إيران لاعب أساسي في سوريا وتُشكل مع روسيا حجر الزاوية في بقاء نظام الرئيس بشار الأسد، وكان لافتاً صمت طهران بخصوص ما يحدث في آخر معقل للمعارضة في إدلب وكذلك غياب مقاتليها عن المعركة، فما هي القصة؟ وهل هناك تحوُّل في الاستراتيجية أم أن هذا تغيير في التكتيك؟
إيران لاعب أساسي في سوريا وتُشكل مع روسيا حجر الزاوية في بقاء نظام الرئيس بشار الأسد، وكان لافتاً صمت طهران بخصوص ما يحدث في آخر معقل للمعارضة في إدلب وكذلك غياب مقاتليها عن المعركة، فما هي القصة؟ وهل هناك تحوُّل في الاستراتيجية أم أن هذا تغيير في التكتيك؟
القصة تناولها موقع المونيتور الأمريكي في تقرير له بعنوان: "لماذا تلتزم إيران الصمت بشأن المنطقة الآمنة في إدلب؟"، تناول معطيات الموقف وملابساته في ضوء أزمة إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية والأوضاع في المنطقة بشكل عام.
مصير سوريا يتحدد
بعد أكثر من ثماني سنوات من بدء الحرب الأهلية في سوريا، من المتوقع أن يتقرر مصير البلاد وفقاً للتطورات في منطقتين استراتيجيتين: إدلب والمنطقة الواقعة شرقي نهر الفرات.
ففي 19 أغسطس/آب الماضي، أعلِن أنَّ الجيش السوري أجبر قوات المعارضة على الانسحاب من مدينة خان شيخون الاستراتيجية في جنوب إدلب. وقد أيَّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العملية العسكرية في المنطقة علناً، قائلاً إنَّ موسكو تدعم جهود الجيش السوري "لتحييد التهديدات الإرهابية" في إدلب.
غير أنَّ إيران، الحليف الرئيسي الآخر للنظام السوري، التزمت الصمت حيال التطورات في شمال غرب سوريا. وفي الواقع، كانت آخر مرة شهدت تحدُّث مسؤول إيراني رفيع المستوى عن إدلب في 16 أبريل/نيسان الماضي، حين قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إنَّ طهران لديها "مخاوف خطيرة" بشأن الوضع في إدلب. وكذلك فمنذ بداية عملية إدلب في أبريل/نيسان، لم يُبلَّغ عن وجود عددٍ كبير من القوات الإيرانية أو الموالية لإيران في المنطقة.
أمَّا بالنسبة للوضع في شرق الفرات، فبعد أشهر من الجدال بين تركيا والولايات المتحدة حول إنشاء "منطقة آمنة" على طول الحدود الشمالية السورية مع تركيا، توصَّل الجانبان إلى اتفاق في 7 أغسطس/آب الجاري لإنشاء مركز عملياتٍ كخطوةٍ أولى نحو إنشاء المنطقة العازلة التي تريدها أنقرة. وجاء الاتفاق بعد تحذيرات الحكومة التركية المتكررة من أنها ستتخذ تصرُّفات أحادية الجانب لمعالجة مخاوفها الأمنية في سوريا إذا فشلت واشنطن في تقديم حل مشترك مقبول.
مهاجمة الدور الأمريكي
وبالرغم من موقف إيران الثابت الرافض لأي تدخل أجنبي في شمال سوريا وشمالها الشرقي، لم ترد إيران فوراً على الاتفاق التركي – الأمريكي. ولم يأتِ رد الفعل الرسمي الأول لطهران على هذا التطور إلَّا في 18 أغسطس/آب الجاري، حين وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية عباس موسوي الخطط الأمريكية في شمال شرق سوريا بأنها "استفزازية ومقلقة". وأضاف موسوي أنَّ القضايا الأمنية في هذا الجزء من سوريا يجب أن تُعالج بالتعاون بين الدول المجاورة، قائلاً: "ليست هناك حاجة إلى تدخل قوى أجنبية". ومن المثير للاهتمام أنَّ كل اللوم في تصريحاته كان موجهاً إلى واشنطن، ولم يتحدث إطلاقاً عن دور أنقرة في التطورات الأخيرة.
تفاهمات مع تركيا
ويمكن لهذه المسألة الأخيرة أن تُفسِّر جزئياً سبب قرار إيران بتجنُّب جذب الانتباه إليها في أهم قضيتين حاليتين في سوريا. ففي قضيتي إدلب وشمال شرق سوريا، كانت إيران حريصةً على عدم تنفير تركيا بارتكاب أفعالٍ ضد المصالح التركية أو إدانة تحرُّكات أنقرة مباشرة، بل إنَّها حاولت كذلك استرضاء تركيا بوصف المخاوف الأمنية لأنقرة بشأن الوضع عند الحدود التركية مع سوريا بأنها "شرعية"، رغم تأكيدها على ضرورة إعادة جميع الأراضي السورية إلى سيطرة نظام بشار الأسد.
