هل تخرج إيران من الأزمة الحالية أكثر قوة؟ فتِّش عن دروس الماضي القريب في طهران

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2019/08/13 الساعة 14:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/08/14 الساعة 08:46 بتوقيت غرينتش
إيران قررت الاعتماد على نفسها عسكريا /رويترز

الأزمة الحالية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية لا تتحكم فيها عناصر التوتر التي تولدت عن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، بل تسيطر عليها أيضاً دروس الأحداث الهامة على مدى العقود السبعة الماضية، كيف ذلك؟ وما هي تلك الأحداث؟ وكيف يمكن أن تسهم في مستقبل الأزمة الحالية؟

موقع لوب لوغ الأمريكي نشر تحليلاً يجيب على تلك التساؤلات تحت عنوان: "كيف يُشكِّل التاريخ التفكير الاستراتيجي: الحالة الإيرانية،" سرد فيه أبرز الأحداث التي لعبت دوراً في تغيير الفكر الاستراتيجي لدى الجمهورية الإسلامية.

الخبرات التاريخية والسلوك الحالي

يكاد يكون من المُستحيل الفصل بين سلوكيات الأطراف الدولية وبين خبراتها التاريخية. ومن هذا المنطلق، لا ينتمي التاريخ إلى الماضي، بل المستقبل. إذ إنَّه بوصلةٌ تُساعد في توقُّع اتجاهات السياسة المستقبلية التي يُنتظر من الدول تبنِّيها. وفي هذا السياق، هناك ثلاثة أحداث شكَّلت التفكير الاستراتيجي الإيراني خلال السنوات السبعين الأخيرة، وستُواصل تشكيل سلوك السياسة الخارجية لإيران في المستقبل القريب. ورغم رغبتهم، فلا يستطيع صُنَّاع القرار الإيرانيون، بغض النظر عن معتقداتهم السياسية أو نظرتهم للعالم، تجنُّب ثِقل تلك الأحداث الكبرى الثلاثة. وستكون غالبية القرارات الدولية الحالية والمستقبلية لإيران، وتبعاتها، مرتبطةً ارتباطاً مباشراً بتلك الأحداث الثلاثة، رغم أن تأثير أحدها ما يزال لم يتكشَّف بعد.

الانقلاب على حكومة مصدق

والحدث الأول هو فشل الحركة الدستورية داخل إيران في أعقاب انقلاب عام 1953 الذي دبَّرته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والذي أطاح بالحكومة الشعبية لمحمد مصدق بسبب دوره في تأميم صناعة النفط الإيرانية. وأدَّى الانقلاب إلى عودة الديكتاتورية في البلاد لمدة 25 عاماً أخرى، مما رسَّخ أعمق مشاعر الكراهية تُجاه الاستعمار في العقلية الإيرانية. ولن يكون بُعداً عن الحقيقة أن نُجادل بأن بذور الثورة الإسلامية عام 1979، زُرِعَت مباشرةً بعد الانقلاب. وربما لم يكُن ونستون تشرشل نفسه يُدرك حجم الضرر الذي لا يُنسى، والذي أحدثه في صورة الإيرانيين عن الغرب، إبان همسه لدوايت أيزنهاور بشأن التهديد الكاذب المبالغ فيه للشيوعية في إيران.

وسبب هذا الطيش ربما كان حقيقة أن البريطانيين كان لهم بالفعل تاريخٌ من إدارة الانقلابات الناجحة في إيران. لكن الإيرانيين لم تتملَّكهم مشاعر قوية حين أطاح انقلاب عام 1921، بتحريضٍ بريطاني، أحمد شاه قاجار، الذي كان مُوالياً لمبادئ الدستورية بخلاف أسلافه. إذ أطاح هذا الانقلاب بسلالةٍ ملكية كاملة من تاريخ إيران، لكنه لم يكُن قصة النجاح البريطانية الوحيدة في القرن العشرين. وفي سبتمبر/أيلول عام 1941، تدخَّلت بريطانيا، مدعومةً من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، مرةً أخرى وأطاحت في نهج تدخلي رضا شاه، وهو الملك  نفسه الذي أتوا به إلى السلطة عام 1921. وطردوه من إيران في خزيٍ مُطلق.

