دمار وقصف وآلام ولادة وتفاصيل بسيطة صنعت فيلماً بكاميرا أُمٍّ سورية من أجل ابنتها

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2019/08/30 الساعة 16:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/08/31 الساعة 08:27 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية من مدينة حلب السورية/ istock

تقارير الحروب والقصف والدمار التي تدور رحاها في سوريا منذ نحو 8 سنوات تملأ نشرات الأخبار، لكنها لا تركز على التفاصيل اليومية البسيطة لمن يعيشون تحت رحمة نيرانها، فهل تساءلت يوماً: كيف تمر تفاصيل الحياة اليومية على أسرة مكونة من أب وأم وأطفال صغار داخل مدينة محاصرة تتعرض للقصف باستمرار؟ كيف يأكلون؟ وكيف ترعى الأم أبناءها؟ 

الموضوع تناولته صحيفة الغارديان من خلال قصة فيلم "من أجل سما" الذي أنتجته أُم سورية، لتوثق ما تعرضت له أسرتها من خلال عيون ابنتها الصغيرة "سما"، تحت عنوان: "نشأت ابنتي أثناء حصار حلب، فكان عليَّ عمل فيلم لها".

أُمٌّ تتخيل لابنتها واقعاً مختلفاً 

تركز الكاميرا على وجه سما. إنها طفلة من أجمل ما يكون، ويبدو للوهلة الأولى كأنَّ حياتها قد تكون عادية. لون عيونها الأخضر المائل إلى الرمادي، من هذا النوع من الألوان المؤقتة لعيون الأطفال حديثي الولادة، في طريقه للتحول إلى اللون البني. تبدو أقراطها الذهبية كبيرة للغاية في أذنيها الضئيلتين. اسمها "سما"، وهي سماء كما تتخيلها أمها لا تسقط منها القنابل، وذات سحب عادية وتضيئها الشمس. حتى الآن، هذا مقطع فيديو يمكن أن يكون من تصوير أي والد مُحِب، لكنَّ أُم سما هي الصحفية وعد الخطيب، وهذا هو فيلمها الوثائقي "من أجل سما"، الذي صوَّرته في أثناء الحرب السورية. تغني وعد في هذا الفيلم تهويدة تكاد تهدئنا نحن -إن لم تهدئ سما- وصولاً إلى شعور زائف بالأمان. وبينما تعضُّ سما إصبع قدمها بفضول، كما يفعل الأطفال، تنفجر قذيفة دبابة. يبدو الأمر مثل كابوس عند جيرانها المجاورين لها وهم يحرّكون الأثاث الثقيل في حين يصرخ أحدهم: "إلى الطابق السفلي، إلى الطابق السفلي، هناك واحدة أخرى قادمة…". كان هذا في بداية صيف عام 2016، بداية حصار حلب. تفقد الكاميرا نقطة تركيزها، وتنحرف بشكل غير متناسق، فتطلب وعد بهدوء من شخص ما أن "يأخذ سما". الآن، أصبحت القذائف تصم الآذان.

أطفال تحت القصف – الغارديان

تقول وعد بصوتها المنخفض الموسيقي: "هذا جنون، نحن نتلقى هذا كل يوم!". صوتها هادئ بشكل غير طبيعي يشبه موقفها (في أثناء الحصار، كانت هناك قنابل عنقودية، وغاز كلور، وبراميل متفجرة وضربات جوية). ثمة حريق في نهاية ممر منزلهم والدخان يتدفق. كانوا يعيشون في المستشفى الذي بدأ فيه زوجها، حمزة، من الصفر، وهم الآن ينقلون طفلاً رضيعاً على جهاز دعم الحياة، وحمزة يصرخ: "هيا! نحتاج ضخ جهاز التنفس باليد". تصرخ وعد في الظلام: "سما مع من؟".