والسبب الرئيسي وراء ذلك هو أنَّ طهران تعتمد على أنقرة بصفتها شريكاً موثوقاً به في مكافحة الآثار السلبية لسياسة "الضغط الأقصى" التي تتبعها واشنطن ضد إيران. فعلى الرغم من العقوبات الأمريكية، تعمل إيران وتركيا على تطوير العلاقات الاقتصادية الثنائية، وتعتزمان تعزيز حجم التجارة السنوية من 10 مليارات دولار إلى 30 مليار دولار.
ويبدو أنَّ العلاقة المباشرة بين دعم تركيا لإيران في مواجهة العقوبات وحصولها على دعم إيران في سوريا واضحةً للمسؤولين الأتراك كذلك؛ إذ قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في خطابٍ ألقاه في 5 أغسطس/آب الجاري، مشيداً بتعاون بلاده مع إيران وروسيا في عملية أستانا، قائلاً إنَّ العقوبات الأمريكية ضد إيران تلحق الضرر بالمنطقة كلها.
وبغض النظر عن الاعتبارات المتعلقة بعلاقات إيران مع تركيا، هناك سببٌ آخر وراء موقف طهران الصامت حيال التطورات الأخيرة في سوريا، وهو أنَّ إيران تسعى إلى تحويل تركيزها نحو الجوانب السياسية للأزمة السورية؛ إذ تحاول إيران مساعدة الأسد في ترسيخ نفسه حاكماً شريعاً لسوريا، سواءٌ داخل البلاد وخارجها.
دعم المصالح طويلة الأجل
وقد كان هذا التوجه الجديد واضحاً في الجولة الأخيرة من محادثات أستانا التي عُقِدت في العاصمة الكازاخية نور سلطان يومي 1 و2 أغسطس/آب الجاري. إذ كان التركيز الأساسي لعلي أصغر خاجي، رئيس الوفد الإيراني في المحادثات، في اللقاءات التي جمعته مع نظرائه من الدول الأخرى المشاركة في أستانا والنظام السوري مُسلَّطاً على مسألتين: الإسراع في تشكيل اللجنة الدستورية السورية، وعودة اللاجئين السوريين.
وصحيحٌ أنَّ الحديث عن الجوانب الإنسانية للأزمة السورية ليس بالأمر الجديد في النهج الإيراني تجاه هذه القضية، لكنَّ هذه هي المرة الأولى التي تحتل فيها قضية اللاجئين بالتحديد مكانةً عُليا في أجندة الجمهورية الإسلامية في سوريا. ويبدو أنَّ التركيز في آنٍ واحد على اللجنة الدستورية واللاجئين كان يهدف إلى تصوير سوريا على أنَّها تبتعد عن فترة الحرب.
ويمكن لإيران استغلال هذه الحجة ليس فقط للحفاظ على نفوذها في سوريا، بل كذلك للضغط من أجل إنهاء الوجود الأمريكي هناك. وإذا نجحت إيران في إقناع الأطراف الفاعلة الأخرى بقبول شرعية الأسد، ستصبح قضية الوجود العسكري التركي في سوريا كذلك قابلةً للحل، إذ سيكون لدى طهران نفوذ كافٍ لتشجيع إجراء محادثاتٍ مباشرة بين أنقرة ودمشق حول الوضع في شمال سوريا وشمالها الشرقي. ويبدو أنَّ إيران تعتقد أنَّه يمكن أن يكون التوصُّل إلى حلٍّ دبلوماسي لقضية الوجود التركي في سوريا، مع أنَّ هذه ستكون عملية طويلة الأجل.
وأخيراً، لا يعني سعي إيران إلى تجنُّب جذب الانتباه إليها في القضيتين المذكورتين أنَّها تخلَّت عن محاولة الحفاظ على مصالحها الأخرى في سوريا، بل إنَّها تحاول، في ظل انشغال العالم بإدلب وشرق سوريا، توطيد أقدامها في سوريا عبر التوصُّل إلى مجموعة جديدة من الاتفاقيات الاقتصادية مع نظام الأسد. إذ أنشأت غرفة التجارة الإيرانية مؤخراً مكتباً في دمشق، بينما تحاول طهران إقناع النظام السوري بإلغاء الضرائب على البضائع الإيرانية. وتسعى طهران كذلك إلى تسريع عملية إعادة فتح معبر البوكمال القائم الواقع على طول الحدود السورية – العراقية، مما سيتيح لإيران الوصول إلى سوريا عبر الأراضي العراقية.
ومن ثَمَّ، يُمكن القول إنَّ ما نشهده الآن من تغيُّراتٍ في دور إيران في سوريا يمكن اعتباره مجرد تغيير في التكتيكات، وليس الاستراتيجية، المتعلقة بمصالح طهران طويلة الأجل في سوريا.