كراهية الغرب

وبعكس انقلابات عام 1921 و1941، شعر الإيرانيون عام 1953 وكأنَّ تطلُّعاتهم الديمقراطية هُزِمَت بسبب تدخُّلٍ خارجي. لدرجة أن الساسة الدينيين، الذين لا يُظهِرون ارتباطاً بالقوميين أو القومية علناً على الأقل، ينقلون عادةً هذا الجزء المرير من تاريخ إيران في القرن العشرين إلى مؤيديهم. وما يزال الغضب من الانقلاب يرسخ بثقله على العقلية الإيرانية. ومن العدالة التأكيد على أن الغضب من انقلاب 1953 وفَّر الدافع اللازم، في أعقاب ثورة 1979، لتشكيل قوات الحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني واحتلال السفارة الأمريكية. وكانت تلك التدابير بمثابة خطواتٍ رجعية للحيلولة دون تكرار ما حدث عام 1953. ويبدو أن الانقلاب كان حدثاً تاريخياً لم يستطِع الإيرانيون نسيانه، ولن يُسامحوا مُرتكبيه.

حرب العراق والعزلة المطلقة

أما الحدث الثاني، فهو حرب الثمانِ سنوات بين إيران والعراق خلال الثمانينيات. إذ فرِض هذه الحرب على إيران واحدٌ من أقسى الديكتاتوريين في العالم، الزعيم العراقي صدام حسين، الذي تمتَّع بدعم العالم أجمع، بدايةً من الاتحاد السوفيتي ووصولاً إلى الولايات المتحدة وأوروبا، في منعطفٍ استثنائي للأحداث وسط بيئة الحرب الباردة. وعلى الجانب الآخر، وجدت إيران، التي لم تكُن قد تعافت بعد من الاضطرابات التي أعقبت ثورة عام 1979، نفسها معزولةً وتخوض حرباً متكاملة الأركان. وكانت عزلة إيران التاريخية في تلك الحرب عميقة. إذ عنى عجزها عن توفير أدواتٍ دفاعية بدائية أنَّها لم تستطع حماية مدنييها وجنودها. ويُقال إنَّ إيران كانت تُعاني مُشكلةً حتى في شراء الأسلاك الشائكة. وحين تغاضى العالم عن استخدام صدام للأسلحة الكيماوية المحظورة ضد الإيرانيين، وحين أسقطت البحرية الأمريكية طائرة ركابٍ مدنية تحمل 290 راكباً على متنها دون رحمة؛ تعلَّم الإيرانيون الدرس. وأدرك الساسة الإيرانيون أن البلاد يجب أن تدعم نفسها بنفسها، من أجل سلامتها.

وكانت الحاجة إلى تعزيز قدرات إيران العسكرية أولويةً بالنسبة لكبار صُنَّاع القرار قبل ثورة عام 1979. لكن شاه إيران كان يرى أن تحقيق ذلك مُمكنٌ بالاعتماد الكامل على الولايات المتحدة. وعلى غرار غيره من الطغاة، لم تكُن لديه شهيةٌ للاستماع إلى الأصوات المُعارضة، لكن كثيرين شاركوه وجهة نظره القائلة بأن الإيرانيين ليسوا قادرين على حماية البلاد في مُواجهة الغزو السوفيتي والعراقي، وأن إيران ليس أمامها خيارٌ سوى شراء أمنها من الولايات المتحدة وربما أوروبا. لكن عزلة إيران في حقبة ما بعد الثورة، دفعت بها إلى قرارٍ استراتيجي غيَّر الحقائق الأمنية في منطقة الخليج والشرق الأوسط بأكمله.