لا مبالاة تجاه المذابح

قال متحدث باسم الأمم المتحدة مؤخراً، إنَّ العالم قد أصبح "مخدَّراً تجاه المذبحة" في سوريا بعد أكثر من 8 سنوات من الحرب، وحتى العدد المتزايد من القتلى في إدلب -آخر المعاقل التي تسيطر عليها المعارضة- فإنه يقابَل بـ "لا مبالاة جماعية". وكذا، فلا عجب أنَّ وعد كانت تخشى من أنَّ فيلمها -الذي يبدأ بالمظاهرات السلمية ضد الرئيس بشار الأسد عام 2011 ويستمر خلال الربيع العربي وصولاً إلى نهب حلب على يد قوات النظام عام 2016- سوف يقابَل بعدم اكتراث. لكنَّ رد الفعل كان مجمعاً عليه وكان غامراً: إذ وقف الجمهور وصفقوا في جميع البلاد التي عُرض فيها الفيلم (بمهرجان كان، في شهر مايو/أيار، استمر الجمهور في التصفيق -على ما يبدو- 6 دقائق).

هنا حلب – ما هي العدالة؟ – الغارديان

بدأت وعد صحفية عامة (وهي الصحافة المعروفة بصحافة المواطن، حيث يؤدي العوام دوراً في جمع المعلومات وتحليلها وعرضها على منصات الإنترنت) لبرنامج Channel 4 News، وكانت قد نالت استحساناً بالفعل، بسبب سلسلتها من التقارير المرعبة والإنسانية من داخل حلب (التي فازت بسببها بإحدى جوائز إيمي "Emmy" وجائزة الشؤون الدولية من جوائز الصحافة البريطانية). لكنَّ هذا الفيلم، الذي أهدته إلى ابنتها، ذو طبيعة أكثر شخصية، فهو فيلم لأم تتعرض فيه إيقاعات أمومتها الطبيعية للاضطراب. تقلق وعد من أنَّ الحفاضات وحليب الأطفال سوف تنفد. يستخدم الأطفال الصغار حافلة مقصوفة لتكون ملعباً لهم، ويلونونها بجميع ألوان قوس قزح (حتى سما الصغيرة تلقت مساعدة في الإمساك بالفرشاة) وصديقة وعد الرزينة، عفراء، لا تفقد أبداً بريق عينيها، في حين تلتزم الصمت حيال السوس الذي تجده في الأرز. في لا واقعية الحرب، تصبح الحياة الأسرية مذهلة: فيبدو وعاء الطبخ العادي غريباً. لكنَّ هذا يجعل سما أكثر قوة، فالأمور الناعمة في الحياة الأسرية، والتي عادة ما تُتجاهل في تقارير الحرب، كلها موجودة هناك.

فيلم قلَب الموازين

وإلى جانب تتويج فيلم "من أجل سما" بالجوائز، وضمن ذلك جائزة "أفضل فيلم وثائقي"، في مهرجاني "كان" و "ساوث باي ساوثويست"، وجائزة لجنة تحكيم خاصة في مهرجان هوت دوكس، فقد أظهر الفيلم معنى تدمير أسرة، إذ نرى أمهات في حالة من الإنهاك القاسي والشديد، مثل شخصيات من إحدى تراجيديات شكسبير. تعطي لنا إحدى الأمهات التي تبحث عن ابنها محمد أكثر عبارات الفيلم كشفاً. فما إن ترَ الأم جثة ابنها الميت حتى تماطل الدليل على ما تراه، فتصرخ بهستيرية: "هذه مومياء، لقد أحضرت الحليب، استيقظ!" وفي هذه اللحظة، ترى وعد وهي تصور المشهد. نتوقع أن تقول المرأة: "كيف تجرؤين؟!"، لكنها بدلاً من ذلك تصرخ بأعلى صوتها: "صوِّري هذا!"، وتقول "وعد" الآن: "كانت عدستي بالنسبة إليها تمثل العالم الخارجي. أرادت أن يُشاهد حزنها".

