تواجه قوى اليسار في بريطانيا والولايات المتحدة تهديداً وجودياً في ظل قيادة بوريس جونسون ودونالد ترامب اللذين يمثلان التيار اليميني الشعبوي، الذي لا يمثل فقط خطراً على القيم الديمقراطية في البلدين، لكنه يمثل أيضاً تهديداً لأرواح الناس وسبل معيشتهم حول العالم، فما هي القصة؟
صحيفة الغارديان البريطانية تناولت المعضلة الأهم على الساحة الدولية حالياً، من خلال تقرير بعنوان "كيف يمكن مواجهة بوريس جونسون ودونالد ترامب؟".
تشابه شخصي وسمات كارثية
انتشر القيل والقال خلال الأيام الأخيرة حول التشابهات المُفترضة بين بوريس جونسون ودونالد ترامب. فعلى المستوى الشخصي، يُقال إنَّ كليهما ثرثاران مُتبجِّحان، وغير صادقين عادةً، وبارعان في الترويج لذاتهما التي تُعتبر الشيء الوحيد الذي يُثير اهتمامهما تقريباً. وفيما يتعلَّق بالسياسة، كلاهما شعبوي يميني يعتنق شكلاً مُدمِّراً من القومية الرجعية الحنينية الزائفة.
ويُثيرُ كلٌّ من جونسون وترامب مشاعر قوية، حتى بين مُنتقديهما. إذ وصف ماكس هاستينغز، الذي كان مدير جونسون في صحيفة "ديلي تلغراف"، جونسون بأنَّه شخصيةٌ ضعيفة وجبانة أشبه بآلان بارتريدج -شخصية خيالية- أكثر من بطله ونستون تشرشل. إذ كتب هاستينغز: "أعتقد أنَّ الوحيدين الذين يعتقدون أنَّ جونسون شخصٌ لطيف، هم الأشخاص الذين لا يعرفونه".
لكن ترامب أسوأ منه بكثير. إذ وصفه توماس فريدمان، كاتب الأعمدة الأمريكي غير العاطفي عادةً، بأنَّه "عنصريٌ، وانقسامي، وناكرٌ للتغيُّر المناخي، ووغدٌ يُسيء معاملة المرأة". وبعد أن قلَّل ترامب من شأن نائب كونغرس محلي أسود البشرة، إليجا كامينغز، أدانته صحيفة Baltimore Sun بوصفه "أكثر شخصٍ مُخادع شغل كرسي المكتب البيضاوي".
معضلات تواجه الطرف الآخر
ولم يتحدث كثيرون عن التشابهات بين الخيارات والمُعضلات التي تُواجه أولئك الموجودين على الطرف التقدُّمي الليبرالي المُقابل من الطيف السياسي في الولايات المتحدة وبريطانيا. ففي البلدين، يُواجه اليسار -المُعرَّف على نطاقٍ واسع- تحدِّياً وجودياً. والقضية الأكثر إلحاحاً بالنسبة للديمقراطيين، مع اقتراب انتخابات العالم المُقبل، هي كيفية هزيمة ترامب، وفي بريطانيا، يظل السؤال الأبرز هو كيفية تأخير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست).
ويُدرِكُ غالبية الساسة والأنصار التقدُّميين الليبراليين على جانبي الأطلنطي، أنَّه في حال عدم هزيمة ترامب وإيقاف بريكست؛ فإنَّ دولهم لن تتقدَّم إلى الأمام. إذ هيمن شبح ولاية ترامب الثانية على المناظرات الأخيرة بين مُرشَّحي الحزب الديمقراطي المتنافسين مثلاً. والأهمُّ من أي قضايا مُتعلِّقة بالسياسة هو التعرُّف إلى هوية الشخص الذي يستطيع هزيمته.
من يمكنه هزيمة ترامب؟
وما يزال الوقت مُبكِّراً، لكن استطلاعات الرأي تُشير إلى أنَّ جو بايدن، نائب الرئيس السابق باراك أوباما، هو المرشح الأوفر حظاً. فرغم أدائه غير المُقنع في المناظرات، والشكوك حول عمره (76 عاماً)، يُوصف بايدن بأنَّه نوعٌ من البراغماتيين المُعتدلين المُطمئنين المُخضرمين، والذي يستطيع اجتذاب أصوات الناخبين المحوريين في وسط أمريكا.