وأضحى أي اعتداءٍ مُحتملٍ على إيران أمراً مُكلِّفاً للغاية نتيجة تركيز طهران على تطوير قدراتها المحلية، وإنتاج أدواتٍ دفاعية زهيدة التكلفة وبسيطة الصنع (مثل الزوارق السريعة، والطائرات بدون طيار، والصواريخ، وقدرات الحرب الإلكترونية) لمواجهة المعدات العسكرية شديدة التطوُّر وغالية الثمن، والأهم هو تطويرها لقدرةٍ فعالة غير متكافئة في كافة أنحاء الشرق الأوسط. وبعكس الثمانينيات، يجب على أي "صدام" آخر في دول الجوار أن يُفكِّر مرتين قبل أن يحلُم حتى بالدخول في صراعٍ عسكري مع إيران. وفي الواقع، يُعَدُّ هذا التحوُّل الاستراتيجي في بيئة الأمن الإقليمي مصدراً لغضب الولايات المتحدة، وإسرائيل، وبعض الحكام العرب. وهذا يُفسِّر إلى حدٍ كبير الدافع وراء حملاتهم المُوسَّعة لإثارة الرهاب من إيران.

اخدم نفسك بنفسك

وبخلاف الحرب الإيرانية-العراقية، أدت الأحداث الكُبرى الأخرى على مدار العقود الأربعة الماضية إلى تعزيز التفكير الاستراتيجي لدى الإيرانيين في ما يتعلَّق بالطريقة التي يجب أن تُدافع بها البلاد عن نفسها. وكانت الهجمة الاستباقية الإسرائيلية عام 1981 على مفاعل تموز العراقي وتدميره بالكامل، التي نظر إليها العالم أجمع بوصفها دليلاً على قوة إسرائيل وليس عدوانها، بمثابة درسٍ قوي للإيرانيين. لكن الحروب التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية كانت الأكثر إفادة. إذ دمَّر الغرب بقيادة الولايات المتحدة أفغانستان، والعراق، وليبيا في غضون سنوات قليلة، بناءً على ذرائع زائفة وخاطئة. ثم أتى دور سوريا في الدمار. وكان هناك شيءٌ واحد مشترك في جميع تلك الحالات: لم تُطوِّر الدول المُستهدفة أي وسائل دفاعٍ فعَّالة ضد العدوان الغربي، فانهارت حتمياً. وكانت سوريا هي الاستثناء الوحيد، بفضل القدرات الدفاعية التي حصلت عليها من إيران.

إيران طهران أمريكا
زوارق حربية إيرانية/رويترز

وفتحت كافة تلك الاحتمالات عيون الإيرانيين على الواقع. إذ تكرَّرت الدروس المستفادة من الحرب مع العراق مراراً وتكراراً طوال تلك السنوات، مما جعل الإيرانيين أكثر عزماً على حماية بلادهم ضد غطرسة وجشع الغرب. وأدرك الإيرانيون أنَّ الحكومات الغربية لا تتعامل مع الدول الأضعف بالجدية الكافية لدرجة التفاوض معهم. وربما غفر الإيرانيون للمُتسبِّبين في الحرب الإيرانية العراقية، لكنهم لم ينسوا دروسها المفيدة.

دروس الاتفاق النووي

وفي الآونة الأخيرة، وقع الحدث التاريخي الثالث: إتمام الاتفاق النووي عام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة)، وانسحاب الولايات المتحدة من ذلك الاتفاق عام 2018. ورغم أن تداعيات هذا الحدث ما تزال تتشكَّل، لكن يبدو أنَّه من الآمن افتراض أنَّها ستترك أثراً طويلاً وعميقاً -بالقدر نفسه للحدثين الآخرين- على التفكير الاستراتيجي للإيرانيين. وربما على غرار تشرشل في الخمسينيات، لم يمتلك دونالد ترامب ودائرته الداخلية فهماً كبيراً للندوب التي خلَّفها انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق داخل عقلية الإيرانيين. إذ دخلت إيران بصدق في عملية مفاوضات مُكثَّفة، وقدَّمت تنازلات كبيرة لإثبات أنَّ برنامجها النووي سلميٌ فقط. ومن أجل تخفيف العقوبات الدولية، أوفى الإيرانيون بموجب الاتفاق بالتزاماتهم في الوقت المُحدَّد، وبأمانةٍ، وبدون أعذار. وأكَّدت "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، بصفتها هيئة الرقابة الرسمية في الاتفاق، في تقريرٍ تلو الآخر على امتثال إيران الكامل. وفي المقابل، كانت تصرفات الأطراف الأخرى المتعلقة بالصفقة ميؤوساً منها في الأساس. إذ لجأوا أثناء المفاوضات إلى لعبة الشرطي الجيد والشرطي السيء مراراً وتكراراً. وواصلت الولايات المتحدة أثناء خوضها مفاوضات فرض عقوبات جديدة لأسباب غير نووية، مما ألقى بظلال عدم الأمان على طاولة المفاوضات. واستمروا على المنوال نفسه في أعقاب إبرام الصفقة، وحتى وصول ترامب إلى المكتب البيضاوي.

