لا شك أن القوى المدنية قد حققت بالفعل انتصاراً كبيراً على جنرالات العسكر في السودان، لكن إذا كانت المرحلة الصعبة قد انتهت بعرس توقيع اتفاق المرحلة الانتقالية فإن المرحلة القادمة أصعب بكثير، فما هي أبرز التحديات التي تواجه الرجل الذي اختاره الثوار رئيساً للوزراء؟
هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تناولت قصة الملفات الشائكة في السودان في تقرير بعنوان: "ثُوَّار السودان يُعلِّقون أملهم على رئيس الوزراء عبدالله حمدوك".
اختيار رجل اقتصاد محنك
أبرمت قوى الحرية والتغيير اتفاقاً مع الجنرالات الذين تسلموا السلطة بعد سقوط الحاكم عمر البشير الذي طال بقاؤه في السلطة، واتفقوا على فترةٍ انتقالية مدتها 39 شهراً. وفي أثناء هذه الفترة، ستكون سلطة السودان المطلقة في يد مجلسٍ سيادي مُكوَّن من خمسة مدنيين وخمسة جنرالات. ويترأس المجلس العضو الـ11، الذي سيكون في البداية عسكرياً، ثم يصير مدنياً بعد ذلك، ويجري الآن تشكيل حكومة تكنوقراط، كما عُيِّن مجلسٌ وطني مؤقت.
وكانت مباحثات تشارك السلطة صعبةً بما يكفي، لكن حل مشاكل السودان السياسية والاقتصادية العميقة سيكون أصعب، ولا تحيط الأوهام برؤية رئيس الوزراء الجديد عبدالله حمدوك، في ما يتعلق بالتحديات التي يواجهها.
وحمدوك ليس سياسياً، بل هو رجل اقتصادٍ مُتخصص، قضى العقود الأخيرة من عمره في بنك التنمية الأفريقي، وفي اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، ومن المتوقع أن يُعيَّن في الأيام القادمة مجلس وزراء محايد، من الكفاءات التكنوقراطية المُحايدة.
وحدَّد حمدوك أولوياته في خطابه بعد تولي المنصب، وهي: الاقتصاد، والسلام.
النوايا الحسنة الدولية
ومشكلة السودان الاقتصادية لها جذورٌ عميقة. فالمتظاهرون، الذين أسقطوا البشير، سيطروا على الشوارع في ديسمبر/كانون الأول الماضي بسبب زيادة تكاليف المعيشة.
ومن كانوا يعتمدون على مرتباتهم وحدها؛ لم يعودوا قادرين على شراء الخبز، والتجار والمزارعون لم يعودوا قادرين على شراء الوقود، والبنوك وماكينات الصرف الآلي تحدد كميات قليلة من السيولة النقدية.
وسيكون للتضخم وعجز الموازنات أثرٌ بعيد المدى على ديون الحكومة، التي أصبحت ضخمة بالفعل، إذ تجاوزت الـ50 مليار دولار، أي أكثر من 60% من إجمالي الناتج المحلي.
بالإضافة إلى أنَّ السودان يُعاني من أزمةٍ مزمنة تكمُن في نقص العملات الأجنبية؛ بعد أن فقد معظم آبار النفط عند انفصال الجنوب في عام 2011.
وتغيَّبت السودان عن حملة اليوبيل 2000 لإلغاء ديون الأمم الفقيرة، لأنَّها تحت عقوبةٍ من الأمم المتحدة بسبب التجاوزات في ملف حقوق الإنسان، وتحت عقوبات مادية من الولايات المتحدة لكونها "دولةً راعيةً للإرهاب"، بعد أن أخفى نظام البشير زعيم تنظيم القاعدة المقتول أسامة بن لادن في الفترة بين عامي 1991 و1996.
وفي حين استغرقت الدول الأخرى المثقلة بالديون سنوات في التفاوض للإعفاء من الديون؛ سيتعين على حمدوك أن يفعل هذا في غضون بضعة أشهر، إذا أرادت الحكومة أن تحصل على التمويل الذي تحتاجه للهروب من الأزمة الاقتصادية الكلية الحالية.
مشاكل التمويل
ويُكِن حمدوك من ناحيته نوايا حسنة، إذ كانت السعودية والإمارات تمول الجنرالات السودانيين.
ولكن السودان سيحتاج إلى التحوُّل من تلقِّي الصدقات النقدية، ومعونات الطعام، والوقود، والدواء، إلى دعم خطةٍ منسقة لإعادة السودان إلى مساحة الرضا لدى صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.
وقال حمدوك، في حوارٍ له مع وكالة رويترز، إنَّه بدأ المباحثات بالفعل مع هيئتين لمناقشة إعادة هيكلة ديون السودان الخانقة.
