تهدد خطة رئيس وزراء بريطانيا الخروج دون اتفاق من الاتحاد الأوروبي أو بريكسيت دون اتفاق بفتح أبواب الجحيم مرة أخرى على الحدود بين أيرلندا وأيرلندا الشمالية، بعد أكثر من عقدين على توقيع اتفاقية السلام، فما هي قصة اتفاق الجمعة العظيمة؟ وما هي نتائج إلغائه؟ ومَن أكثر المتضررين؟
ماذا تعني الجمعة العظيمة؟
في العاشر من أبريل/نيسان عام 1998 تم توقيع اتفاق السلام الذي أنهى عقوداً من العنف والإرهاب في أيرلندا وتوافق اليوم مع ما يعرف بالجمعة العظيمة، ومن هنا جاءت تسمية الاتفاق.
أما جذور قصة العنف نفسه في جزيرة أيرلندا فتعود إلى عام 1922 عندما قامت بريطانيا بتقسيم أيرلندا إلى دولتين، واحدة هي أيرلندا الجنوبية أو أيرلندا فقط وغالبية سكانها من الكاثوليك، وتتمتع بالحكم الذاتي تحت التاج البريطاني، وأيرلندا الشمالية وغالبية السكان من البروتستانت، وفضَّل سكانها البقاء ضمن الحكم البريطاني على الانضمام لجهورية أيرلندا.
كان الشين فين هو الحزب المطالب باستقلال أيرلندا وقيام جمهورية مستقلة، وكان الجيش الجمهوري الأيرلندي يمثل قوة مسلحة حاربت الجيش الإنجليزي طويلاً، حتى تم توقيع اتفاقية 1922 التي قسمت بموجبها الجزيرة، وتمت إقامة نقاط حدودية مسلحة ظلت على مدار عقود طويلة هدفاً لهجمات القوميين الأيرلنديين.
الحدود الصلبة رمز العنف والإرهاب
تجدد العنف بصورة أقوى في العقود الثلاثة التي سبقت توقيع اتفاق السلام في 1998، وكانت الحدود الفاصلة أو الحدود الصلبة بين جمهورية أيرلندا المستقلة وأيرلندا الشمالية التابعة للمملكة المتحدة تمثل شاهداً على تلك الفترة التي عانى فيها مواطنو أيرلندا من العنف، وكانت حياتهم جحيماً حقيقياً.
صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية نشرت تقريراً مطولاً عن مخاوف الأيرلنديين من عودة "الحدود الصلبة" في أيرلندا، خصوصاً بين هؤلاء الذين عاشوا أيام الرعب، مثل باتسي دويل الذي يبلغ من العمر 63 عاماً الآن وعاش فترة شبابه يعاني وأصحابه من نقاط التفتيش البريطانية على الحدود بين شطرَي أيرلندا.
جيل السيد دويل عاش فترة ما عرف مرحلة المتاعب في أيرلندا، وكانوا يعلمون أن حياتهم في خطر في كل لحظة، وأن الذهاب للعمل أو للدراسة أو حتى الخروج للتنزه كان عملية محفوفة بالمخاطر ربما لا يعودون منها.
القوميون والاتحاديون
العنف في أيرلندا في العقود الثلاثة التي سبقت توقيع اتفاق السلام في بلفاست عام 1998 تركز بين الجيش الجمهوري الأيرلندي الباحث عن توحيد جمهورية أيرلندا واستقلالها تماماً عن بريطانيا وبين أنصار البقاء ضمن التاج البريطاني (الاتحاديين) في أيرلندا الشمالية مدعومين من بريطانيا، وقد خلَّف ذلك العنف والرعب آلاف القتلى والمصابين وجعل الحياة شبه مستحيلة في أيرلندا.
وجاء اتفاق السلام المعروف باسم اتفاق الجمعة العظيمة ليضع حداً لتلك الحقبة الدامية، وكانت أبرز بنوده تلك المتعلقة بالحدود، حيث تمت إزالة "الحدود الصلبة" من نقاط تفتيش للمواطنين والبضائع، وأصبح حامل جواز السفر الأيرلندي من حقه استخراج جواز سفر بريطاني، والعكس، وتم التوافق على أن تخضع مسألة توحيد أيرلندا في أي وقت للاستفتاء الشعبي في أيرلندا الشمالية.
كيف صوَّت الأيرلنديون على بريكسيت؟
عندما أُجري الاستفتاء على بريكسيت عام 2016، كانت الأغلبية في أيرلندا الشمالية ضد بريكسيت بنسبة أكثر من 60%، لكن بالطبع احتسبت نتيجة الاستفتاء إجمالاً داخل المملكة المتحدة (بريطانيا واسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية) وجاءت لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي بأغلبية ضئيلة.
وخلال تفاوض رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي على اتفاق بريكسيت، كان هناك توافق على حتمية الحفاظ على بنود اتفاق السلام في أيرلندا (الجمعة العظيمة)، خصوصاً ما يتعلق بمسألة الحدود الصلبة.
وتكمن أهمية هذه النقطة في أن الحدود بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا (العضو في الاتحاد الأوروبي) في أن تلك هي الحدود البرية الوحيدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومن ثَم تمَّ الاتفاق على وجود ما يعرف بالمحطة الخلفية.
ما هي المحطة الخلفية؟
المحطة الخلفية هي مصطلح يشير إلى عدم وجود حدود صلبة في أيرلندا والاستعاضة عنها بنظام (لم يتم الاتفاق عليه بعد) يحافظ على الوضع الحالي الذي يسمح بالانتقال السلس للمواطنين والبضائع دون وجود نقاط تفتيش أمنية.
