الانتخابات الرئاسية التي تشهدها تونس منتصف سبتمبر/أيلول المقبل بالقطع ليست مناسبة عادية، بل ربما تكون الاختبار الأصعب على الإطلاق الذي تواجهه الديمقراطية الناشئة التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي، فلماذا تكتسب تلك الانتخابات هذا القدر من الأهمية؟
الإجابة هي موضوع تقرير نشره موقع ستراتفور الأمريكي تحت عنوان: "الديمقراطية الناشئة في تونس تواجه أصعب اختباراتها"، تناول معطيات وظروف الانتخابات القادمة ومرشحيها وأسباب كونها الاختبار الأصعب.
رحيل السبسي أربك المشهد
في عام 2014، أصبح الباجي قائد السبسي أول رئيس منتخب بشعبية كبيرة في تونس بعد أن أطاحت البلاد بزعيمها الاستبدادي الشهير، زين العابدين بن علي، الذي حكم تونس على مدار 22 عاماً. كان قائد السبسي أيضاً أول رئيس تونسي يحترم الدور الجديد المحدود لمنصب الرئاسة وفقاً لأحكام دستور البلاد، الذي أُقر عام 2014. لكن قرار استمرار تلك السابقة سيعود الآن إلى مَن سيخلفه.
بعد وفاة قائد السبسي في يوليو/تموز الماضي، تقرَّر عقد انتخابات رئاسية مبكرة في منتصف سبتمبر/أيلول. ستحمل هذه الانتخابات أهمية إقليمية كبيرة، وذلك لأنَّ تونس، كما أظهر الربيع العربي، لها تأثير كبير على نظرائها الإقليميين، وقد تُحدّد نتائج تلك الانتخابات مدى استدامة الديمقراطية التونسية على المدى الطويل.
أهمية منصب الرئيس
في عام 2015، فازت المنظمات، التي أدَّت دور الوساطة في الحوار الوطني وكتابة الدستور التونسي، بجائزة نوبل للسلام، جزئياً بسبب بناء نظام ديمقراطي فريد لتقاسم السلطة. وعلى الرغم من أنَّ قطاعات أخرى في الحكومة تتولى الإشراف على بعض السلطات الرئاسية، يمنح الدستور منصب الرئيس نفوذاً كبيراً على السياسة الخارجية والأمنية. لذا، أيا كان الفائز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، سيتمتّع بسلطة كبيرة في صياغة علاقات تونس مع دول الشرق الأوسط القوية، التي لطالما سعت للتأثير على القرارات الاقتصادية والأمنية والسياسية للبلاد.
أثناء توليه المنصب، سعى قائد السبسي إلى تثبيط الجهود المبذولة من جانب دول الخليج العربي الغنية، التي تهدف إلى إغداق تونس بالاستثمارات الاقتصادية والتعاون الأمني في مقابل امتثالها لأهداف إقليمية مُحدّدة. وقد أفادت تقارير أنَّ دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، حاولت استمالة النخب التونسية لمساعدتها في جهودها للحد من النفوذ السياسي للإسلاميين وتقويض إقامة أنظمة ديمقراطية في العالم العربي. وفي حال أظهر الرئيس القادم تجاوباً مع مثل هذه المبادرات، فإنَّه قد يُغيّر دور تونس داخل منطقة الشرق الأوسط الأوسع.
سيكون الرئيس القادم مسؤولاً عن الحد من التهديدات الأمنية المستمرة، التي تواجه البلاد، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة التونسية. وتشمل تلك التهديدات استمرار نشاط تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وانتشار العديد من الجماعات المُتشددة المناهضة للحكومة، فضلاً عن شبكات التهريب واستمرار عمليات الاتجار بالبشر.
سيضيف الجدول الزمني المُعجّل للانتخابات الرئاسية التونسية ثقلاً كبيراً لهذه المنافسة، حيث أنَّها ستمنح الفائز فرصة التأثير بقوة على تشكيل الحكومة المقبلة في البلاد من خلال زيادة الاهتمام بالحلفاء السياسيين وتعزيز شعبيتهم قبل الانتخابات البرلمانية المقرر عقدها في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
تصاعد التيار المناهض للنظم المؤسسية
أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قبول ملفات 26 مرشحاً من أصل 97 كانوا قد تقدّموا لخوض الانتخابات الرئاسية التونسية. وتتضمن قائمة المرشحين المقبولين عدداً من الأسماء البارزة، من ضمنهم يوسف الشاهد، رئيس الوزراء الحالي للبلاد ورئيس حزب "تحيا تونس"، وهو حزب منشق عن حزب "نداء تونس"، والرئيس التونسي السابق، المنصف المرزوقي، الذي حكم البلاد في الفترة من 2011 إلى 2014، وعبدالفتاح مورو، أحد مؤسسي حزب النهضة الإسلامي القوي.
ينتمي جميع أولئك المرشحين المنتمين إلى مؤسسات نظامية بخبرة سياسية كبيرة وسوف يجذبون أصوات الناخبين، الذين يسعون إما للارتداد إلى عهد زين العابدين بن علي الاستبدادي أو مواصلة سياسات خلفه والحفاظ على حالة الاستقرار. ومع ذلك، يبدو أنَّ أعداد هؤلاء الناخبين تتراجع مع تنامي نفاد الصبر بين عموم الجمهور إثر الأزمة الاقتصادية في تونس -التي تفاقمت حدتها فقط منذ اندلاع انتفاضات الربيع العربي. تحمَّل يوسف الشاهد وحزب نداء تونس الحاكم، على وجه الخصوص، وطأة الغضب السياسي والشعبي بسبب النمو الاقتصادي الخافت، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والعمالة الناقصة.