لكن طريقة التفكير هذه تلقى مُقاومةً شرسة في يسار الحزب، حيث يتبنى جيلٌ شابٌ نشيط من الإصلاحيين -من الأقليات والخلفيات الثقافية المُتعدِّدة- أجندةً أكثر راديكالية حيال القضايا الإشكالية مثل الرعاية الصحية الشاملة والهجرة. إذ يُزاحم المُرشَّحون المُتمردون مثل كامالا هاريس وبيت بوتجيج وبيتو أوروك، المرشَّحين المُخضرمين مثل بيرني ساندرز وإليزابيث وارن. وجميعهم يرغبون في كسر القالب، وليس إصلاحه.
مشكلة بريكسيت
ومع اقتراب احتمالية إجراء انتخاباتٍ عامة، تُواجه الأحزاب البريطانية المُناهضة صراحة لبريكست -وحزب العمال- مُعضلات مُماثلة. وفي حال كان وقف انحدار جونسون نحو كارثة الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون عقد صفقة يتطلَّب تشكيل تحالفات انتخابية بطول البلاد -وهي استراتيجيةٌ أثبتت نجاحها مع حزب "الديمقراطيين الأحرار" خلال الانتخابات التكميلية على مقعد بريكون ورادنورشير يوم الخميس، فهل يجب قبول ذلك النوع من التسويات من أجل الصالح العام؟ أم هل من الأفضل الحفاظ على النقاء الأيديولوجي والمنصات السياسية المُميَّزة، كما يُفضِّل بعض أعضاء "حزب العمال"، وهمو ما يزيد مخاطر بريكست؟
ولا شكَّ في أن ترامب يأمل أن يختار الديمقراطيون مُرشَّحاً يميل إلى اليسار، حتى يتمكَّن من تهميشه بوصفه "اشتراكياً" -وهي كلمةٌ نابية بالنسبة للجمهوريين- مُعادياً للقيم الأمريكية. وقد شرع بالفعل في توجيه سمومه العنصرية الكارهة للنساء إلى "الفرقة" -أربع نائبات إصلاحيات مُلوَّنات في الكونغرس، أخبرهن ترامب بأن "يعدن" من حيث أتين. فضلاً عن أنَّ هجومه على كامينغز في بالتيمور كان دليلاً قبيحاً آخر على أمريكا البيضاء.
وتُعَدُّ محاولات ترامب وصم التقدُّميين، الذين يسعون لخلق مجتمعٍ أكثر عدلاً وشمولاً ومُساواة، بأنَّهم مُتشدِّدون غير وطنيين مُحاولةً مألوفةً في بريطانيا. إذ لن ينأى جونسون، المُحاصَر بخطابه المُتشدِّد حول بريكست والمُطارَد من اليمين بواسطة نايجل فاراج، بنفسه عن تبنِّي سياسات ترامب التقسيمية حول الهوية والتظلُّمات في حال اعتقد أنَّها ستُساعده على النجاة.
انعدام الضمير والأخلاق
فكيف سيرُد اليسار التقدُّمي الليبرالي على تهديد الشعبوية اليمينية مُنعدمة الضمير والأخلاق، والمُتمثِّلة في حكومتي ترامب وجونسون؟ وكيف يُمكن تحييد هذا السُّمِّ الذي يسري في عروق مُجتمعاتنا؟ ولا يمكن أن تكون الإجابة مُتمثِّلةً في اندفاعٍ مذعور يُشبه اندفاع بايدن إلى أرض الوسطية الأسطورية، في حال كان ذلك يعني التخلِّي عن الأجندة الإصلاحية. فضلاً عن أنَّ ذلك لن يكون هروباً إلى شعبوية اليسار.
وكشفت نتائج الانتخابات المحلية في مايو/أيار الماضي، وانتخابات البرلمان الأوروبي، بوضوحٍ، أنَّ الناخبين طفح بهم الكيل من السياسات الحزبية المعتادة. ويرغب الناخبون الآن في زعماء عمليين قادرين على تغيير مجرى الأمور ومُعالجة القضايا الحيوية مثل: عدم المساواة في الدخل، والرعاية الصحية، والتعليم، والبنية التحتية، وأزمة المناخ. إذ بدأت الولاءات القبلية في الذوبان. وظهرت الحاجة لوجود تفكيرٍ غير حزبي راديكالي جديد.
وتُهدِّد الشعبوية اليمينية في بريطانيا والولايات المتحدة أرواح الناس وسُبل عيشهم، في حين يُمكن أن تُهدِّد فكرة الديمقراطية نفسها في أماكن أخرى. ومن أجل هزيمتها، ومقاومة صعود السلطوية على المستوى العالمي، يجب أن يُوحِّد الليبراليون والتقدُّميون من الأطياف كافةً قواهم حول برنامجٍ إصلاحي. وفي بريطانيا، هذا يعني التفكير في إقامة تحالفات انتخابية وبرلمانية من الراغبين، تُركِّز في المقام الأول على تبديد كابوس بريكست.