سما طفلة ساحرة

الأسبوع الماضي -بعد ثلاث سنوات من ذلك- تقافزت فتاة صغيرة في ممر لإحدى استوديوهات التصوير الفوتوغرافي شمالي لندن، ممسكة بيد جليسة أطفال. قال الفتاة: "أين ماما؟". كانت سما على وشك الانضمام إلى أمها والتقاط صورة لها. دارت عدة دورات تجريبية في فستانها المزين بالأزهار وارتدت حذاءها برضا. جاءت لحظة تصفيف شعرها: وينبغي أن تكون ماما من يفعل ذلك. تفضل سما عدم الوقوف ساكنة، وعند سؤالها عن عمرها، أشارت بثلاث أصابع وقد تلألأت عيناها. سما طفلة ساحرة، مفعمة بالحيوية على نحو استثنائي. أما أمها، الجميلة الأنيقة، التي تردُّ على ابنتها عند كل منعطف، فإنها ما تزال على النقيض من ذلك. عند النظر إليهما بعد رؤية الفيلم، يشعر المرء بشعور رائع بالامتنان من أنهما نجوا. يبدو الأمر أقرب إلى الخيال أنها وأسرتها قد استبدلتا شرقي لندن بحلب الشرقية (تعمل وعد الآن في برنامج Channel 4 New التابع لشركة ITN للإنتاج التلفزيوني).

وعد وابنتها سما – الغارديان

أُجبرت الأسرة على مغادرة سوريا في الـ21 من شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2016 (في الشهر السادس من حصار المدينة). ولما كان حمزة مدير المستشفى الوحيد المتبقي في المدينة والمسؤول عن الرعاية الصحية للمدنيين بآخر الأحياء المحاصرة في حلب الشرقية، فقد حظي بالاعتراف بأنه واحد من أكثر الشخصيات المؤثرة في الإدارة المدنية للمنطقة، وكان هو من تلقى المكالمة الهاتفية من الأمم المتحدة، حاملين رسالة من الروس تقول إنَّه لو أراد أولئك الذين تبقوا في حلب النجاة، فينبغي لهم الاستسلام والذهاب للمنفى فوراً. 

الوطن داخل وجدان أهله

تساءلت وعد في الفيلم: "سما، هل سوف تتذكرين حلب؟ هل سوف تلومينني على البقاء هنا؟ أو تلومينني على المغادرة الآن؟". لم يكن في نيتهم قط المغادرة. وبمعنى ما، فإنَّ وعد الخطيب (وهو ليس اسمها الحقيقي، إذ تستخدم اسماً مستعاراً لحماية أقاربها) لم تغادر قط، إذ جلبت سوريا معها إلى المملكة المتحدة. فقد وصلت بعشرات الأقراص الصلبة التي اختُصرت مبدئياً إلى 300 ساعة من مقاطع الفيديو، ثم أمضت بعد ذلك عامين مع زميلها المخرج إدوارد واتس (وهو مخرج مستقل أخرج أكثر من 20 فيلماً وثائقياً)، في تحرير هذه المقاطع إلى فيلمٍ مدته 95 دقيقة.

عند عرض الفيلم – الغارديان

وعند مشاهدة وعد وهي تلتقط صورتها، بدت احترافية ومتحفظة، كما لو كانت في مكان آخر (كما يُفترض أنَّ هذا شعورها). لكنَّ ذلك تغير حينما كانت تجلس إلى جانبي على أريكة صغيرة، إذ ربتت على كتفي بانتباه ومودة، لتأكيد وجهة نظرها، فقالت: "لقد صورت كل شيء". ولما كانت تختار مواد هذا الفيلم، فقد كان التحدي متمثلاً في تحقيق توازن بين "الظلام والضوء، والحياة والموت". في بادئ الأمر، كانت مصرَّة على أنَّ إظهار الأسوأ هو المهم: فقد كانت مقاطع الفيديو التي صورتها تمثل "دليلاً". لكن بعد ذلك، كما شرح واتس على الهاتف، أجرت بثاً تجريبياً مبكراً على Channel 4، للأصدقاء والأسرة ـ"15 شخصاً فحسب، أو نحو ذلك"- وأدركت أنهم "أوغلوا أكثر من اللازم في الجزء المظلم".

من الحياة إلى اليأس

كان أول قطع في الترتيب الزمني. بدأ الفيلم بالأمل، وانحدر إلى القنوط، وأدركوا أنَّ هذا لم يجدِ نفعاً. من الصعب تخيُّل لقطات أكثر تدميراً من هذه التي عُرضت في الفيلم، لكنَّ وعد وواتس أصرا على أنَّ ثمة عدداً أكبر من الأمور الأسوأ، وضمن ذلك "ركام من جثث الأطفال الصغار للغاية" المتروكين في أحد المستشفيات. لم يستطع الجمهور التأقلم، وأحياناً كان واتس يجد نفسه في أثناء العرض واضعاً يده أمام الشاشة. وكذا فقد اضطرا إلى إعادة التفكير. قُتل مئات الآلاف من الأشخاص في الحرب السورية، وهُجِّر أكثر من عشرة ملايين شخص، وبينما كان المشاهدون بحاجة إلى أن يدركوا وقوع "مذبحة جماعية"، لم يكن من الضروري أن يكون هذا الإدراك على حساب الكرامة الفردية.