أدَّى شعور الناخبين المتزايد بخيبة الأمل في المؤسسة السياسية إلى فتح الباب أمام موجة من المرشحين المستقلين للرئاسة، من بينهم شخصيات عامة بدون أي خبرة سياسية رسمية. ومن ثمَّ، شهدت الأحزاب التونسية الكثير من الانشقاقات.
لكن حزب النهضة ظل محتفظاً بتماسكه، على عكس منافسيه المجزّأين، الأمر الذي جعله أكبر قوة سياسية في تونس. يتمتَّع الحزب بسنوات من الخبرة في العمل مع نظرائه العلمانيين ويضم التكنوقراطيين ويتبنى النهج الاقتصادي القائم على مبدأ عدم التّدخُّل، الذي يروق للناخبين الأكثر ليبرالية. ومن المرجح أنَّ يكون عبدالفتاح مورو، العضو المؤسس في حزب النهضة، أحد أقوى المرشحين في الانتخابات. لكن بالنظر إلى الموجة المناهضة للنظم المؤسسية الرسمية، التي تجتاح الساحة السياسية التونسية، قد يكون النصر حليف أحد المرشحين المستقلين، الذين أعلنوا خوض الانتخابات، من بينهم على سبيل المثال، قطب الإعلام التونسي، نبيل القروي. كان القروي أحد أبرز المتنافسين قبل اعتقاله في 23 أغسطس/آب بتهم تتعلَّق بغسيل الأموال والتهرّب الضريبي. قد يشير توقيت اعتقال القروي إلى الجهود المبذولة لإضعاف النفوذ السياسي لأي مرشحين من خارج النظام المؤسسي للدولة، وهي احتمالية قد تصبح مثار جدل بين العديد من التونسيين.
يعكس العدد غير المسبوق من المرشحين المستقلين لانتخابات الرئاسة التونسية انقضاض الوجوه الجديدة، التي تسعى إلى الفوز بمقاعد برلمانية. حتى الآن، سُجّلت 643 قائمة حزبية مستقلة للانتخابات البرلمانية (وهو ما يُمثّل زيادة كبيرة عن عام 2014، حيث خاضت السباق 414 قائمة)، مما يعكس درجة المشاركة الواسعة التي أصبح عليها السياسيون والأحزاب المستقلة في تونس ومدى تراجع الأحزاب التونسية الرسمية المُنظّمة.
المشاكل الاقتصادية المقبلة
وجود قطاع عريض من المرشحين يعني أنَّ إمكانية التنبؤ بسياسات الحكومة المقبلة في تونس ستكون أقل مما كان عليه الحال مع الحكومات السابقة، ومن المرجح أن تضم مزيداً من الأعضاء المستقلين، الذين لا يتمتّعون بخبرة كبيرة في الحكم والإدارة -مما يزيد من احتمالية تعقيد الأزمات وانعدام الكفاءة، لاسيما عند التعامل مع قضايا شائكة مثل الاقتصاد المتداعي.
تمكَّنت الاتحادات السياسية القوية من تحقيق انتصار تلو الآخر فيما يتعلق بحقوق العمال في السنوات الأخيرة –غير أنَّها ساهمت في بعض النواحي في الحد من قدرة الحكومة على تطبيق إصلاحات إقتصادية هيكلية، فضلاً عن أنَّ الطبيعة الديمقراطية للنظام التونسي تحد بالفعل من مساحة العمل المتاحة للمُشرّعين الحاليين. ومن المرجح ظهور مزيد من الأصوات والآراء في حكومة أكثر انقساماً، الأمر الذي بدوره يُضعف احتمالية نجاحها في معالجة الضائقة الاقتصادية التي فاقمت مشاعر الإحباط لدى الناخبين.
وفي حال فشلت الحكومة الجديدة في تحسين الوضع المالي في تونس، فإنَّ حزمة الإنقاذ المالية الضخمة من صندوق النقد الدولي قد تكون في خطر. قدَّم صندوق النقد الدولي حتى الآن 1.6 مليار دولار إلى تونس بموجب اتفاق وُقّع في عام 2016. لكن استمرار هذه المساعدات مشروط بمواصلة تونس لبلوغ أهداف تقليل عجز الميزانية وخفض مُخصّصات الدعم الحكومي لبعض القطاعات العامة -وهذا إنجاز صعب تحقيقه على نحوٍ استثنائي في بلد يشرك الرأي العام والاتحادات القوية في القرارات الاقتصادية الكبيرة.
الجيش والشرطة ينتظران
بالإضافة إلى زيادة المخاطر الاقتصادية على المدى القصير، قد يؤدي التمزق السياسي المستمر في تونس إلى حدوث فراغ في السلطة، مما يزيد في نهاية المطاف من الرصيد السياسي للشرطة والقوات المسلحة، لاسيما أنَّه من بين سيل الأحزاب المتنافسة على مقاعد البرلمان، قد تأسس بالفعل أول حزب سياسي في تاريخ البلاد بخلفية عسكرية تحت اسم "هلموا لتونس". لا يزال الجيش التونسي في هذه المرحلة هو الأضعف مقارنةً بجيوش دول شمال إفريقيا. لكن استمرار المخاطر الأمنية سيرغم الرئيس المقبل على إقامة علاقة مثمرة وتعاونية مع الجيش والشرطة.
في نهاية المطاف، ستكون الجولة الانتخابية المقبلة بمثابة اختبار لمدى قدرة الديمقراطية الناشئة في تونس على الصمود، والالتزام بما صيغ في دستورها، وإعادة إرساء أسس راسخة في خضم الاقتصاد المتداعي والمشهد السياسي الممزق في البلاد. لكن هذا الأمر لن يكون سهلاً، بغض النظر عمَّن سيفوز.