وسيتعيَّن على الولايات المتحدة إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبالتالي رفع الحظر الحالي عن دخول السودان إلى النظام المالي الدولي المعتمد على الدولار.
الجنرال المشكلة
وهذه هي البداية فقط، فبعد أن توقَّفت عائدات النفط فجأة منذ ثماني سنوات؛ أصبح مصدر العملة الأجنبية الأساسي هو الذهب، ونشر القوات في اليمن لمساندة القوات السعودية. وكلاهما يُقال إنَّه عزَّز من الفساد. وستُركِّز أي تحقيقات على الأغلب على اللواء محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية، والرجل القوي في الواقع بين عصبة العسكر.
وتعهَّد حمدان بالالتزام بقرارات الحكومة المدنية، لكننا ما نزال نترقب هل سيدعم الإصلاحات التي تُفكِّك إمبراطوريته التجارية، التي تشمل مصالحه في تعدين الذهب وتصديره.
وسيحتاج حمدوك أيضاً إلى الحد من ميزانية الدفاع، التي تبتلع أكثر من نصف نفقات الحكومة، لكن فرض خصومات على الجنرالات هو مهمةٌ خطيرة.
الملف الكبير الآخر على مكتب رئيس الوزراء الجديد هو السلام مع المتمردين المسلحين. فعلى الرغم من وقف إطلاق النار الحالي؛ ما تزال الحروب الطويلة في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق بلا حل.
صدّ المتمردين
توجد ثلاث مجموعات رئيسية من المتمردين في دارفور ومجموعة متمردين منفصلة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، تابعة لجيش التحرير الشعبي السوداني – بالشمال، التي تُعَدُّ إرثاً قديماً من الحرب بين الشمال والجنوب التي انضم فيها غير العرب من سكان هذه المنطقة إلى إخوانهم الجنوبيين للقتال ضد الخرطوم.
وانقسمت قوات التمرد هذه أيضاً إلى فصيلتين. ولحسن الحظ، لا يقاتل المتمردون بعضهم البعض، لكن حملهم على الاتفاق أرهق الوسطاء لسنوات.
وتشعر الجماعات المسلحة بالاضطهاد، لأنَّ أجندتهم للحصول على اتفاقيةٍ أفضل لصالح شعوب السودان المهمشة لم تُحقِّق النجاح المرجو باتفاق تقاسم السلطة الذي تم بين اللواءات وقوى الحرية والتغيير.
إذ كانوا يطالبون بتمثيلٍ في المجلس السيادي، وبرأي أكبر في مفاوضات الحكومة المدنية -لكن مطالبهم رُفِضَت.
ويُعتبر حمدوك في موقعٍ جيد للحديث إلى المتمردين. فهو نفسه من غربي كردفان، المنطقة المهمشة، وسبق أن قدَّم نصائحه واستشاراته للوسطاء الأفارقة ووسطاء الأمم المتحدة الذين يعملون على الشأن السوداني، بالإضافة إلى قادة التمرد أنفسهم.
ويعلم زعماء الجماعات المسلحة جيداً أن الحكومة الجديدة هي أفضل فرصةٍ لديهم للسلام. وإذا أضاعوها، فقد ينتظرون عقداً آخر أو أكثر من ذلك.
وهناك قضيةٌ تحتاج إلى معاملةٍ حساسة، وهي مسؤولية جرائم حقوق الإنسان والفساد السابقة، إذ كان البشير في المحكمة الأسبوع الماضي بتهمة الحيازة غير القانونية للعملة الأجنبية، ويخشى الجنرالات من توجيه اتهامات أكبر وأكثر طموحاً، مثل انتهاكات حقوق الإنسان والتي قد تطالهم هم أيضاً.
المتظاهرون الشجعان
سوف يعارضون بشدة تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وهي المحكمة التي تطلبه لاتهامه بجرائم حرب، لكن العديد من المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، الذين أظهروا عزماً وشجاعةً في الشوارع، يطالبون بالعدالة.
وهذا يتضمن تحقيقاً صحيحاً، ومقاضاة المسؤولين عن مذبحة الثالث من يونيو/حزيران، التي قتل خلالها مقاتلو قوات الدعم السريع وقوات الأمن عدداً يتراوح بين 80 و120 مدنياً.
وتشيرُ أصابع الاتهام إلى لواءات المجلس السيادي، لكن اتهامهم في المحكمة سيُشكِّل خطراً على اتفاقية تقاسم السلطة، التي لا تزال هشة. وأياً كان الطريق الذي سيسلكه حمدوك؛ فسيتعرض لنقدٍ لاذع من جانبٍ أو آخر.
ولكي يحقق حمدوك أهداف الثورة السودانية؛ فسيحتاج إلى جميع مهاراته، والكثير من النوايا الحسنة، وجرعة من الحظ الجيد.