بدأ التعاون بين وعد وواتس على نحو غير مؤكد، لأنهما كانا في بلدين مختلفين: فقد كانت بتركيا (حيث أمضت أسرتها عاماً بعد الفرار من سوريا)، وكان هو في لندن. تقدمت وعد بطلب للجوء السياسي بالمملكة المتحدة، على أساس أنها وزوجها حمزة عرضة لانتقام النظام وبقوة عملهما لصالح برنامج Channel 4 News وعملهما بحلب الشرقية. حظيت قصتها باهتمام بالبرلمان في أثناء حصار عام 2016، وبدعم من برنامج Channel 4 News، عولجت قضيتها بسرعة. ولما كانت وعد تجهز فيلمها، فقد كانت متوترة لأسباب مفهومة من أنَّ أجنبياً [مثل واتس] قد يزوِّر أو يستولي على حقوق نشرها العاطفية. لكنها في الوقت الحاضر تعلن بسعادة أنه بينما "يبدأ معظم المتعاونين معاً وينتهون مختلفين"، فإنها وواتس قد ذهبا في الاتجاه المعاكس. فقد كان واتس هو صاحب الفكرة الرائعة بجعل سما مفتاح هيكلة الفيلم، واكتشفا أنَّ بإمكانهما، باستخدام صيغة العودة إلى الماضي (Flashback)، أن يتحركا بين الظلام والضوء، فكانت سما هي حبل النجاة بالنسبة لهما، ولنا. وعند هذه المرحلة، كان الفيلم قد أصبح قصة حب.

تسلسل زمني يعكس واقعاً مريراً

يبدأ الفيلم بوعد ابنة الـ18 ربيعاً (عمرها الآن 26 عاماً)، وهي على وشك دراسة الاقتصاد بجامعة حلب. حمزة صديق مقرب، لكنه متزوج بامرأة أخرى. تصفه وعد بأنه موهوب بالقدرة على جعلها تشعر بالأمان "بابتسامة دائمة على وجهه". ولما كان حمزة واحداً من أطباء قليلين في حلب وهو ناشط أيضاً، فسوف يجري اختبار ابتسامته في السنوات التالية. تفتقر حلب الشرقية إلى المدارس والطوارئ والخدمات الطبية؛ ومن ثم كانت هناك حاجة ماسة إلى مستشفاه. نشاهد حمزة وهو يعمل، بطلاً يوحي بالثقة، يعمل مستشفاه المؤقت بشكل مثير للإعجاب وعلى نحو استثنائي جزئياً على قوة الإرادة. وفي الأسابيع التي سبقت مغادرتهم للبلاد، أجرى المستشفى (وهو المستشفى الثاني لحمزة بعد أن دمرت القنابل مستشفاه الأول) 890 عملية في 20 يوماً، واستقبل 6 آلاف جريح.

يُظهر أحد المشاهد مذبحة في حلب الشرقية. صورت وعد صفوف الجثث المسحوبة من أحد الأنهار، مثل عنبر للموتى. تبرز الرؤوس من مقدمات حقائب النوم الزرقاء، في انتظار تحديد هوياتهم. كُبِّل هؤلاء المدنيون، وعُذِّبوا وأُعدموا، وجريمتهم أنهم كانوا يعيشون في "مناطق معارِضة للنظام". ذهبت ابتسامة حمزة، لكنَّ رباطة جأشه ما تزال موجودة. وبينما كانت الجثث تُلقَى في أكفان مؤقتة بمقبرة جماعية، كان ثمة غناء عالٍ ومُتَّحد: "قتلانا في الجنة".