وهذه النقطة هي محور الاتفاق الذي وقَّعته حكومة تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي، ولكن فشلت في حصول موافقة البرلمان عليه، ما أدى لاستقالتها ليخلفها بوريس جونسون صاحب فكرة بريكسيت وبطلها الأول بلا منازع، والآن يصر جونسون على مغادرة الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر/تشرين الأول المقبل حتى لو لم يتم التوصل لاتفاق.
حاول جونسون إعادة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي ولا يزال، لكن الاتحاد الأوروبي يرفض تماماً مسألة إعادة التفاوض، ما يعني أن الخروج دون اتفاق هو السيناريو الأرجح الآن، ويمثل هذا السيناريو كابوساً حقيقياً للأجيال الشابة في أيرلندا، حيث إن وجود حدود فاصلة في أيرلندا يفتح كل الجراح القديمة، ويهدد بالعودة لزمن العنف والإرهاب.
اندماج اقتصادي واجتماعي
من الصعب اليوم أن يلاحظ الفرد أنه عبر حدوداً من الأساس، حيث لا توجد نقاط تفتيش ولا شرطة، وهذا بالطبع على العكس تماماً مما كان عليه الوضع قبل توقيع اتفاق السلام.
حالياً، يوجد اندماج اقتصادي واجتماعي بين شطري أيرلندا وحسب تقديرات الحكومة البريطانية هناك أكثر من 110 ملايين حالة عبور بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا سنوياً، كما أن هناك أكثر من 30 ألف مواطن يعبرون الحدود بين شطري أيرلندا يومياً ذهاباً وعودة إلى أعمالهم، كما أن الخدمات الصحية والتعليمية متاحة بنفس القدر في الجهتين، وهناك أُسر تعيش في منازل على جانبي الحدود.
ومن الناحية الاقتصادية، بلغت قيمة الصادرات من أيرلندا الشمالية إلى جمهورية أيرلندا أكثر من 3.4 مليار جنيه إسترليني عام 2016 فقط.
أبواب الجحيم
قضية إعادة إقامة حدود صلبة في أيرلندا أثارت القلق حتى في واشنطن، حيث حذرت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، علانية بأن الكونغرس لن يوافق على توقيع اتفاق تجاري ثنائي بين واشنطن ولندن لو أقدمت بريطانيا على مغادرة الاتحاد الأوروبي بطريقة تعرض اتفاق الجمعة العظيمة للخطر.
وقد عبَّر السيد دويل عن تلك المخاوف لـ"وول ستريت جورنال" بالقول: "وجود حدود صلبة يمكن بسهولة أن يعيد ذلك الماضي الأليم الذي ظننا أنه انتهى منذ عشرين عاماً" .
شرطة أيرلندا الشمالية أيضاً تشعر بالقلق الشديد من نفس النقطة، وقد حذرت من أن إقامة نقاط تفتيش وجمارك على الحدود يمكن أن يحول تلك النقاط لأهداف للإرهابيين القوميين الساعين لتوحيد أيرلندا، فبينما تلاشى الجيش الجمهوري الأيرلندي عقب توقيع اتفاق الجمعة العظيمة، يوجد عدد من الجماعات المنشقة عنه ولا تزال نشطة.
جونسون في مأزق
الموقف الآن يزداد تعقيداً مع كل يوم يمر ومخاوف الأيرلنديين تزداد ومعها تتغير مواقف أولئك الذين صوَّتوا لصالح بريكسيت في استفتاء 2016، حيث تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن هناك دعماً متزايداً لفكرة إعادة توحيد أيرلندا بين الأجيال الأصغر.
وأصبح الجدل حول وحدة أيرلندا منصباً على إعادة الدخول في الاتحاد الأوروبي، كما يقول كولين هارلي، أستاذ القانون في جامعة الملكة في بلفاست لـ "وول ستريت جورنال": "أعتقد أن ذلك يمس الجيل الأصغر الذي يرى كثيراً من مزايا عضوية الاتحاد الأوروبي يختفي بسبب بريكسيت".
وعلى سبيل المثال، انضم بعض من مؤيدي بريكسيت قبل ثلاث سنوات إلى المعسكر المناهض، ومنهم آدم فلاناجان، حيث يطالبون بإجراء استفتاء آخر، خوفاً من التهديد الوجودي للاتحاد بين أيرلندا الشمالية وبريطانيا، بحسب تعبيره للصحيفة.
هذه الأمور كلها تضع جونسون في مأزق حقيقي، خصوصاً أنه اشترط إلغاء المحطة الخلفية في أيرلندا الشمالية من اتفاق الخروج قبل أن يتفاوض مع الاتحاد الأوروبي مرة أخرى، وهو ما رفضه الاتحاد الأوروبي.
وركز تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية على هذا المأزق مشبهاً موقف جونسون بموقف رئيس الوزراء الأسبق جون ميجور الذي اشترط أن يلقي الجيش الجمهوري الأيرلندي بالسلاح قبل الدخول معه في مفاوضات سلام وهو ما تم رفضه، وفي النهاية رضخت الحوكمة البريطانية وتفاوضت أولاً حتى تم توقيع اتفاق الجمعة العظيمة.
موقف جونسون الآن أكثر صعوبة، فكل المؤشرات والتقارير تقول إن بريطانيا ستواجه وضعاً صعباً للغاية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية حال الخروج دون اتفاق، لكن مسألة الحدود الصلبة في أيرلندا تعد كابوساً حقيقياً، ربما يؤدي إلى إفشال مسألة مغادرة الاتحاد الأوروبي من أساسها.