع ماثيو لإنجازها كانت تركز على التدقيق في دور المؤسسات المالية العالمية (القطاع الخاص والأموال المخفية والبنوك الدولية) في دعم نمو هيكل صناعة تسليح في الخليج، من خلال أموال النفط وجيل جديد من الحكام مهووسين بالقوة واستعراضها من خلال التدخل في شؤون غيرهم، مما جعل الخليج ليس فقط أكبر مشترٍ للأسلحة ولكن أيضاً شريكاً في صناعة التسليح.
لم تعد قصة الإمارات اليوم هي قصة دبي كمركز مالي وتجاري عالمي، بل هي قصة أبوظبي كلاعب إقليمي بارز في مجال تطوير الأسلحة ذات التقنيات العالية، وتتمثل أهمية هذه الورقة البحثية في أن مواقع الإنتاج العسكري الناشئة تلك تمثل صعوداً جديداً وخطيراً لأيديولوجيات التدخل في شؤون الغير عسكرياً وسياسياً.
وبالقطع ليس من قبيل المصادفة أن عقدين من التمويل في مجالات البحث والتطوير العسكري في الإمارات بدأت تظهر آثارهما من خلال التدخل المسلح في اليمن وليبيا والقرن الأفريقي.
في هذا الإطار يأتي القبض على ماثيو واحتجازه كرسالة واضحة من السلطات الإماراتية بأن البحث في صناعة الأسلحة المتنامية داخل الدولة ممنوع، بنفس القدر من الملاحقة والتعذيب والسجن الذي يتعرض له الباحثون في مجال حقوق الإنسان هناك.