أما حمزة، فقد اختار البقاء في سوريا على زيجته الأولى، عندما حثته زوجته على الفرار من البلاد. كان المعارضون المسلحون في ذلك الوقت قد حرروا المدينة، لكن كان الانتقام يزداد حدة. تُظهر كاميرا وعد مراراً وتكراراً دخاناً مريعاً في الأفق، يرتفع فوق المباني المبنية من الطوب مثل ريش رمادي. شرحت وعد أنها بدأت التصوير بالهاتف المحمول، ثم ترقت إلى استخدام كاميرا، بل إنها استعارت طائرة من دون طيار من أحد الأصدقاء (كانت تواجه صعوبة في استخدامها، لكنها في النهاية حصلت على نتائج رائعة).

توصل حمزة إلى قاعدة لهما: لا بكاء في المستشفى. قالت وعد: "شرح [حمزة] أنَّ الناس كانوا يرونني قوية لأنني كنت أصور، وكنت أؤمن بالثورة، وإذا رأوني أنهار، مهما تكن قوتهم، فسوف يضعفهم ذلك. وشعر حمزة أنَّ عليه أن يكون قوياً من أجل الجميع. كان قائداً". كان موظفو البنك يقولون لها: "نحن أقوياء للغاية بسبب حمزة – إنه هادئ للغاية".

لكن في أحد الأيام، لم تستطع وعد منع نفسها بينما كانت تشاهد محاولة لإنقاذ حياة صبي صغير. أغضبت حمزة فقال لها: "لا يمكنك البكاء هنا.. اخرجي". لكنه بعد ذلك لاحقها. من المذهل كثرة المرات التي يسأل فيها الناس بعضهم بعضاً في الفيلم: "ما المشكلة؟". يبدو السؤال لا لزوم له، فالجواب يمكن رؤيته في كل مكان. توافق وعد، لكنها تشرح قائلة: "يتعلق الأمر بالاهتمام. على الرغم من أنني ربما أعرف أنك قد فقدت طفلك، فهذه طريقتي للسؤال عما يجري في قلبك".

لحظات فرح وسط الدمار 

قال لها حمزة: "ألا تدركين أنني أحبك؟ هل تتزوجينني؟". يجيب الفيلم عن سؤاله بلقطات لزفافهما: حمزة يرتدي بدلة وربطة عنق أرجوانية، ووعد ترتدي حجاباً ويزين شعرها ورود من الحرير الأبيض. تتساقط قصاصات الورق الملونة من الهواء، وكأنه ما يزال ثمة مجال لقصة سحرية في حلب. هذا واحد من الأوقات النادرة التي لا تكون فيها الكاميرا في يد وعد. يرقصان على أنغام أغنية CrazyلـWillie Nelson ويقول لها حمزة: "هذا الطريق الذي نسلكه طريق طويل مليء بالمخاطر والخوف، لكن الحرية تنتظرنا في نهايته". وازن رقة رقصهما العهد الأكثر خطورة نوعاً ما لزفافهما: "فلنمش هذا الطريق معاً".

في الأيام الأولى كان أصدقاؤها يداعبونها قائلين: "ها هي وعد تلعب بكاميرتها مرة أخرى…" لكن ذلك تغير بعد أن قُتل واحد من أعز أصدقائهما، وهو ممرض يدعى غيث مع أخيه محمود في غارة جوية. قالت وعد: "كنا قد فقدنا غيث، وكنا نعرف أنه لن يعود مرة أخرى إلى الأرض، لكن كان معنا هذه المقاطع المذهلة له وهو يضحك وهو يعمل وهو حزين… كانت الحياة التي شاركها معنا مسجلة". كان التسجيل بمثابة تذكر، واعتذر الناس الذين كانوا يسخرون في الماضي.

كانت ولادة سما حدثاً عادياً واستثنائياً، عرض بتحفظ. نرى أصدقاءها وقد ألصقوا آذانهم بباب غرفة المستشفى، في انتظار أول صرخة للطفل ويقفزون فرحاً عندما يسمعونها. بعد ذلك تظهر وعد وهي تبكي محتضنة سما بين ذراعيها، ويخبرها حمزة مداعباً أن تتوقف عن إزعاج طفلتهما. فيم كانت تفكر حينها؟ قالت وعد: "كنت أبكي لأنَّ هذه كانت الغرفة التي اعتاد اثنان من أصدقائي -غيث وعمر- العمل فيها قبل مقتلهما. كنت أفكر: لقد جلبتُ الحياة إلى هذا المكان. كنت مرعوبة من أنني قد لا أعيش لأشهد ولادة سما. كنت مرعوبة من المستقبل، لكنني كنت سعيدة أيضاً. كان باستطاعتي أن أرى قصة حمزة وقصتي في وجه سما. ومع ذلك، فقد كنت أفتقد غيث وعمر وتمنيت لو كانا على قيد الحياة".