واستغلَّ دُعاة الحرب المُتشدِّدون في إدارة ترامب، وجماعات الضغط التي تُعاني من رهاب إيران، عداءه الشخصي مع الرئيس السابق باراك أوباما وأقنعوه بإلغاء الصفقة -التي عُقِدَت بشق الأنفس- بجرة قلمٍ واحدة. وبدلاً من تقدير الإيرانيين على مرونتهم ووفائهم بوعودهم، استهدفت إدارة ترامب شعب إيران بأقسى العقوبات التي يُمكن فرضها، وهي العقوبات التي وُصِفَت بأنَّها "إرهابٌ اقتصادي". وكان هدف "حملة الاستسلام أو الحرب"، التي أدارتها الولايات المتحدة ضد إيران والإيرانيين، واضحاً للغاية: تغيير النظام في طهران، أو الأفضل طمس الاقتصاد الإيراني والقضاء عليها بوصفها دولة. وفي الوقت ذاته، اختارت بقية أطراف الصفقة إضاعة الوقت وتهديد إيران، بدلاً من الوفاء بالتزاماتها بموجب "خطة العمل الشاملة المشتركة" وقرار مجلس الأمن التابع رقم 2231.

وفي الواقع، لا تُمثِّل "خطة العمل الشاملة المشتركة" صفقةً إيرانية في حد ذاتها. ولا تنتمي إلى إيران. وبعد تطبيقها بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2231، فإنَّ تنفيذها إلزامي على جميع الدول الأعضاء في المجتمع الدولي. إذ تُعَدُّ اتفاقيةً أمنية دولية في شكل نصٍ مُتقدِّم لمنع انتشار الأسلحة النووية، وتُمثِّل إنجازاً بارزاً لتعدُّدية الأطراف في مجال السلام والأمن الدوليين، وهو حلٌ مُربح لجميع الأطراف المعنية. وكان من الممكن تكرارها في أماكن أخرى بوصفها نموذجاً موثوقاً لمنع انتشار الأسلحة النووية. لكن ما حدث فعلياً كان حزيناً، لكنه مُفيد؛ حزيناً للسلام الدولي ومُفيداً للإيرانيين.

وأعادت طريقة تعامل الولايات المتحدة مع "خطة العمل الشاملة المشتركة" دروس العقود السبعة الماضية إلى أذهان الإيرانيين. إذ كانوا يعلمون بالفعل أن الأطراف القوية لديها رغبةٌ مقيتة في التدخُّل في الشؤون الداخلية للبلدان الأضعف، وهزيمة حركاتها الديمقراطية القومية والبلدية. وتعلَّم الإيرانيون أيضاً الدرس الذي ينُص على أنه من أجل تحدِّي ذلك التدخُّل مُستقبلاً، فلا خيار أمامهم سوى الاعتماد على قدراتهم الدفاعية الخاصة. ولم يتضح بعد ما يعنيه مزيج تلك الدروس التاريخية الثلاثة بالنسبة لمستقبل إيران، والشرق الأوسط، وبقية العالم. لكن الحقيقة المرة هي أن تعدُّدية الأطراف قد تغلَّب عليها الإكراه أُحادي الجانب من دولةٍ واحدة، في حين أن الرضا الذي أبدته الدول الأخرى سيعلق لوقتٍ طويل في العقلية الاستراتيجية الإيرانية. ومرةً أخرى، تعلَّم الإيرانيون الدرس.

تحميل المزيد