إذا كان التصوير بمثابة تذكر، فقد كان بمثابة مقاومة أيضاً وعلى نحو حاسم. تشدد وعد على دور وسائل الإعلام الجديدة في الربيع العربي، فتقول: "أصبحت الهواتف النقالة الطريقة الوحيدة لكي نظهر للعالم أننا نناضل من أجل حريتنا". كانت المظاهرات الطلابية المبكرة سلمية واحتفالية مليئة بالألعاب النارية والرقص في الشوارع، لكن بحلول عام 2015، كانت قوات الأمن تضرب الطلاب المتظاهرين. "كانوا يظهرون وبعد 5 دقائق يصبح المكان فارغاً. وكان مذيع من القناة الرسمية يسأل: هل حدث شيء هنا؟ فيجيب الطلاب المتبقون: لا لم يحدث شيء". لكن لقطات وعد كانت تفضح هذه الكذبة. وبالمثل، سوف توفر دليلاً بعد ذلك على استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائية. 

في النهاية أصبح التصوير طريقتها للبقاء على قيد الحياة. قالت وعد: "أعطاني التصوير سبباً للبقاء في حلب. إذا قُتلت، فسوف أترك شيئاً مهماً خلفي"، لكن التصوير لم يعطها مسافة تبعدها عما كان يحدث. كان التصوير "مروعاً بشكل مضاعف" و"قرَّب كل شيء". لكن بالنسبة للكثير من الناس، مثلت الكاميرا أملاً. وبهذه المناسبة قلت لها إنَّ من الغريب أنَّ لحظات الأمل هذه في الفيلم كانت هي ما أربكني –وقد حركتني لكونها غير متوقعة. إذ نُقلت امرأة حامل في شهرها التاسع إلى المستشفى فاقدة الوعي، وأجريت لها عملية ولادة قيصرية طارئة. نرى الطفل يخرج جثة هامدة. هذا البؤس باعث على الغثيان. قتلته الحرب. بدأت أيادي ترتدي القفازات بالضغط على الصدر الصغير لإنعاش الرئتين، وهو تصرف بلا جدوى بالتأكيد. تقوم الممرضة بتنظيف جسده بحركة سريعة. يمسكونه مقلوباً ويهزونه ويصفعونه، وفي اللحظة التي نفقد فيها الأمل في هذا الجسد الرمادي الزلق، يفتح عينيه ويبكي، ويشاركه في ذلك البكاء كل من يرى هذا المشهد. الحمد لله! تقطيبته الغاضبة تلك انتصار، وبكاؤه يتحدى الأسد (وقد أنقذوا الأم أيضاً). تهتف وعد: "هذه معجزة تعطينا القوة لكي نستمر في النضال".

لكن بالنسبة إليها أيضاً، فإنَّ الأمل يصعب التعامل معه. قالت وعد: "كلما شاهدت الفيلم، أبكي عندما يضحك الجميع. كنا نخلق أملاً دمره عنف النظام والروس. في آخر عرض للفيلم، بينما كنت جالسة بجانب إد، بدأت في البكاء بينما كنت أشاهد الأيام الأولى للثورة. سألني إد: ما الأمر؟ قلت له: إنه الأمل".

لكن كان ثمة نسخة أخرى من الأمل أكثر قابلية للإدارة، تتمثل في ردود فعل الناس على الفيلم: "كان ذلك رائعاً – لقد أعطاني الجمهور أملاً، وأظهروا لي أنهم يبالون حقاً. ذهبت إلى نانتوكيت، وواشنطن، وتورنتو، وحتى موزعو الأفلام، الذين عادة ما يشاهدون عينة من الفيلم لمدة 10 دقائق ثم يغادرون، بقوا وكانوا متأثرين للغاية". عندما تحمس الناس "بجنون" في كان، قالت وعد: "لا أستطيع وصف مدى الفخر والسعادة اللذين أشعر بهما".

الطفلة التي عاشت الحياة بكل تفاصيلها

سوف تمر سنوات قبل أن تصبح سما كبيرة بما يكفي لرؤية الفيلم المسمى على اسمها. تخاطبها وعد في الفيلم قائلة: "يا سما، أعرف أنك تفهمين ما يحدث. يمكنني رؤية ذلك في عينيكِ. أنت لا تبكين قط مثل بكاء الأطفال العاديين، وهذا ما يفطر قلبي". والآن تؤكد وعد أنَّ سما، على مستوى ما "تفهم كل شيء. عندما كنت أبحث عنها أثناء القصف، وجدتها نائمة بطريقة هادئة للغاية". تتفاعل ابنتها الثانية تيماء (حملت مرة أخرى بينما كانت في حلب، وولدت الطفلة في تركيا) بطريقة مختلفة تماماً. إذا سقطت زجاجة حليب فإنها تبكي، أما سما فقد اعتادت على السقوط من سرير مرتفع من دون أن تحدث صوتاً. لكنني كنت أشعر أحياناً بأنها خائفة".

وبعد مغادرة سوريا، اعتادت سما أن تستيقظ في الليل وتصرخ. استشاروا الخبراء، وهي بحال أفضل الآن. بل إنَّ حالها أفضل من أمها التي تقول: "لا زلت أعاني من الكوابيس. وكلما سمعت صوتاً عالياً، مثل صوت قطار، أشعر بذلك في جسمي. حاولت طلب العلاج، لكنه لم يجد نفعاً معي". وقالت في الماضي إنَّ معالجتها (التي تريدني الآن أن أعرف أنها "مذهلة" وتقول إنها "تحبها") كانت هي نفسها بحاجة إلى العلاج بعد جلساتهما معاً.

الإنجاز الأكثر استثنائية للفيلم أنه بدلاً من ترك المشاهدين بشعور من العجز، فإنه يخلق عزيمة. كل من يشاهد الفيلم يشعر بالأمر ذاته. قالت وعد إنَّ المتفرجين يأتون إليها شاعرين بالتأثر والنشاط ويسألونها سؤالاً واحداً: ما الذي يمكننا فعله؟ تقول لهم إنَّ الخطوة الأولى تتمثل في "الفهم"-ولا سيما عند هذه المرحلة التي تعاني فيها إدلب وبدأت تشبه حلب. وتخرج هاتفها وتشغل اللقاء الصحفي سيئ السمعة الذي أجري عام 2016 مع المرشح الرئاسي الأمريكي غاري جونسون وعندما سئل عن خططه لحلب، رد بلا مبالاة: "ما حلب؟". وقد كانت هذه المقابلة هي ما دفع وعد لعمل اللافتة التي تحملها سما بنهاية الفيلم، وكان عمرها حينئذ 7 شهور، مع مدينتهم المهدمة في الخلفية. تقول اللافتة. (هذه حلب. ما هي العدالة؟). 

وبالإضافة إلى الحاجة إلى الفهم، فإنها تأمل في دعم الحملة التي تخطط هي وحمزة لإطلاقها الشهر المقبل على موقع forsamafilm.com، من أجل "وقف قصف المستشفيات". تقول وعد إنَّ قصف المستشفيات أصبح الآن مشكلة "عالمية". عندما تعرض مستشفى حمزة للقصف، لوحظ الأمر بعبارة رزينة ليست على مستوى الحدث تقول: "استهداف المستشفيات يكسر معنويات الناس".

وفي غضون ذلك، يخطط حمزة للحصول على درجة الماجستير في الصحة العامة ولديه طموح لإصلاح نهج الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية في مناطق النزاع. وقالت وعد: "تعرض حمزة لضغوط شديدة من قبل الأمم المتحدة لإخلاء المستشفى بطريقة لم تكن في صالح مرضاه، وهو يعتقد أنَّ الأمم المتحدة كانت تنفذ ببساطة ما أرادت روسيا أن يفعلوه".

شوهد الفيلم الآن في الأمم المتحدة، كما شوهد في إحاطة إعلامية حديثة لدى بعثة المملكة المتحدة حضرها سفراء. وطرحت مسألة قصف المستشفيات (واستخدم الفيلم دليلاً على ذلك) في اجتماع لمجلس الأمن. ومن المأمول أن يعرض فيلم من أجل سما على الحكومة الروسية (على الرغم من أنَّ واتس مدرك للمخاطر المحتملة بأن يقوم النظام الروسي بـ "قرصنة الفيلم أو إعادة تحريره أو تحريفه"). لكن ألا يشكل عرضه في روسيا خطراً على وعد؟ قالت وعد: "بلى، لكنني لا أبالي. كان من الممكن أن أُقتل قبل ثلاث سنوات".

حلب في التفاصيل

ومن وجهة نظر شخص من الخارج، فإنَّ ما يبدو أكثر إثارة للدهشة في الفيلم-الذي يقترب من حدود الغموض-هو شدة استمرار الولاء لحلب نفسها، والرغبة التي جرى التعبير عنها مراراً بالبقاء فيها مهما يكن الأمر-وهو بمثابة اختيار لوضع حلب في منزلة أهم من الحياة نفسها. حلب واحدة من أقدم مدن العالم وأكثرها جمالاً وقد دمرت البراميل المتفجرة هندستها المعمارية القروسطية. أما كنت لتهرب من هذا الخراب لو استطعت؟ يقول صبي صغير بصوت جريء مرتعش إنه سوف يبقى في المدينة حتى لو غادرت أسرته. وقالت فتاة لا يتجاوز عمرها 3 سنوات بينما كانت مضطرة للمغادرة، بنبرة صوت شخص بالغ على نحو مذهل: "راحت حلب". تتركنا وعد نعرف أنَّ "الوداع أسوأ من الموت".

أومأت برأسها بصمت عندما سألتها إذا كان المكان نفسه ذا قيمة كبيرة بالنسبة لها، ثم قالت: "يمكن للصحفي الذي يزور سوريا أن يغادر في أي وقت، لكنني بدأت بحلب في عقلي وقلبي". تحدثت وعد ببلاغة عن الخبرة المشتركة في الصراع، فقالت: "الناس الذين عشت معهم في حلب أصبحوا أقرب إليّ من والديّ وأختي وأخي". وتركز على أنها وحمزة قد اعترفا بضرورة دوريهما الطبي والصحفي.

وقالت وعد: "نحن نعيش من أجل اللحظة التي سوف نستطيع فيها العودة إلى سوريا، لكنَّ هذه اللحظة لن تأتي أبداً ما دام نظام الأسد يحكم. وإذا ذهب، فسوف نتسلل عائدين مرة أخرى، بالطريقة ذاتها التي تسللنا بها عائدين إلى حلب [بعد زيارة إلى تركيا] في الفيلم، وكنا شخصين عنيدين مع طفلة تبلغ من العمر 7 شهور". ابتسمت وعد لذكرى عودتهم الشجاعة. لكن ما الذي يمكن أن تجده أيضاً من الأمور الإيجابية إذا نظرت إلى الوراء؟

قالت وعد: "كان الموت قريباً. كنا نعرف أنَّه من الممكن أن نُقتل في أية لحظة لكننا عشنا كما لو كانت كل دقيقة هي آخر دقيقة في حياتنا. عندما يكون الموت محيطاً بك، تكون الحياة رخيصة لكنها مهمة للغاية. كثير من الناس في المملكة المتحدة لا يعرفون قيمة الحياة، أو قيمة الدقائق. إذا كنت تستمتع بفعل شيء ما فافعله. وإذا كنت تحب شخصاً ما فأخبره في أقرب وقت ممكن لأنَّ هذه الحياة يمكن أن تنتهي في أية لحظة". وأضافت وعد أنَّ العالم "مكان مظلم للغاية -فمع البريكسيت هنا (خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي)، والسياسة الأمريكية وروسيا، ينتابك الشعور بأنَّ شيئاً لن يتغير. لكن لو استمر الناس في الضغط، فسوف تتغير الأمور وسوف تحل العدالة. وسوف نستمر في النضال، مهما استغرق ذلك من وقت".

تحميل المزيد